fbpx
الشرق الأوسطتحليلات

احتمالات التصادم الأمريكي الإيراني في العراق

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تصاعدت في الأشهر الأخيرة حدة المطالبات من السياسيين العراقيين المقربين إلى النظام الإيراني، بوجوب خروج القوات الامريكية من العراق، بالأخص بعد أن وصل الكثير من السياسيين المحسوبين على فصائل الحشد الشعبي ذو الولاء الإيراني إلى البرلمان العراقي، في موقف يتوافق مع السياسة الإيرانية التي تريد الرد على العقوبات الامريكية التي دخلت حيز التنفيذ في 5/11/2018، بالمقابل الولايات المتحدة الامريكية بإدارتها الجديدة تريد تحجيم النفوذ الإيراني بالعراق، الامر الذي جعلها تزيد من ضغوطها على الجانب الإيراني باتخاذ العديد من الإجراءات التي استهدفت فيها أذرع إيران السياسية والمليشياوية في العراق، كوضع بعض فصائل الحشد وقادتها على قوائم الإرهاب، وفرض عقوبات عليهم. الأمر الذي ينذر بمواجهة محتملة بين الجانبين المتنافسين في الساحة العراقية.فهل أمكانية وقوع مثل هذا التصادم حقيقية، أم إنها فقط أوراق ضغط يمارسها كل طرف على الاخر؟ هذا ما سنتناوله في هذا التقدير.

ميزان القوة بين أمريكا وإيران في العراق

يتباين حجم تواجد القوتين المتنافستين الإيرانية والأمريكية في الساحة العراقية، من حيث العدد والنوعية، ومن حيث مشروعيتها القانونية، فإذا ما نظرنا إلى القوات المحسوبة على إيران، نجد أن تواجدها العسكري بصورة غير مباشرة بالعراق، حيث تمتلك إيران عشرات الالوف من القوات المسلحة التابعة لها وبمسميات الحشد الشعبي.

والحشد الشعبي هو تنظيم عسكري يضم كل المليشيات التي أشرفت إيران على تأسيسها، سواء قبل احتلال العراق أو بعده، وتتميز هذه القوات بالولاء المطلق للنظام الإيراني، ومرتبطة بشكل أو بآخر بفيلق القدس الإيراني، الذراع الخارجية للحرس الثوري الإيراني. وبالرغم من أن البرلمان العراقي قد شرع قانوناً لها وجعلها هيئة عسكرية مرتبطة برئيس الوزراء العراقي، إلا إن إيران لديها القدرة على التحكم بتلك المليشيات، ناهيك عن التحكم بطيف واسع من السياسيين العراقيين المشاركين بالعملية السياسية الجارية بالعراق، سواء كانوا من الشيعة أو السنَّة أو حتى من الكرد، ويوفر لها هذا التحكم، القدرة على استصدار القرارات التي تريدها والتي تتوافق مع رؤيتها لمستقبل العراق، بالإضافة إلى أن هؤلاء السياسيون يوفرون الشرعية لاستمرار نفوذها في العراق، سواءً كان نفوذًا سياسيًا أو عسكريًا.

أما فيما يخص الجانب الأمريكي وتواجده في العراق، فإن عدد قواته يحيطه الكتمان والسرية من قبل الساسة الامريكيين، وهم لا يصرحون علانيةً إلا عن عدد قليل من تلك القوات، لا يتجاوز الخمسة آلاف جندي أمريكي، بينما يبالغ الساسة وقادة المليشيات المرتبطين بإيران، بتقدير أعدادهم، ليصلوا بهم إلى أكثر من 22 ألف جندي، موزعين على ثمان قواعد عسكرية معلنة، وعدد آخر من القواعد العسكرية غير المعلنة. لكن من المؤكد ان عدد أفراد تلك القوات يتراوح بين ذلك الرقمين.[1]

تتميز القوات الامريكية المتواجدة في العراق، بأسلحتها الحديثة وغطاء قوي من الطيران المروحي، ناهيك عن الغطاء الجوي الذي توفره حاملات الطائرات المنتشرة في الخليج العربي والبحر المتوسط، بالإضافة للقاعدة الجوية في تركيا وبعض المدن الخليجية.

التصريحات والإجراءات المتبادلة

شهدت الأشهر الأخيرة بعد انتهاء المعارك مع تنظيم الدولة “داعش”، تصريحات لكثير من قادة مليشيات الحشد الشعبي، بالإضافة إلى تصريحات عدد من قادة الكتل السياسية المقربة لإيران، التي تميزت بصراحتها حينما طالبت بضرورة انهاء التواجد الأمريكي في العراق، ووصل بعض النواب إلى درجة التحضير لمشروع قانون يُقدم للبرلمان العراقي، ينص على خروج كل القوات الأجنبية من العراق بضمنها القوات الامريكية، وإلغاء الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة الامريكية، والتي انسحبت بموجبها القوات الأمريكية من العراق عام 2011.

كما نددت الخارجية العراقية أكثر من مرة، ببيانات صادرة من السفارة الامريكية في بغداد، تصف الحشد الشعبي بـ”مليشيات طائفية” وتدعو لحلها.[2] وساهمت إيران أيضًا بالضغط على الحكومة العراقية السابقة بجعل تخصيصات مالية كبيرة لقوات الحشد الشعبي لتعزيز قدرته القتالية، ولم تلغي الحكومة الناقصة الحالية برئاسة عادل عبد المهدي تلك التخصيصات التي وصلت قيمتها ما يفوق تخصيصات الجيش العراقي نفسه وبكل صنوفه القتالية. هذا الامر جعل تذمرًا يسود أوساط المنتسبين للجيش العراقي.‏

بالمقابل قامت الإدارة الامريكية بسلسلة من الإجراءات التي استهدفت النفوذ الإيراني في العراق، فقد قامت بتصنيف عدد من المليشيات المنضوية بالحشد الشعبي كمنظمات إرهابية، وبعض قادة تلك المليشيات كمطلوبين للولايات المتحدة، كما أنها لم تستثن العراق من العقوبات الامريكية على إيران، سوى في موضوع استيراد الغاز الذي يدخل في موضوع تشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية ولمدة محدودة. والعراق غير قادر على إيجاد بدائل سريعة لهذا الغاز، وبدأت الولايات المتحدة الأمريكية ممارسة الضغط على حكومة عادل عبد المهدي من ‏خلال فرض شرط حل مليشيا الحشد الشعبي لكي تستثني العراق من تطبيق العقوبات ‏الإيرانية، مما جعل منظمة “بدر” التي يتزعمها هادي العامري، للرد بقوة على تصريح ‏‏الخارجية الأمريكية.‏ الامر الذي جعل رئيس الوزراء العراقي الجديد “عادل عبد المهدي” يقول إن العراق غير ملزم باحترام العقوبات الامريكية على إيران لأنها تضر بالمصالح العراقية.[3]

لم تقف إيران ساكتة على الضغوط الامريكية، وحاولت أن تتحداها من خلال الاتفاق مع القيادة العراقية على انشاء العديد من المشاريع الاقتصادية التي تخفف من وطأة تلك العقوبات عليها. فقامت بالاتفاق مع العراق على انشاء مناطق تجارة حرة عديدة على الحدود بين البلدين، وقامت بزيادة صادراتها إلى العراق، لتصل إلى 20 مليار دولار، في الوقت الذي تبلغ حاليًا 12 مليار دولار، وأوعزت لكل من يرتبط بها من سياسيين وقادة مليشيات، إلى تصعيد لغة التصريحات ضد التواجد الإيراني في العراق، وإحراجها من خلال مشاريع البرلمانيين التي تقدم لإصدار قرار ملزم بخروج القوات الامريكية من العراق، والذي يعني اذا ما تم تشريع مثل هكذا قوانين، أن تواجد القوات الامريكية سيكون غير شرعي، على عكس التواجد الإيراني الذي هو واقع حال من خلال مليشيا الحشد والساسة في العملية السياسية.

والتنافس بين الجانبين لم يقتصر على الجانب السياسي والاقتصادي، إنما تطور إلى التحركات العسكرية، فقد بدأت القوات الامريكية بإعادة انتشارها في صحراء الانبار المحاذية للحدود السورية في محاولة منها لقطع الطريق على المليشيات من التواصل مع مثيلاتها في سوريا ولبنان، كما بدأت بالاستيلاء على مطارات وقواعد عسكرية قديمة عائدة للجيش العراقي السابق، بالإضافة إلى جمع الاحداثيات عن مقرات المليشيات التابعة للحشد في بغداد، وغيرها من المناطق بالعراق.

الفشل السياسي وبدء الحرب

تعاني العملية السياسية في العراق من عقم كبير وانسداد الأفق، ومن غير المؤمل أن تنفرج قريبًا، ويعود ذلك بسبب التنافس المستحكم بين أهم كتلتين سياسيتين شيعيتين، هما كتلتي “الاصلاح” بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر، وكتلة “البناء” بقيادة هادي العامري، واللتان تتبنيان وجهتي نظر مختلفتين بشدة.[4]

الكتلة الأولى لا تريد ان يرتهن القرار العراقي بيد إيران (حسب ما تدعي)، في حال ما آلت الأمور بالعراق لأن تكون بيد الكتلة الثانية بقيادة هادي العامري والتي تمثل الخط الإيراني في العراق، بينما تتهم الكتلة الثانية بأن كتلة “الإصلاح” تعمد للتقارب من محور الولايات المتحدة والسعودية. وشكلت الوزارات الأمنية المتمثلة بوزارة الداخلية ووزارة الدفاع، إحدى أهم نقاط الخلاف الكبيرة بين الكتلتين. وعلى الرغم من أن مقتدى الصدر كان لفترة طويلة ضمن المحور الشيعي الموالي لإيران، إلا أنه وبسبب تنافسه مع باقي الكتل الشيعية، ارتأى أن يخطَّ له طريقًا مغايرًا، بالضد من إيران، حتى أن كثير من المراقبين، يعتبرونه الآن من المقربين من المحور الأمريكي السعودي، لكن لا توجد أدلة كافية لصحة هذا الرأي.

من ناحيتها بدأت كتلة الإصلاح تعلن بشكل صريح عن ارتباط قرار كتلة البناء بالإرادة الإيرانية، واستحكم الخلاف بينهما، حتى وصلت التهديدات إلى النزول إلى الشارع لحسم خلافاتهما، وبدأت عمليات الاغتيال المتبادلة بين المليشيات التابعة للكتلتين في مناطق عديدة من العاصمة بغداد. ولا يستبعد أن الخلاف على تشكيل الحكومة إذا ما استمر على هذا المنوال، يمكن أن يتأجج الصراع بين الكتلتين وتتفجر عسكرياً بينهما، لا سيما وأن الطرفين يمتلكان مليشيات مسلحة ومجهزة جيدًا بالإضافة إلى ولاء بعض وحدات الجيش لإحدى تلك الكتلتين.

والولايات المتحدة وإيران لن يقفا دون دعم أطراف هذا الصراع الكبير، وستدعم كل دولة مواليها بالساحة العراقية، وسيعتمد الامريكيون على قواتهم العسكرية لتقديم الدعم للمقربين لهم، وهم بهذه الحالة مقتدى الصدر ومن حوله، بينما ستدعم إيران مليشيات الحشد ومن يتحالف معها.

الوصول لنقاط مشتركة:

إن احتمالية توصل الولايات المتحدة والنظام الإيراني إلى نقاط وسط مشتركة، هي احتمالية ممكنة، لا سيما وان كثير من الإشكالات الكبيرة التي حدثت بالعراق بغد 2003، استطاع الجانبين حلها باتفاقيات بين الطرفين ليستمر نفوذ كليهما بالعراق، لكن مع ذلك كانت تلك الاتفاقيات في الغالب تصب بالمصلحة الإيرانية في النهاية. لكن الإدارة الامريكية الجديدة يبدو انها عازمة هذه المرة على التعامل بطريقة مختلفة، وتصريحات مسؤوليها تبدو عليها الجدية في محاولاتها لتقليص النفوذ الإيراني في العراق، ومن الممكن جدًا ألا يكون هناك حظٍ لمثل هذه التسويات بين الجانبين في الفترة المقبلة، واحتمالية التصادم بين الجانبين تبقى كبيرة في الأشهر القليلة القادمة.

لكن على الرغم من الجدية الواضحة لإدارة ترامب، عُرف عن هذا الرجل الابتعاد عن المواجهة بشكل مباشر، كون إن تلك المواجهات لا فائدة مادية ترجى منها، كما تعوَّد ترامب في تعاملاته مع دول الشرق الأوسط، وبالتالي فإن من المحتمل أن يلجأ ترامب إلى خطط أخرى بديلة، تجعله يستمر بمحاولاته بتقليص النفوذ الإيراني في العراق، لكن دون الدخول في مواجهة مباشرة مع النظام الإيراني، وتبقى الحروب بالوكالة هي الخيار الأمثل المطروح لكلا الجانبين الأمريكي والإيراني، فمن جانب الإيرانيين هم يعدون العدة لذلك من خلال الاستفادة من المليشيات الموالية لها في العراق، أما الامريكيون فإن المتوقع منهم أن يساعدوا المليشيات المنافسة لمليشيات إيران، والمقصود بها هنا، مليشيات التيار الصدري المعروفة بـ”سرايا السلام”، وهي مليشيا مسلحة بشكل جيد ولديها أعداد كبيرة من المقاتلين، وقادرة على التصدي للمليشيات الإيرانية، وللأمريكيين خيارات إضافية أخرى، مثل بعض وحدات الجيش التي أشرفت على تأسيسها وتدريبها مثل جهاز مكافحة الإرهاب.

مليشيا “سرايا السلام” ومليشيات الحشد الشعبي، ربما حققت حتى الآن توازنًا للقوى فيما بينهما، ولكن حينما يشتعل فتيل الحرب الاهلية الشيعية – الشيعية، ربما يحدث خلل بهذا التوازن لصالح أحد الطرفين، يعتمد ذلك على مستوى الدعم العسكري والمالي والسياسي لكلا الطرفين المتحاربين.

السيناريوهات المتوقعة للفترة المقبلة

من هذا كله تبرز لنا سيناريوهات متوقعة لاحتمالات تطور الاحداث بالساحة العراقية، منها السيناريو الأول الذي يتحدث عن، حالة فشل للحكومة العراقية الجديدة بقيادة عادل عبد المهدي من إكمال فترتها الوزارية بسبب التنافس الموجود بين الكتلتين الشيعيتين الكبيرتين، فإن الأمور سوف تتجه إلى تشكيل حكومة طوارئ بقيادة عادل عبد المهدي وفرض قانون طوارئ لمدة ستة أشهر أو سنة لمحاولة ترتيب الأوضاع السياسية، من خلال العودة إلى تحديد الكتلة الأكبر في البرلمان، والتي ستكون هي المسؤولة عن ترشيح رئيس الوزراء القادم لتشكيل الحكومة، ونظرًا للتجربة الفاشلة التي خاضها السياسيون في الوصول للكتلة الأكبر فيما سبق، وذلك قبل الاتفاق على المرشح التوافقي عادل عبد المهدي، فإن المتوقع أن يفشل النواب في الوصول لتحديد الكتلة الأكبر، وهذا ما سيجعل كل فريق يتقوى على الفريق الثاني من خلال اتباعه بالشارع الشيعي، وهذا سوف يجرنا بشكل لا يقبل الشك إلى المواجهات العسكرية بين المليشيات المختلفة. وتنتقل الحالة العراقية من الوضع الحالي إلى وضع مشابه لوضع الصومال أو لبنان إبان الحرب الاهلية في كلا البلدين، وهذه الحرب الأهلية سيكون مرشح لها الاستمرار لسنوات عديدة تجعل العراق بلدًا فاشلا بامتياز يعاني شعبه على كل الأصعدة.

السيناريو الثاني والمرشح بقوة للحدوث، هو أن الفشل في إكمال الفترة الوزارية لحكومة عادل عبد المهدي، ومن ثم فشل البرلمان في تشكيل كتلة سياسية كبرى قادرة على تشكيل حكومة جديدة، سيقود الأمر إلى استغلال إحدى الدولتين، إيران أو الولايات المتحدة، لدعم انقلاب عسكري مدعوم من أحداها، يعقبها إعلان حالة الطوارئ وتعطيل العمل بالدستور بغية ترتيب العملية السياسية لمرحلة جديدة تتوافق مع البلد الذي دعم ذلك الانقلاب، وهذا السيناريو من المتوقع أن تكون الولايات المتحدة تفكر به بجدية بعد أن فقدت الكثير من الخيارات في الشأن العراقي. وبالتأكيد فإن هذه الخطوات لا تمر بشكل سهل دون إراقة الكثير من الدماء للطرفين.

يبقى السيناريو الثالث الذي هو أقل حظًا بالحدوث، وهو وصول الكُتل المتنافسة حاليًا إلى صيغة سياسية توافقية، يتم خلالها تقديم تنازلات بعضهم لبعض بخصوص الوزرات المتبقية من حكومة عادل عبد المهدي، والمضي بهذه العملية السياسية على علَّاتها لأربع سنين أخرى، لكن تبقى مشكلة العقوبات الامريكية على إيران وكيف ستتعامل معها الحكومة العراقية، والتي ربما ستفتح تحديات كبيرة أمامها مع الولايات المتحدة[5].


الهامش
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close