fbpx
الشرق الأوسطدراسات

المؤمن الصادق في الثورة السورية

تطبيق أفكار إيريك هوفر حول طبيعة الحركات الجماهيرية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

عايشنا سنوات الثورة وتحولاتها وتفاعلاتها وظواهرها لحظة بلحظة إلى حين كتابة هذه الورقات، حقيقة ليس كل من خاض غمار الثورة السورية كان على اطلاع واسع على تفاصيل الثورات الأخرى أو خلاصات كل منها، ناهيك عن الاطلاع على خلاصات عامة ناتجة عن نظرة إجمالية لمجمل الثورات وليس لكل منها على حده.

وإن عدم اطلاع الكثيرين على المراحل والظواهر التي مرت بها المجتمعات الأخرى لدى سلوكها سبيل التغيير الجذري سواء عبر السلم أو الحرب، جعلهم غير قادرين على تفهم أو تحليل مظاهر كثيرة فوجئنا بها خلال هذه السنوات، بل ثمة في كثير من الأحيان جلد للذات زائد عن حده، بسبب عوارض مررنا بها خلال الثورة، ظن البعض أنها خاصة بالثورة السورية أو بالشعب السوري، في حين أننا ولدى استعراضنا لما عايشته الجماهير في مجتمعات أخرى لدى بحثها عن التغيير كما هو شأن الشعب السوري فسنجد ظواهر مشابهة، بغض النظر حتى عن اختلاف الدين بين مجتمع وآخر فيما لو ركزنا على عامل الدين الإسلامي في الحالة السورية.

ما أسلفته من أفكار؛ كثيراً ما كان يراودني التفكير بها خلال سنوات الغوطة الشرقية محاولاً البحث فيما هو مشترك بين حالة الثورة السورية والثورات الأخرى وما هو المختلف.

بعد التهجير القسري؛ وذات يوم خلال ورشة عمل بحثية؛ يسرد أحد المشاركين وهو الدكتور نادر الصنوفي الكلام عن كتاب المؤمن الصادق أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية؛ وأنه كتاب يتكلم عن الحالة الجماهيرية خلال الثورات من منظور عام.

بعد هذه الورشة سرعان ما عكفت على قراءة هذا الكتاب، وكنت كلما تقدمت في القراءة ازددت شغفا به ودهشة بمضمونه لكثرة ما وجدت ضمنه من استعراض لظواهر وسلوكيات فردية أو جماهيرية تتطابق تماما أو نسبيا مع الحالة السورية، إلى حد يخفف عنا عبء الجلد الزائد عن حده للذات ويفسر لنا الكثير مما عايشناه.

لكن ومن ناحية أخرى فقد وجدت الكاتب إيرك هوفر وفي كثير من الأحيان قد اقتصر فيما يناقشه على النظر من زوايا محددة بحيث أهمل مؤثرات كثيرة على المشهد الثوري وكأنه اعتبرها عوامل ثابتة ليتسنى القدرة على التحليل من الزاوية التي ينظر منها.

وبعيدًا عن أسباب اشتعال الحركة الجماهيرية فإنه ستكون بحاجة للتعبئة خلال انطلاقتها كي تضمن النجاح والوصول لأهدافها سواء كانت هذه الأهداف نبيلة أو غير نبيلة، هذه التعبئة لن تكون كالتعبئة العسكرية بحيث تعتمد المعايير والنداءات وصفة الإلزام المفروض، بل غالبًا ما تتسم بالعفوية والطوعية كونها تعمل لمصلحة جماهيرية عامة تتطلب الجميع.

هذه الميزة للحركة الجماهيرية (الثورة) ستكون من جهة ميزة إيجابية من حيث مشاركة الجميع وتوفير العدد الغفير اللازم لضمان القدرة على التغيير، ولكنها في ذات الوقت ستكون ميزة سلبية من حيث التعدد والتنوع واحتمالية التسلق واحتمالية تشتت الأهداف أو تضاربها بين الملتحقين في الركب إلى غير ذلك من السلبيات.

وقد لا تكون الجماهير أو مرجعياتهم متنبهين لخطورة هذه الناحية ابتداءً إلا من كان منهم مطلعا على تجارب الثورات الأخرى وبالطبع سيكونون قلة، وبالتالي ستكون الحركة عرضة للوقوع في ذات المطبات كغيرها من الثورات من قبل.

وبالتالي فإننا وخلال استعراض ما نوه له الكاتب ايريك ضمن كتاب المؤمن الصادق منذ خمسينيات القرن الماضي سنكتشف بأننا لم نتفرد بالسلبيات خلال الثورة السورية التي انطلقت عام 2011م، بل إنه ثمة الكثير من المتغيرات التي حدثت خلال الفترة ما بين تأليف الكتاب وبداية الثورة السورية، ستجعل احتمال بروز الظواهر السلبية واردًا بشكل أكبر مما كان عليه في خمسينيات القرن الماضي، هذه المتغيرات تجعل احتمالات ظهور العوارض السلبية أو عوامل حرف البوصلة أو تصدر المتسلقين للمشهد احتمالات كبيرة اليوم، وذلك لعدة أسباب، على رأسها اطلاع الطرف الآخر الذي تقاومه الحركة الجماهيرية على أمثال مؤلفات إيريك واعتماد هذا الطرف على خلاصات سلوك الحركة وما يعتريها ليعمل على تعزيز السلبيات وتفادي احتمالات نجاح الحراك عبر التحركات المضادة وعبر ما بات معروفًا بالثورات المضادة على اختلاف أدواتها وآلياتها، وعبر الخبرة المتراكمة للاختراق، ناهيك عن عامل التطور التقني والتكنولوجي الذي سيكون عاملا يسعى للاستفادة منه كلا الطرفين.

ضمن هذه الورقات أحاول الوقوف على أبرز النقاط التي أوردها الكاتب ضمن مؤلفه وأناقشها بعد التفكيك وإعادة التركيب، وذلك بعد قرابة سبعين عقدًا من تأليفه له، لأضع بين يدي القارئ هذه النقاط مكسوة بتجربتنا الخاصة واختبارنا لهذه القواعد أو النظريات أو الأفكار التي سردها الكاتب.

وعليه فإنني أقول؛ بأن هذه الأفكار التي استخلصتها من كتاب إيريك ستكون بمثابة جذوة استضأت بها حتى استطعت أن أعرف؛ متى وكيف ابدأ، وعن ماذا أتكلم، وعلى أي نقاط أركز عندما أود الحديث عن الثورة السورية وعن التجربة التي عايشناها، حيث أنني وفي خضم الكم الهائل من العوامل والأحداث والمتغيرات التي عايشتها كنت دائمًا بحاجة إلى بصيص أستطيع الاعتماد عليه إذا ما اردت استفراغ بعض من تجربتنا وهو ما أمنته لي هذه الأفكار التي استخلصتها من كتاب إيريك، علماً بأن من سيقرأ ما كتبت وكان قد عاش الواقع الذي عشته فربما سيجد أنه ثمة ما لم أنوه إليه أو ما أغفلته، وهذا صحيح لسببين:

الأول: هو اعتماده على أفكار إيريك كمنطلق لما كتبته.

الثاني: هو أنني أحببت بث خلاصة مركزة أولاً، ثم إن قدّر الله وشاء أن أتوسع أو يتوسع غيري فيما بعد في ضوء ما اختصصنا به كثورة أو كحركة جماهيرية سواء على مستوى الغوطة الشرقية أو على مستوى وطننا سوريا.

وبالمجمل؛ فإن هذه الورقات حالها كحال الكتاب الذي اعتمدت عليه تدرس الحركة الجماهيرية من الداخل دون التطرق إلى العوامل الخارجية ودورها، وهو أمر هام لابد من تسليط الضوء عليه ربما في سياق آخر، لما له من دور بارز في الثورة السورية.

الفصل الأول

حول كل من الثورة السورية وكتاب المؤمن الصادق ومؤلفه

الثورة السورية:

حركة جماهيرية انطلقت في الخامس عشر من شهر آذار مارس من العام 2011م، بدأت بمظاهرات سلمية طالبت النظام بإصلاحات على عدة أصعدة، ثم ما لبثت أن تحولت إلى العمل المسلح بفعل الرد الوحشي والأمني الذي واجه به النظام هذه الحركة، ولم تقتصر ارتدادات هذه الثورة على الأرض السورية وحسب بل أخذت بعدًا إقليميًا ودوليًا، ولا تزال هذه الحركة مستمرة حتى تاريخ كتابة هذه الورقات، مع كثيرٍ من التبدلات من حيث الوضع الدولي والمواقف الدولية والتموضعات على الأرض.

وأما الكتاب:

فهو بعنوان “المؤمن الصادق أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية”، والنسخة التي وقعت بين يدي من الكتاب تقع ضمن مئتين واثنتين وأربعين صفحة وهي من ترجمة الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي، وقد قسم إيريك الكتاب إلى أربعة أقسام وثمانية عشر فصلا، أما القسم الأول: وهو تحت عنوان جاذبية الحركات الجماهيرية؛ فقد أدرج ضمنه الفصول الثلاثة الأولى للحديث عن إرهاصات الحركة الجماهيرية من حيث الرغبة في التغيير والرغبة في البدائل وتحدث عن التبادلية بين الحركات الجماهيرية، وأما القسم الثاني: فيسهب في الحديث عن الأتباع المتوقَعين للحركات الجماهيرية وهم: المنبوذون وشريحة من الفقراء والعاجزون عن التأقلم والأنانيون أنانية مفرطة والطموحون الذين يواجهون فرصًا غير محدودة والأقليات والملولون ومرتكبو المعاصي وذلك ضمن الفصول من الرابع وحتى الحادي عشر.

وأما القسم الثالث: فيتحدث عن العمل الجماعي والتضحية بالنفس وعن العوامل التي تشجع على التضحية بالنفس والعوامل التي تشجع على العمل الجماعي ومنها: الكراهية – التقليد – الإقناع والقمع – القيادة – العمل – الشك، وذلك ضمن الفصول الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر.

ويقع القسم الرابع والأخير تحت عنوان: البداية والنهاية ويتحدث ضمنه عن الأطوار التي تمر بها الحركات الجماهيرية والدور المحوري الذي يلعبه ضمن هذه الأطوار كل من رجال الكلمة ومن أسماهم: “المتطرفون” ومن أسماهم: “الرجال العمليون”، ثم يتحدث عن الحركات الجماهيرية النافعة والضارة وذلك ضمن الفصول الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر.

 وبشكل عام فإن القارئ للكتاب يلاحظ بأن الكاتب يركز فيه على الحقائق الواقعية ضمن مركب الحراك لا على العبارات البراقة أو المجاملات أو المثاليات.

وأما المؤلف: فهو “إيريك هوفر”؛ فيلسوف أمريكي لقب بفيلسوف الأخلاقيات الاجتماعية الأمريكي، ولد في الخامس والعشرين من شهر يوليو من العام 1898م في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوفي بتاريخ الحادي والعشرين من شهر مايو عام 1983م في سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان تحصيله العلمي ناتجًا عن جهد شخصي، وتنوعت الأعمال التي مارسها خلال حياته وكان من أبرزها عمله حمالاً لبضائع السفن، وكان إصداره لأول كتاب وهو المؤمن الحقيقي أو المؤمن الصادق عام 1951م سببًا في شهرته وتداول أفكاره، إلى حدٍ أهلّه لأن يُعين في جامعة كاليفورنيا.

له عشرة مؤلفات منشورة هي:

1951: المؤمن الحقيقي: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية.

1955: حالة الشجن العقلي، وأمثال أخرى.

1963: محنة التغيير.

1967: مزاج زماننا.

1969: العمل والتفكير على الواجهة البحرية: مجلة، يونيو 1958 إلى مايو 1959.

1971: الأشياء الأولى، الأشياء الأخيرة.

1973: تأملات في حالة الإنسان.

1976: في عصرنا.

1979: قبل السبات.

1982: بين الشيطان والتنين: أفضل مقالات وأمثال إريك هوفر.

1983 حقيقة متخيلة.

الفصل الثاني

انقسامات المجتمع وشرائحه مع بدايات الحركة الجماهيرية (الثورة)

بالعودة إلى المقارنة بين خلاصات إيريك ومسار الثورة السورية؛ فإننا سنجد توصيفه للانقسامات المجتمعية مع بدايات الحركة الجماهيرية هي ذاتها ضمن المجتمع السوري لدى بدايات الحراك الجماهيري في سوريا.

والمذهل لدى إيريك هنا؛ هو أنه استطاع أن يلاحظ السلوك لدى انطلاق حركات التغيير ويشخصها ليستخلص تصورًا موحدًا لأي حراك جماهيري أو أي حركة تغيير مجتمعي سواء أكان دينيًا أم قوميا أم حزبيًا، بحيث أنه وضع ملاحظات عامة تنطبق على بدايات أي حركة تغيير، بحيث سنجد الكثير مما ذكره ينطبق على بني إسرائيل مع موسى وعلى بدايات المسيحيين مع عيسى وكذلك بدايات الثورات الفرنسية أو الإنجليزية أو البلشفية، من حيث التفاف الناس حول الحراك وانقسامهم وتفاوت درجة الإيمان بالمبدأ المطروح، وكذلك نحن وجدناها ذاتها مع بدايات الثورة السورية.

وأبدأ بالعبارة التالية لإيريك:

الفارق بين المحافظين والراديكاليين في أساسه فارق بين مواقفهم من المستقبل.

لأقول:

 منذ اللحظات الأولى للحراك وجدنا صنفا من الناس ابتعد واتخذ موقفًا إلى جانب النظام أو وقف ضد الحراك لعدم شعوره بالقدرة على صناعة مستقبل أفضل وهؤلاء هم الذين رددوا القول: (ما كان ناقصنا شيء، لماذا التغيير؟) وهؤلاء سماهم إيريك المحافظين، وصنف رأى بأنه ثمة ما هو أفضل من الواقع وبالتالي يمكن التغيير؛ والتغيير مستحيل بالتدرج بل لابد من تغيير جذري وهؤلاء هم الراديكاليون، ويطرح إيريك نظرة كل من هذين الصنفين فيقول:

المحافظون يرون أن الوضع الراهن هو الأفضل وأن السعي للتغيير يعني الانتقال إلى مستقبل أسوأ، وأما الراديكاليون أو المنادون بالحراك يبذلون الجهد لإقناع الناس بأن الوضع القائم ليس هو الأفضل بل هناك مستقبل أفضل فيما لو تحركنا.

كما أنه ثمة صنف سيمنعهم من الدخول في الحراك الخوف من المحيط، بحيث يكون خوفهم هذا سببًا في شل قدرتهم على الحراك حتى وإن كانوا مقتنعين باحتمال وجود مستقبل أفضل.

الذين يخافون محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائسًا.

وذلك على العكس تمامًا من حال أولئك الذين سيندفعون منذ اللحظات الأولى لخوض هذه المغامرة حيث إنهم سيتحلون بشجاعة لافتة:

سيكون المنخرطون في الحراك قد امتلكوا شجاعة مذهلة تجعلهم يتناسون بطش النظام القائم.

الأشخاص الذين يندفعون لإحداث التغييرات يشعرون عادة أنهم يمتلكون قوة لا تقهر.

قلة؛ هم الذين كانوا يعتقدون بأنه من الممكن القيام ضد النظام في سوريا، وذلك بسبب شدة القبضة الأمنية وتعدد أجهزتها لدى النظام وشدة التضييق التي يعيشها الناس، حتى إن الناس في بيوتهم كانوا إذا ما أرادوا الكلام عن النظام يخفضون أصواتهم ويرددون مقولة “الحيطان لها آذان” خشية أن يسمعهم أحد، لكنه القهر والظلم والضيق والضنك وتراكمات من الأحداث على مر عقود من الزمن، جعلت الأوضاع على صفيح من النار وكأنها بركان قابل لأن يثور في أي لحظة.

وبالنسبة إلى المؤمنين بقضية الثورة أو الحراك فإنه لا يشترط أن يقتصروا على صنف واحد من المجتمع، بل يتنوعون من حيث دورهم الوظيفي أو مرتبتهم المجتمعية قبل الثورة، ويجمعهم أمر واحد هو الأمل الجامح الذي يجعلهم قادرين على تصور إمكانية التغيير، يقول إيريك:

لاتهم طبيعة الشخص الذي يحركه الأمل الجامح، قد يكون مثقفا متحمسا أو مزارعًا يتوق إلى المزيد من الأرض، أو نبيلا ارستقراطيًا، أو تاجرًا أو صانعًا أو عاملا بسيطًا، كل هؤلاء يتحدون الحاضر، ويدمرونه عند الضرورة، ويخلقون العالم الجديد الذي يمكن أن يحقق آمالهم.

الذين كانوا يخرجون في المظاهرات مع بدايات الثورة في سوريا ضد النظام لم يكونوا من لون واحد، كان بينهم الطبيب والممرض والمحامي وطالب الجامعة والحداد والنجار والحمال والبقال والفقير والغني وحتى الموظف، وحتى العسكري في الجيش كلهم كانوا يحلمون بالتغيير ويبتهجون بهذه اللحظة التي يكسرون بها حاجز الصمت وسطوة المخابرات والقبضة الأمنية ويتحركون جميعا لا فرادى.

وعندما بدأت ظاهرة الانشقاقات لم يقتصر المنشقون عن النظام على لون واحد بل كانوا من جميع الشرائح ضمن أجهزة الدولة ما بين موظف عادي أو ضابط في الجيش أو جندي أو قاض أو مهندس أو رياضي أو مالي أو طبيب، إلى غير هؤلاء ممن كانوا ربما يعتمدون في حياتهم على ما يحصلون عليه من راتب شهري عبر وظيفتهم ولكنهم آثروا الانحياز إلى صف الجماهير على أن يبقوا في صف النظام الظالم.

كل هؤلاء أحدثوا سيلاً جارفًا في الواقع وربما تنساق الأحداث باتجاه الصدام والحرب وعندها يقول إيريك: كان على المواطنين المسالمين أن يدخلوا بيوتهم ويغلقوا الأبواب.

وهؤلاء المسالمون نقصد بهم أولئك الذين تجنبوا الخوض في غمار الأحداث ولا يشترط أن يكون وصفهم بالمسالمين وصفًا لائقًا، إذ أن انعدام الموقف منك في لحظة تتطلب منك اتخاذ موقف يعني الجبن.

وثمة صنف من المجتمع تهمهم مصالحهم الشخصية فحسب ويتبعون المصلحة حيث وجدت، وهؤلاء يتأخرون في اتخاذ الموقف إلى أن تبدأ الأمور بالوضوح فينتقلوا إلى الجانب المنتصر أو إلى الجانب الذي ستكون ضمنه مصلحتهم.

الحركة الجماهيرية خاصة في مرحلتها الأولى لا تجذب أولئك الذين يحبون أنفسهم.

وباعتبار إمكانية تجزئة النصر إلى انتصار كامل وانتصار جزئي فإننا في الحالة السورية وجدنا أمثال هؤلاء مع وجود المناطق المحررة، أي بعد زوال الخطر واحتمال التضحية بشكل نسبي بعد التحرير حيث لم يعد هناك ملاحقات أمنية من قبل أجهزة النظام داخل المناطق المحررة، عندها بالفعل وجدنا صنفًا من الناس بدأ يتقدم للعمل، ووجدنا أنه بعضًا من هؤلاء عندما يدخلون أو يتصدرون المشهد فسيكون دورهم في توجيه الحراك في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم وسيكونون عبئًا على الحراك بدل أن يكونوا قيمة مضافة ضمنه وستقع الحركة الجماهيرية في دوامة صعوبة القدرة على تحديدهم واكتشافهم وكبحهم وفي إشكالية القدرة على وضع معايير تقييمهم، وحتى وإن كان المتأخرون في الانخراط في الحراك ستصب خدماتهم في مصلحة الحراك أو الثورة؛ فإنه سيبقى هنالك إشكالية في تأخرهم، وفي تحديد السبب: هل مصالهم الشخصية؟ أم بسبب ظروف خاصة بهم؟ أم بسبب خبرتهم التي تجعلهم ينتظرون اكتمال عوامل نجاح الحراك؟ وهذا الصنف الأخير هم الذين قال عنهم إيريك: لا ينضم هؤلاء إلى الحركة إلا بعد التحقق من نجاحها.

وسيبقى من المحتمل أن يكون المتأخرون محط تعيير أو انتقاص من قبل الملتحقين منذ البدايات وهو ما لاحظناه في الحالة السورية.

وهناك صنف من الناس سيضع قدمًا في كل طرف بحيث يضمن المكسب أيًا كانت النتيجة، وينقل إيريك مثالاً على ذلك ما نقله حاييم وايزمن الزعيم الصهيوني ضمن مذكراته عن أمه قولها:

(كل ما يمكن أن يحدث سوف يكون سارًا، إذا كان صموئيل (الابن الثوري ضمن الثورة الروسية) على حق، فسوف نكون سعداء في روسيا، وإذا كان حاييم (الابن الصهيوني) على حق، فسوف نعيش في فلسطين.

وفي الحالة السورية، وعلى سبيل المثال كان البعض يبقى في مناطق النظام ويرسل مال الدعم خفية إلى الثوار، وهؤلاء منهم من كان تصرفه هذا مبنيًا على إيمانه بالحراك وأهدافه بالفعل، ومنهم من كان يفعل ذلك لتبقى له قدم هنا وقدم هناك، حتى إذا انتصر الثوار قيل عنه إنه كان داعمًا للثورة وكانت له حظوة، وإذا ما بقي النظام بقي سجله نظيفا بلا أي إدانة، وكذلك كان البعض ممن بقي في المناطق المحررة يحافظ على خيوط اتصال مع النظام أو يتجنب أن يبرز له أي نشاط مع الثورة متحسبًا لجميع الاحتمالات وليُبقي له قدمًا في كل طرف، وكم كان هناك شعور سلبي تجاه هؤلاء مقارنة بأولئك الذين أحرقوا كل الاعتبارات والتحقوا.

وفي تشريح آخر للمجتمع يرى إيريك بأن المجتمع (المواطنون العاديون الذين يقومون بأعمالهم في المدن والأرياف) سيتحكم به لدى بدايات الحركة (الثورة) طرفان (سماهم أقليتان) الأول هم: (الصفوة)، والثاني سماهم: (الغوغاء)، ولا أوافقه على هذا التوصيف بل أقول: (العفويون) الذين لا تقيدهم الحسابات الخاصة ولا العلاقات ولا المصالح، ويبرز إيريك دورهم وأهميتهم بقوله: لا يكنون أي احترام للأوضاع القائمة. وقوله:

الأمة التي تخلو من “الغوغاء” هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان إلا أنها تفتقر إلى خميرة التغيير.

على الرغم من أنني ذكرت بأن البدايات ضمت تنوعا شمل جميع طبقات المجتمع إلا أنني لا أستطيع أن أغفل أنه كان بالفعل هناك دور كبير لهؤلاء العفويين في ظهور وهج المظاهرات ثم في الدفاع عن الناس من بطش النظام لدى الانتقال إلى مرحلة العمل المسلح، حقيقة إنك قد ترى نفسك مذهولاً أمام صدقهم واندفاعهم، وأمام اقتحامهم للمخاطر بلا حسابات ولا مقدمات، مهما كان اندفاع الملتحقين من النخبة أو المثقفين فإنه قد تبقى لديهم بعض الحسابات أو الاعتبارات التي تقيد حراكهم، أما هؤلاء العفويون فلا يقيدهم شيء سوى أنهم سيؤمنون بالقضية ثم يندفعون دون توقفهم حتى إن كان أحد من – ربما – يقابلونه في الطريق هو الموت.

لذلك تصح تسمية إيريك لهم بخميرة التغيير، وإذا ما تمت الاستفادة من اندفاع هذه الثلة في المسار الصحيح والأهداف النبيلة فسيتكلل الحراك بالنجاح وقطف الثمرة، أما إذا ما تم استغلال هؤلاء والعبث باندفاعهم هذا لتحويله ليصب في إطار مصالح شخصية أو حراك مضاد فسيكون ذلك خرابًا على الثورة وصدمة ذات أثر سلبي على من يتبقى من هؤلاء بحيث أن الكثيرين منهم ربما يتوقف عن العطاء، وهو ما شهدناه من الكثيرين من أمثال هؤلاء مع طول أمد الثورة والعبث بها.

وهؤلاء العفويون لدى دراسة سلوكهم فسنجد أن منهم من كان الدافع الرئيسي له إيمانه بالحركة وضرورتها وحسب، ومنهم من ستكون له أسبابه التي تسبق إيمانه هذا، إذ قد يكون بين هؤلاء شرائح مجتمعية لا تتوقع منها تضحية وشجاعة، ثم تفاجأ بما تراه عينك منهم، فقد كان من الملتحقين من كانوا قبل الثورة من أصحاب السوابق ورأينا منهم توبة واندفاعًا لافتًا مع البدايات، وكان منهم من لم يكن يؤبه به قبل الحراك ثم فاجأنا بإبداعه وتضحيته خلال الثورة إذا كانت حركة جماهيرية شملت الجميع بمن فيهم؛ المذنبون وأصحاب السوابق، لأنها حركة جماهيرية وليست وظيفة حكومية، وما كان على من يريد الالتحاق سوى أن يظهر صفحة جديدة في حياته ويبدأ حياة جديدة في ظل الثورة.

وإلى جانب هؤلاء وجدنا أيضا بين الملتحقين في المقابل الأنانيين والمصلحيين.

وكم كنت مندهشاً عندما وجدت إيريك يشير إلى هؤلاء الأصناف الذين رأيناهم ضمن قائمة الملتحقين الأوائل بالحركات الجماهيرية، وهي ذاتها التي كانت بالفعل متواجدة مع بدايات الحراك في سوريا، وكان التحاق بعضهم ذريعة للانتقاص منها والتقليل من شأنها، بينما وجدت من خلال استقراء إيريك بأن وجود هؤلاء أمر منطقي وطبيعي، والغير منطقي هو أن توزن الحركة الجماهيرية التي تتسم بالعفوية واستيعاب الجميع، بميزان الحالات الطبيعية ثم يطعن بها من هذا الباب، أو أن يقيَّم روادها وفق المعايير الوظيفية التي يعدها الخبراء لقبول المتقدمين للوظائف الحكومية.

من هذه الشرائح المخصوصة:

المنبوذون، وصِنف من الفقراء، والعاجزون عن التأقلم مع واقعهم، والأنانيون أنانية مفرطة، والطموحون الذين يواجهون فرصًا غير محدودة، والأقليات، والملولون، ومرتكبو المعاصي.

ويعلل اندفاع المنبوذين بأنهم يجدون في الحراك فرصة لإثبات أنفسهم، والتحاق الفقراء الجدد بسبب سخطهم على واقع الفقر الذي طرأ عليهم مؤخرا على عكس الفقراء القدامى الذين ألفوا حياة الفقر ولا يشعرون بمرارة واقعهم، والأنانيين والطموحين بأنهم يجدون في الحراك فرصة لاستثماره لمصلحتهم، والتحاق الملولين بأنهم يجدون في الحراك فرصة لتغيير الواقع الذي ملّوه، والتحاق مرتكبي المعاصي بأنهم يجدون في التحاقهم فرصة للتطهر من معاصيهم ومتنفسا لجموح نفوسهم بحيث يفرغون جموحها في إطار الحراك بدل المعاصي، حتى إن إيريك يقول عن الملولين وعن أصحاب المعاصي:

يظهر أحيانًا أن الحركة الجماهيرية مصممة خصيصًا لتلائم احتياجات مرتكبي المعاصي، من حيث تطهير نفسه وإتاحة الفرصة له لممارسة نزعاته ومواهبه.

ولعله من الصحيح أن المجرم الذي ينخرط في قضية مقدسة يصبح أكثر استعدادًا للتضحية بحياته والقيام بأعمال عنيفة من غير المجرم الذي يقدر حرية الأنفس والأموال.

تجد الحركة الصاعدة من المتعاطفين والمتحمسين بين الملولين أكثر مما تجده بين ضحايا الاستغلال والظلم.

وربما تكون العبارة الأخيرة نسبية تختلف صحتها من مجتمع لآخر.

وبالتالي فإن الثورة لا يعيبها وجود هؤلاء ضمن الجموع، ولكن يعيبها أن تسلم زمامها لهم، وهو ما ربما يُقبل التسليم به كانتقاد يوجه لبعض المفاصل في الحالة السورية.

الفصل الثالث

ظواهر ومفاهيم تبرز خلال سير مركب الحركة الجماهيرية (الثورة)

كثيرة هي الظواهر والحقائق التي سيصادفها الناس خلال تجربة التغيير، وقد مرت بنا مواقف تعاطينا معها على أنها حدثٌ عابر أو وليد ظروف خاصة بالأوضاع التي نعيشها، ثم مع مرور الوقت اتضح لنا أنها سياق طبيعي يرتبط بأي مجتمع سلك المسلك الذي سلكناه، وقد ساعدتني أفكار إيريك على توثيق وتوصيف بعض من هذه المواقف أو السلوكيات ووضع عناوين لها أو تحليلها، ومن ثم عملت على التنويه إليها من خلال هذا الفصل.

وربما يتكون لدى القارئ من خلال معظم هذه الظواهر انطباعٌ سلبيٌ عن الثورة السورية، إلا أنني أقول؛ بل إنها ثورة مليئة بالصفحات الناصعة، لكن عكرها بعض مما نسطره ضمن هذه الورقات، وما نذكره إلا لتبيانه وتسليط الضوء عليه ونشر الوعي بخصوصه، فضلاً أن يكون سبب التنويه لها ورودها ضمن أفكار إيريك التي سطرت قبل زمنٍ بعيد من قيام الثورة السورية.

هذه الحقائق والظواهر أدرجتها تحت العناوين التالية:

أولاً: الحراك وأثره على الروابط الاجتماعية.

ثانيًا: حول المفهوم الحقيقي للحرية، وهل تسعى الجماهير إليها بالفعل؟.

ثالثًا: حتمية الصدام ومدى الاستعداد للتضحية بالنفس.

رابعًا: بين الخدمة في الجيش والخدمة ضمن الحركة الجماهيرية.

خامسًا: الهجرة.

سادسًا: ظاهرة تقمص سلوك الظالم (النظام).

سابعًا: الركون المبكر إلى الوضع الراهن في الحالة السورية.

ثامنًا: ظاهرة الأدعياء والأنانيين وأثرهم.

تاسعًا: ظاهرة الفوقية والتعالي بحجة حيازة الحق أو الانتماء للحركة.

عاشرًا: ظاهرة التنازع على القيادة.

أحد عشر: الصراع البيني الداخلي.

اثنا عشر: شيطان الحركة الجماهيرية.

وفيما يلي سأتكلم عن كل من هذه العناوين.

أولاً: الحراك وأثره على الروابط الاجتماعية:

كل شخص يعيش في المجتمع لديه أسرة يعيش في كنفها، لديه أهل، أب وأم وإخوة، لديه عائلة، ولديه أقارب، لديه أصدقاء وجيران، لديه مدينة أو قرية أو حي أو قبيلة ينتمي إليها، كل هؤلاء تربطه بهم علاقات وصلات، ويحمل تجاههم ويحملون تجاهه عواطف وشجون، ويربطه بهم مزيج من العلاقات تندرج تحت مسمى الروابط الاجتماعية.

هذه الناحية على درجة عالية من الأهمية والحساسية في آن واحد، وسرعان ما يجد الملتحق في ركب الحركة الجماهيرية أو الثورة نفسه ضمن صراع داخلي يحتم عليه ضرورة حسم قراره بين أن يتخلى عن متطلبات روابطه الاجتماعية التي يحملها من قبل وبين رميها خلف الظهر والالتحاق بالركب، وسنجد بين الملتحقين تفاوتا في درجة تحطيمه لروابطه الاجتماعية من منخرط بالكامل وبالتالي متخليًا بالكلية عن اعتبار واقعه الأساسي إلى منخرط بشكل جزئي محدود وبالتالي سيبقى محكومًا بالمحيط الاجتماعي من حوله إلى حد قد يحتم عليه لاحقا ترك الحراك واتباع ما تمليه عليه روابطه.

وتكمن نقاط التعارض بين المحيط الاجتماعي الأساسي وبين الانخراط في الثورة، في أن الحركة الجماهيرية ستكون حتمًا في بداياتها عرضة للاتهام والمحاربة بشكل أو بآخر من قبل النظام القائم، وأنه ربما سيكلف العملُ الحركي الشخصَ وقتا على حساب حياته العادية أو مالاً وربما ملاحقة قانونية قد لا تقتصر عليه شخصيًا فحسب، بل ربما تتعدى إلى محيطه بدرجاته التي ذكرتها، وبالتالي فإنه ومن هذا المنطلق سيكون على من يسير لتغيير الواقع أن يستعد للتخلي عن الكثير مما كان بحوزته خلال حياته العادية، وسيكون على من يحشد الجماهير للنهوض والتغيير الجذري أن يكسر قيد روابطه وروابطهم الاجتماعية في سبيل ألا تكون عائقا دون المضي نحو الأهداف المنشودة.

 في المحيط الذي عايشناه خلال السنوات الماضية نماذج تكاد لا تنتهي من أولئك الذين تخلو عن حياتهم الشخصية والأسرية وعن أهلهم، وعن بيوتهم ومالهم وخسروا أغلى ما يملكون حتى أولادهم في سبيل أن يجعلوا أنفسهم خدمًا للحركة الثورية، ومنذ البدايات كان هنالك من الناشطين من خسروا حتى النوم في بيوتهم بسبب الملاحقات الأمنية، وكان منهم من اضطر لأن يغادر حتى المنطقة التي يعيش فيها ليترك أهله وحيه ليعيش في مكان أو منطقة يكون ضمنها قادرًا على الحراك، وخلال سنوات الحصار في الغوطة الشرقية كان هناك الكثيرون ممن كانوا يعيشون فيها حياة النضال مغربين عن أهلهم وعن منطقتهم الأصل، وكثيرون أيضًا هم من أبناء الغوطة ولكن أجبرتهم الظروف ليرسلوا عائلاتهم وذويهم خارج البلاد ليعيشوا بعيدين عنهم سنوات في سبيل خدمة القضية التي خرجوا من أجلها.

 وبالمقابل فإننا عايشنا أيضا من آثروا النجاة والسلامة وبقوا تحت تأثير قيد العاطفة تجاه أسرة أو ولد أو أب أو قريب، أو مكبلين بقيد المصلحة الشخصية من تجارة أو مكانة أو حظوة، وكان ذلك حائلا بينهم وبين الالتحاق بالركب.

أدرك إيريك هذه الحقيقة التي لا بد أن يمر بها من اختاروا طريق التغيير، وأن هذا مطلب لابد منه لتنجح الحركة، لذا نجده يقول:

على الحركات الجماهيرية الصاعدة أن تلجأ إلى تحطيم كل الروابط بين الجماعات إذا أرادت أن يزداد أتباعها، وينقل عن المسيح عليه السلام حول ما سيلحق أتباعه من عداء لآبائهم وإخوانهم وأمهاتهم.

ويلفت إلى مسألة أخرى بالغة الأهمية وهي التي قسمت ظهر الثورة السورية، ألا وهي الإطار الجماعي التنظيمي، إذ إنه في الوقت الذي نقول فيه إنه على الحركة الجماهيرية أن تهدم الروابط الاجتماعية لدى أتباعها، فإنه سيكون هذا الهدم عبثًا خطيرًا في البنية المجتمعية مالم يرافقه إطار عمل جماعي يستوعب هذه الجماهير المتحررة من قيدها الاجتماعي الطبيعي، وما لم يكن هذا الإطار منتظمًا بحيث تستطيع الحركة من خلاله استيعاب هذه الجماهير وطاقاتها واجتذابها وإقناعها، وإذا ما أفلحت الحركة في كسر الروابط الاجتماعية ولم تفلح في صهرهم ضمن إطار تنظيمي فإن هذا سيعني رمي الناس إلى الهواء تواجه مصيرها دون أن تعرف طريقها إلا بعد ثمن باهظ.

حتى إعداد هذا المؤلَّف؛ تنافس على الناس في الثورة السورية عقائد ومذاهب وأحزاب ومرجعيات وكيانات ولم يستطع أي من هؤلاء أن يحوز قيادة الدفة، بل لم يستطيعوا التنسيق معا نحو التركيز على كتلة من الأهداف، ومرجع ذلك لأسباب عدة منها ما هو ذو صلة بالفعل بهذه التيارات والمرجعيات ومنها ما هو خارج عن إرادتها لا تحمل وزره، ولكن بالمحصلة فلا مناص من الاعتراف بهذه الحقيقة المرة، التي تنبه لها إيريك قبل سبعين عامًا فقال:

لكي تنجح الحركة الجماهيرية فلا بد من تطوير تنظيم جماعي متماسك قادر على اجتذاب القادمين وصهرهم، وعندما تتنافس عدة عقائد فإن العقيدة التي ستنتصر هي العقيدة التي تتقن بناء الإطار الجماعي.

عندما يضعف تأثير الدين بسبب الخلافات داخله فإنه من المتوقع أن تكون الحركات الصاعدة هي اشتراكية أو قومية أو عرقية.

ثانيًا: حول المفهوم الحقيقي للحرية وهل تسعى الجماهير إليها بالفعل؟:

هل بالفعل يسعى الناس إلى الحرية بمعناها المجرد؟

هل دائما عندما تهتف الجماهير بمطلب الحرية تقصد بالفعل الحرية لذاتها أم تتطلع إلى ماهو أبعد من ذلك؟

هل يكفي التخلص من النظام القائم لتصل الجماهير إلى غايتها وحريتها؟

هل جميع الناس يجيدون العيش في إطار الحرية الكاملة؟

هل ثمة أثمان ربما ندفعها بعد الحرية، أو هل هناك من سيستعمل الحرية في مكان غير المكان الذي ينبغي لها أن تستعمل فيه؟

هل كل الناس بحاجة لذات المستوى من الحرية؟ وبالتالي هل سنجد بين الجماهير من سيبحث عن الهرب من الحرية وسيكون سيره في الحركة فقط لينتقل من سطوة النظام القائم إلى قيود نظام آخر يرتضيه؟

لعل الباحث إيريك يكون قد ناقش هذه الأسئلة كلها ولاحظ الأجوبة عليها من خلال ما عاصره أو قرأ عنه من حركات جماهيرية ولعلنا في خضم السنوات السابقة وفي خضم الحياة في المناطق المحررة من سطوة النظام قد عايشنا أيضاً مصداقية ملاحظاته هذه.

في اللحظة التي سيخلو فيها المكان من النظام القائم وسطوته ستجد الحركة الجماهيرية نفسها، أو لنقل ستجد الثورة نفسها واقفة وجها لوجه أمام مطلبها بالحرية، وأمام استحقاقات ما بعد الحرية، وبعيدًا عن المشهد الدولي وتعقيداته فإننا وجدنا داخل الجماهير شرائح وأصنافًا متعددة، من حيث تعاملها مع الحرية المتاحة، واكتشفنا بأن التصور لم يكن واحدًا تجاه الحرية لدى جميع الجماهير.

 وتجدر الإشارة لثلاث نقاط هامة:

الأولى؛ ترتبط بالممارسة العملية للحرية.

والثانية؛ تتعلق بمستوى الحرية الذي تنشده الجماهير.

والثالثة؛ بمدى الحرية الذي ستتركه المرجعية أو المرجعيات التي ستحل كليا أو جزئيا مكان النظام القديم.

أما بالنسبة للممارسة العملية من قبل الجماهير فسأقفز مباشرة إلى ذاك الصنف الذي سيتجه نحو الحرية على أنها انحلال من أي قيد أو ضابط، إلى حد يجعله يمانع ضد أي سلطة ستحل مكان النظام المنهار في المنطقة، وكثير من هؤلاء ربما تظهر منهم سلوكيات سلبية تضر بكل شيء من حولهم، وكلما كان هنالك مرجعيات متعددة تتنازع للحلول محل النظام البائد في المنطقة – أقول في المنطقة لأقيد الأمر ويكون كلامي عن مناطقنا المحررة صحيحاً حيث لم ننل حتى لحظة كتابتي لهذه الورقات إسقاط النظام على كامل أراضي سوريا – فكلما تعددت هذه المرجعيات كلما وجد هؤلاء الفرصة سانحة ليفعلوا ما يشاؤون، وبالطبع فسيكون أثر ذلك شاملا أملاك الناس الخاصة والممتلكات العامة في آن واحد.

وسيكون أمثال هؤلاء عبئا على الحراك بدل أن يكونوا قيمة مضافة له، وسيكون سلوكهم إن بقي الأمر على حاله سببًا في إعادة الكثيرين ممن هم في صف الحركة النظر في جدوى الثورة أو جدوى التغيير وقد قرر البعض التراجع خطوات للخلف بسبب ما رآه من  هؤلاء.

وعلى النقيض من ذلك كانت هنالك تيارات تنادي بتصحيح المسار والتطبيق الصحيح للحرية، وبقي الأمر رهنا للقدرة على جعل الأمور تحت السيطرة وإلا فإنه كلما طال أمد الفوضى كلما ازداد الوضع سوءًا.

وأما من ناحية مستوى الحرية الذي تنشده الجماهير فيشير إيريك إلى أنه في الوقت الذي تنادي فيه الجماهير بمطلب الحرية ستكون في حقيقة الأمر مطالبة بالمساواة وليس بالحرية فحسب، ويعتقد بأن نداءات الحرية التي يرددونها ما هي إلا بسبب ما يمليه رجال الكلمة (المثقفون أو قيادات الحراك الثوري نحو التغيير)، بينما مطلبهم الحقيقي هو المساواة أكثر من كونه مطلبًا بالحرية.

ولدى مناقشة هذه الفكرة فإننا من منطلق واقع الثورة السورية وواقع المناطق المحررة الذي عايشناه فسنجد أنه سيكون هناك من الجماهير من سيتنبه إلى هذه الحقيقة بعد فترة، حيث أننا بعد تحقيق إزاحة النظام بشكل جزئي، صرنا ننظر في جدوى الحرية كمطلب مستقل ومدى كفايته وحده، وأدركنا عبء المسؤولية، فمن كان في موقع المسؤولية شعر أنه لدى تحقق الحرية أصبح أمام استحقاق إقامة العدل والمساواة، ومن كان في صفوف الجماهير أدرك أنه لايزال يشعر بمطالب لم تتحقق رغم تحصيله للحرية، وعلى رأسها العدل والمساواة، وبالتالي أدرك عدم كفاية الحرية كمطلب، إن لم نقل أنه بات البعض لا يريد الحرية فحسب كما هو الحال في كلام إيريك، حين يقول:

إن الذين يشكون فشل حياتهم وقبحها يتوقون إلى المساواة أكثر من توقهم إلى الحرية، حتى عندما يضجون في طلب الحرية.

كل ما سبق ينطبق على حالة ثورية وعلى حركة جماهيرية تقوم بعملية تغيير جذرية، تعني هدم نظام قائم، وليس الكلام عن حالة تغيير سلس أو تداول للسلطة.

وسيكتشف البعض أنهم أصبحوا في فراغ جراء الحرية القائمة وسرعان ما سيبحثون عن إطار يندمجون ضمنه فرارا من الحرية الفردية، إما لشعورهم بالحاجة للقوة المحركة التي ترسم لهم طريق السلوك في حياتهم اليومية، إذ أنهم لا يجيدون رسم حياتهم بأنفسهم، وهذا ما يفسر لنا هذا الانصهار العجيب للألمان في إطار النازية وللسوفييت في إطار اشتراكية الاتحاد السوفيتي.

تصبح الحرية عبئًا على الشخص، حين يفتقر إلى المواهب التي تمكنه من تحقيق أي شيء.

يلجأ الناس إلى الحركة الجماهيرية ليتحرروا من ثقل المسؤولية الفردية.

 كما أننا وجدنا بين الناس من كانوا يبحثون عن الانصهار في الحركة الجماهيرية ليجدوا ضمنها ضالتهم التي تكمن في نوع آخر من الحرية إن صح التعبير وهي حرية الكراهية والتخوين، والكذب والتعذيب، والقتل والخيانة، دون خجل أو ندم، وهذه النماذج رأيناها بالفعل بأم أعيننا.

 وبالتالي لن يكون مفهوم الحرية المنشودة على سوية واحدة لدى جميع الجماهير.

وأما من حيث درجة الحرية التي سيتركها وريثوا النظام أيا كانوا، فإن الحركة التي كان مطلبها الأول الحرية سرعان ما سيجد القائمون عليها بأن الحرية المطلقة لن تكون قابلة للإتاحة على الأرض، وذلك لواحد أو أكثر من الأسباب التالية:

الأول: بعد خروج النظام ووجود المناطق المحررة كانت هذه المناطق تعيش وضعًا مشابهًا للأوضاع التي تفرض فيه الدول حالة الطوارئ، أكثر من كونها تعيش ظروفًا من الرفاهية بحيث غدا المناخ فيها ملائمًا لممارسة الحرية والديمقراطية، وبالتالي فقد فوجئ القائمون على الحراك في سوريا بأنه لا يمكن تطبيق الحرية المطلقة مباشرة بعد خروج النظام إذ أن النظام لم ينته بعد والصراع معه لايزال قائمًا وعلى افتراض سقوطه بالكامل فإنه سيكون هناك فترة ريثما تستطيع الحركة ولادة البديل الذي يستطيع القيادة من جديد.

قد تصبح هذه الفكرة جلية أكثر فيما لو اقتربت أكثر من الأحداث التي عايشناها، نعم صحيح بأن المطلب الأول للناس منذ البدايات كان الحرية ولكن ما حصل بعد خروج النظام هو أنه وجد في المناطق المحررة أبواق مدفوعون من قبل النظام يتحركون بحجة الحرية لينادوا بطريقة أو بأخرى بعودة النظام، فإن تم إيقافهم كانت التهمة جاهزة وهي تقييد الحريات، وإن تم تركهم كان معنى ذلك ترك جرثوم خبيث في جسد المنطقة ربما يتفاقم أثره وينتشر مستغلاً الظروف الصعبة التي يعيشها الناس.

إذا في مثل هذه الظروف لم يكن ممكنًا تطبيق كل مبادئ الحرية والديمقراطية، واتضح بأنه لن يكون ذلك ممكناً إلا بعد تمام التحرير وإسقاط النظام وولادة البديل.

يشير إيريك إلى هذا المعنى فيقول:

إن الذين يدعون إلى الديمقراطية لا يستطيعون تقديم قضايا مقدسة يمكن الالتحام بها، ولا جمهورًا متماسكًا يستطيع المرء أن يذوب فيه.

الشعور بحدوث تغيير عظيم يعطي إحساسًا بالحرية على الرغم من أن التغيير يتم في جو من القمع.

الثاني: هو وجود ذلك الصنف من الناس الذين ذكرناهم سابقًا، وهم من يحملون فهمًا وتطبيقًا مغلوطًا عن الحرية، وبالتالي لا يمكن تركهم يعيثون كما يشاؤون دون حساب أو قيد.

وأما الثالث: فهو وجود بذور للديكتاتورية أو التسلط ستكون دفينة لدى بعض الأفراد في صفوف الحركة، وسرعان ما ستبدأ بالنمو والظهور عندما تصبح الظروف سانحة، وإذا كنا قد بينا بأنه ليس كل ما يقتضيه مبدأ الحرية والديمقراطية أمر قابل للتطبيق قبل إحراز النجاح الكامل للثورة وقبل قدرتها على إيجاد النظام البديل، فإن ذلك لا يعني أبداً قبول أن يصبح أي لون من الحرية ممنوعًا، بحجة ظروف الثورة أو متطلباتها، أو يصبح القرار حكرًا على أفراد أو فئة، ويصبح لهم الحق بأن ينكلوا بكل من يخالفهم أو يقف في وجههم.

 في المناطق المحررة وجدنا نماذج من هؤلاء الذين عندما غاب النظام وأتاحت لهم الظروف شيئا من السيطرة ما لبثوا أن تحولوا إلى ديكتاتوريين وقمعيين حالهم كحال النظام، ليجد الناس أنفسهم مضطرين للصدام معهم ووضع حدٍّ لهم، بعدما كانوا في صدام مع النظام من قبل ضد السلوك ذاته، هذه الظاهرة التي يتحدث عنها إيريك فيقول:

إن الوهم السائد الذي يذهب إلى أن الحركات الجماهيرية تولد من عزم الجماهير على التخلص من الطغيان وشوقها إلى الحرية يعود إلى ضجيج الكلمات التي أطلقها المثقفون ضد النظام القائم، إلا أن الواقع يقول إن الحركات الجماهيرية خلال صعودها تمنح عادة حريات أقل من التي كانت موجودة في عهد النظام، وكثيرًا ما ينسب إلى مكر الفئة المتسلطة التي خطفت الحركة في بداياتها.

وقد يلتبس الأمر على القارئ أو المتابع ما بين تفهم ضرورة تقييد الحرية الذي أشرنا إليه ضمن السبب الأول، وما بين الوقوف في وجه القمع الذي سيمارسه هؤلاء الذين تحدثنا عنهم ضمن السبب الثالث، لكن الأمر سيكون جليًا واضحا لدى من عايش تمامًا هذه الأحداث أو من استطاع أن يميز تمامًا بين الحرية التي تقود إلى هدم الثورة والحرية التي تقود إلى إغناء الثورة وإنجاحها.

وأما كلام إيريك الذي ينسب فيه طلب الجماهير للحرية إنما هو بسبب الضجيج لا يسلم على إطلاقه، إنما يمكننا أن نقول بأن مطلب الحرية لن يكون ممكنًا إتاحته فور غياب النظام القديم، بل ستكون هناك فترة لابد فيها من ضبط الأمور.

ثالثًا: حتمية الصدام ومدى الاستعداد للتضحية بالنفس:

لدى الحديث عن الروابط الاجتماعية نوهنا إلى حتمية التضحية بهامش كبير من الروابط الاجتماعية التي يتمتع بها الناس في الحياة الطبيعية العادية وذلك منذ اللحظة التي يقررون فيها الانخراط في الحركة الجماهيرية، الحركة التي ربما تتصاعد حتى تصبح موجًا متلاطمًا يقتلع الكثير، وهذا يعتبر جانبًا من التضحية التي يقدمها الناس.

 لكن ومع امتداد أمد الحركة او الثورة الجماهيرية فإنه من الوارد جداً أن يصل الأمر إلى حد يستعصي معه إحداث التغيير بلا صدام مع النظام القائم  ربما يصبح دامياً ويحصد الكثير من الأرواح ويسيل الكثير من الدماء، كما حدث تمامًا في سياق الأحداث في الثورة السورية، وحتى أولئك الذين اجتازوا اختبار حتمية الاختيار، ما بين الحفاظ على روابطهم الاجتماعية وعدم الانخراط في الثورة أو العكس، فإنهم وجدوا أنفسهم مرة أخرى أمام قرار مصيري عليهم أن يتخذوه، وذلك مع اشتداد حدة الصدام مع النظام القائم، وهو قرار الاستمرار والدخول في الصدام، وبالتالي احتمال  خسارة النفس والتضحية بها في سبيل الهدف الذي تسعى إليه الجماعة التي هم جزء منها.

عوامل عدة قد تجعل النظام القائم يستشرس لأجل إبقاء الوضع على حاله، وهنا لن يكون أمام الجماهير سوى اتخاذ القرار المناسب بالمقابل.

هذا النوع من التضحية لم يكن الجميع في الثورة السورية على استعداد له، علماً أنه كان هناك الكثيرون ممن لم يترددوا أبداً عندما تطلب الوضع ذلك.

كان هناك كثيرون وضعوا في حسبانهم إحداث سيل عارمٍ ضد النظام عبر المظاهرات يجبره على الرحيل خلال بضعة أشهر، ولم يكن يخطر في بالهم أن الأمر سيتحول إلى صراعٍ دامٍ يمتد لسنوات ويفرض عليهم دفع أرواحهم ثمنا للتغيير.

هذه الناحية لطالما كانت تجول في خاطري أسئلة عدة حولها، وقد وجدت بعضًا من الإجابات لدى مناقشات إيريك لهذا الجانب ضمن كتابه، ويكاد يكون لب ما بحثه إيريك في كتابه كامنًا في هذه الناحية بالضبط:

كيف تقبل الجماهير فكرة التضحية بالنفس؟

وكيف يمكن أن يصل إيمان المؤمن بقضية أو فكرة إلى حد يجعله مستعدًا للتضحية بنفسه حتى، وهي أغلى ما يملك على الرغم من أن تقديمه لنفسه سيجعله غير قادر على رؤية التغيير المنشود، لأنه لن يبقى على قيد الحياة.

ساق إيرك ضمن كتابه مجموعة من العوامل التي تدفع الفرد للتضحية بنفسه في إطار الحركة الجماهيرية، وقبل سرد هذه العوامل فإنني أود أن أوضح بأن القارئ لما كتبه إيريك في سياق الحديث عن هذه العوامل ربما يتكون لديه تصور بأن مسألة التضحية بالنفس داخل الحركات الجماهيرية ما هي إلا وليد تركيبة خاصة من الظروف والطقوس التي توجدها مرجعيات الحركة الجماهيرية لتغيب الأفراد عن حقيقة الواقع وتدفع بهم نحو هذا القرار الجريء مستغلة تلك اللحظة التي تستطيع خلالها تغييبهم عن الواقع وكأنهم في حالة من النوم المغناطيسي.

ربما نستطيع أن نعزو ذلك إلى ما عايشه إيريك من أحداث في عصره تتعلق بالنازية في ألمانيا أو بالفاشية في إيطاليا وبالاشتراكية السوفييتية، فرأى كيف كان مآل تضحيات الجماهير لصالح ثلة من الأشخاص أو لصالح فرد واحد استغل كل تضحيات الجماهير، كما هو الحال بالنسبة لهتلر أو موسوليني أو ستالين، وبالتالي أصبح إيريك متأثراً بهذه التجارب وأحداثها، أما من حيث الواقع فإننا في الحقيقة لا يمكن أن نسلم تمامًا بهذا التصور حرفيًا، إنما نقول إنه بالفعل هنالك دور هام تلعبه هذه العوامل في دفع الجماهير نحو التضحية ولكن شتان بين كونها مندفعة بتأثير هذه العوامل وكأنها في حالة من الوهم، وبين كونها مندفعة وتأثرت بمثل هذه العوامل ولكنها تعي تمامًا ما تفعل وليست تحت تأثير نومٍ مغناطيسي.

هذه العوامل هي:

1- التماهي مع المجموع:

يقول إيريك:

لكي تهيئ شخصًا ما للتضحية بالنفس فلا بد من سلخه عن هويته الذاتية.

أكثر الطرق فاعلية في الوصول إلى هذا الهدف هو صهر الفرد بالكلية في الجسم الجماعي.

هذا العامل يفسر لنا تلك الروح التي كانت تسود الجموع الغفيرة خلال المظاهرات مع بدايات الثورة السورية إلى حد يغيب خلاله الفرد عن نفسه وينصهر في إطار الجماهير، وذلك في وقت كانت الحركة الجماهيرية تتسم بالعمل السلمي من جهة المتظاهرين، حيث استطاع الجميع حينها أن يكونوا في إطار تنظيمي واحد وهو إطار المظاهرات، ولدى الانتقال إلى مرحلة الصدام والصدام العسكري اتخذ العمل الجماهيري طابعا مختلفًا، حين دخل على الخط عامل التضحية بالنفس بشكل كبير جداً بالمقارنة مع المرحلة السابقة وهي مرحلة السلمية، مع بقاء عامل التماهي مع المجموع ذا أثر بالغ في نفوس الأفراد.

 ولكن وبشكل تدريجي صغرت دائرة المجموع الذي ينصهر ضمنه الفرد، ووصل الأمر إلى حد أصبح فيه هذا المجموع ربما يكون مجموعة قتالية صغيرة تضع لنفسها إطارًا خاصًا تنسلخ من خلاله عن الباقين، وهو الأمر الذي أضعف الحراك في الثورة السورية، وبالتالي فإنه بقي عامل التماهي مع المجموع ذا أثر بالغ في دفع الأفراد نحو التضحية، ولكن المشكلة هي أنه تم مسخ هذا المجموع من قبل بعض المرجعيات أو القيادات من إطار الشعب بأكمله إلى إطار ضيق ليصبح المجموع هو الفصيل أو من يحملون الأيديولوجيا ذاتها وهكذا.

2- الخيال:

من أهم واجبات القائد في الحركة الجماهيرية طمس حقيقة الموت والقتل المرعبة بأن يخلق في نفوس أتباعه الوهم أنهم يشاركون في منظر باهر (مسرح).

إن الملابس العسكرية والأعلام والشعارات والاستعراضات والموسيقى والطقوس الصارمة والإتيكيت المحكم، كلها وسائل لفصل الجندي عن نفسه.

أكثر الناس عقلانية يمكن أن يصبح عاطفيًا أمام مشهد جماهيري حاشد.

3- احتقار الحاضر:

إن الحياة الراضية تعمي أعيننا عن احتمالات التغيير الجذري ……… أي تجعلنا نشعر بألفة مع الأشياء كما هي في الواقع.

لم يكن لدى من كانوا متأقلمين مع حياة الذل تحت وطأة النظام أي دافع نحو تغيير الواقع، ورأينا الكثيرين حالهم كحال بني إسرائيل مع موسى، قد ألفوا ظلم فرعون واستعباده لهم إلى حد جعلهم لا يرون أبدا أي داع لأن يتحركوا مع موسى، بل تكرر تذمر الكثيرين منهم فيما بعد من موسى لما لحق بهم من ضرر جراء ثورتهم ضد فرعون.

بينما لم نر ذلك أبدا من أولئك الذين كانوا يعُون تماما مرارة الحاضر الذي كانوا يعيشونه تحت وطأة النظام، وبالتالي كان إدراكهم هذا سببًا في التضحية والصبر وعدم التذمر.

4- الأشياء التي لم تكن:

إن الرغبة في القتال لا تنبع من مصلحة ذاتية بقدر ما تنبع من أشياء غير محسوسة، كالتقاليد أو الشرف وقبل هذا كله الأمل، عندما لا يكون هناك أمل فإن الناس ينزعون إما إلى الهروب أو إلى الانقياد للقتل بلا مقاومة.

من الجدير بالملاحظة بأن اليهود الذين استسلموا للإبادة في أوروبا النازية قاتلوا بشراسة حين انتقلوا إلى فلسطين.

أضيف إلى ما ذكره إيريك عنصرًا كان له بالغ الأثر في الحالة السورية لدى طيف واسع جداً، وذلك في سياق الحديث عن الأشياء التي لم تكن، وهو عنصر الإيمان بالغيب، وبالوعد بالآخرة، من منظور كثيرٍ من أولئك الذين ضحوا بأنفسهم.

5- العقيدة:

التضحية بالنفس عمل غير عقلاني ولا يجيء نتيجة بحث وتحليل، من هنا تلجأ الحركات الجماهيرية إلى وضع حجاب بين أتباعها وبين حقائق العالم.

قد لا نوافق إيريك بقوله غير عقلاني ولكن يمكن أن نقول بأنه أجرأ قرار يمكن أن يتخذه المرء في حياته، وأنه قد يتردد البعض في اتخاذ هذا القرار عندما يتاح له الوقت للتفكير والتحليل، وليس كل الناس يمتلكون الجرأة على اتخاذ هذا القرار، أما في الحالة السورية فقد كان مضطرا إلى وضع الحجاب عن الحقائق فقط أولئك الذين كانوا يحملون أفكار التطرف بالمعنى المتداول اليوم؛ لا بالمعنى الذي استخدمه إيريك أو أولئك الذين كانوا يسعون لمصالح شخصية ويدفعون الناس للتضحية في سبيل مصالحهم ويخفون ذلك خلف تلك الشعارات والنداءات الثورية أو الدينية التي يحتشد الناس خلفها، ثم اتضح أنها ليس سوى مطيةٍ استعملها أولئك الأنانيون في سبيل مصالحهم أو أطرهم، لا لأجل الثورة.

أما ضمن الأطر التي كانت لا تحمل مشاريع خاصة أو ضيقة فقد كان الاندفاع نحو التضحية منطلقا من قرار عقلاني مبني على إدراكٍ لضرورة ذلك وعلى إيمان بالغيب، ولم يكن منطلقًا من تغييب للحقائق مطلقًا، وعليه فإننا وجدنا من كان مندفعًا نحو التضحية من منطلق الوعي العام والحقائق والمبادئ السامية، ووجدنا من كان مندفعًا متأثراً بأفكار مزيفة أو سخيفة، وشتان بين هؤلاء وهؤلاء، وقد ابتلينا بأولئك الذين صبغوا الثورة جمعاء بصبغة الصنف الثاني وأهملوا الأول رغم أغلبيته، عمداً بقصد محاربتها وشلها.

وأما اندفاع الجميع للتضحية فيفسره إيريك بقوله:

تتساوى الأشياء السخيفة والحقائق السامية في تحفيز الناس على التضحية بأنفسهم إذا عدوها حقائق مطلقة.

إن المؤمن الصادق يجرؤ على أن يجرب الصعاب والمستحيل؛ لا لأن عقيدته تعطيه إحساسًا بالقوة الخارقة فحسب، بل لأنها تمنحه أيضًا ثقة بالمستقبل.

6- التطرف:

سأناقش استعمال إيريك لاصطلاح التطرف ضمن الفصل الرابع لدى الحديث عن دور هؤلاء في الثورة، ولكن هنا أقول وبشكل مختصر بأنه من خلال قراءتي لما كتبه إيريك بخصوص من أسماهم المتطرفين في أكثر من موضع من الكتاب، أستطيع القول بأنه يقصد بهم أولئك الذين يؤمنون بالحل عبر الصدام فقط ويئسوا من التغيير بأي طريقة أخرى؛ سواء أكانوا يحملون أفكارًا شاذة أم كانوا يحملون مبادئ سامية.

وبالتالي فإن رسوخ هذا الإيمان لديهم سيزيد من دافعيتهم نحو التضحية، وسيحول دون تفكيرهم بذاتهم أو بحياتهم الشخصية، وهو ما وصفه إيريك بتحطم التوازن الداخلي، وربما لا أوافقه بذلك، إلا عندما يكون ذلك بسبب تلاعب بالجماهير وليس بسبب قضية محقة تدافع عنها بالفعل، وبالتالي يغدو قول إيريك:

تستطيع الحركات الجماهيرية عبر إثارة المشاعر الملتهبة في قلوب أتباعها أن تحطم التوازن النفسي الداخلي.

صحيحًا فقط عندما يكون هنالك حالة من التلاعب، أما عن دور المشاعر الملتهبة فإنها بالفعل تكون ذات تأثير بالغ في دافعية الجماهير، وهنا أعود للتمييز في الحالة السورية بين أولئك الذين رأيناهم يضحون من منطلق فطرة سليمة وإيمان بقضية وهم الغالبية وبين أولئك الذين كانوا ضحية عبث تم إقحامه على خط الثورة بغرض إفشالها أو ضحية غباء ابتليت به الثورة، ضمن صفوفها.

رابعًا: بين الخدمة في الجيش والخدمة ضمن الحركة الجماهيرية:

عندما بدأ الحراك في سوريا كان واضحًا حجم الالتفاف الجماهيري حول المظاهرات وكان مشهدًا رائعًا تلك العفوية وذاك الانكباب والمبادرة إلى تلبية كل ما يحتاجه الحراك، حتى تلك اللحظة التي تطلب فيها الأمر المواجهة والعمل على حماية المتظاهرين؛ كانت المبادرة واضحة نحو خدمة الثورة والحراك بشكل عام، وجلُّ ذلك كان بشكل تطوعي عفوي، ولكن مع طول أمد الحراك وقساوة المشهد وحدة الظروف وقساوتها ودخول العديد من العوامل على خط الحراك، بدأ سؤال داخلي يطرح نفسه وبقوة على الكثيرين، حتى أولئك الذين أصبح لهم عائدٌ ماديٌّ مقابل الإطار الذي يخدمون به الحراك، وبالتالي لا يعانون من أزمةٍ ماديةٍ كالكثيرين من غيرهم.

هذا السؤال هو:

 إلى أي وقت سيبقى لزاماً علينا المتابعة في الخدمة في وقت نخسر فيه الكثير مما يحرزه الآخرون لبناء مستقبلهم؟

هل سنبقى على هذه الحال إلى أجل غير مسمى؟ ماذا لو بقيت الأمور على حالها؟

ثم تتبادر للذهن المقارنة بين من يلتحق للخدمة في الجيش ومن يلتحق للخدمة في حركة جماهيرية، وكيف أن الملتحق في الجيش يكون التحاقه على سبيل الإلزام والملتحق لأجل التغيير يكون التحاقه على سبيل التطوع.

وأن الملتحق في الجيش سيكون له مدة محددة يلزم خلالها بالخدمة وحتى وإن مُدّدت فهناك نقطة ستنتهي فيها خدمته أما الملتحق في الحركة فلا يعلم متى سيتحقق هدفه وحلمه وبالتالي يكون متاحًا له أن يتوقف، أو يسلم غيره.

أتكلم عن هذه الحالة وقد ظهرت لنا تمامًا وبشكل واضح ضمن الحالة الخاصة التي عشناها وهي الحصار.

هؤلاء الذين التحقوا في الحراك؛ منهم الذين كانوا طلابًا وانقطعوا عن دراستهم، ومنهم من كانوا أصحاب أعمال ومصالح وتوقفت أعمالهم ومصالحهم، ومنهم من كانوا في طريق الدراسات العليا وتوقف مسيرهم وهكذا….

ولعل من خطط ضد الحراك في سوريا قد أدرك تماماً هذه الناحية وأثرها البالغ، فعمل على إطالة أمد الثورة.

تسليط الضوء على هذا الموضوع قادتني إليه عبارة لإيريك يقول فيها:

الجيوش ينتهي الانضمام إليها بالتسريح، أما الانضمام للحركة فأبدي، وأن الجيوش تسعى لتعزيز الحاضر وأما الحركات فتسعى لهدم الحاضر.

وهذا الموضوع يقودني للحديث عن ظاهرة أخرى على ارتباط به وهي التي سأتكلم عنها ضمن الفقرة التالية.

خامسًا: الهجرة:

بين فترة وأخرى ومنذ بدأ الحراك في سوريا وبدأت الأمور تشتد، كنا نفاجأ بأشخاص يقررون إخلاء الساحة والخروج خارج البلاد أي يقررون الهجرة، العجيب أن من هؤلاء من كانوا في مقدمة الداعين إلى النهوض نحو التغيير، في مقدمة الداعين للمظاهرات ومقدمة المتظاهرين، في مقدمة المخططين، والمنفذين.

كان هنالك العديد من الأسباب أو التفسيرات لذلك، إذ منهم من كان سبب خروجه، بالفعل اتضاح طول الأمد وعدم القدرة على تحديد نهاية للأحداث، ومنهم من كان خروجه بسبب اختلاف المسار الذي آلت إليه الأمور عن السياق الذي كان يخطط له، كاختلاف طبيعة الحراك من السلمي إلى العسكري، أو من اليد الواحدة إلى الفصائلي، ومنهم من كان يتذرع لنفسه بذريعة خدمة الحركة من الخارج ومنهم من هو بالفعل كذلك، ومع طول الأمد تزداد أعداد هؤلاء حتى وصل الأمر إلى حد أصبحت هذه الظاهرة ذات تأثير بالغ في نفوس الباقين وذات وقع سلبي شديد خاصة في ظل الحصار.

اللافت أنني خلال قراءتي لإيريك وجدته يقول:

  • الأشخاص الذين يسارعون للانضمام للحركات الجماهيرية سوف يسارعون إلى الهجرة لو أتيحت لهم الفرصة.

طبعا لا يمكن جعل هذه العبارة قاعدة عامة تنطبق على الجميع إلا أنه بالفعل سنجد بين الصفوف من سيكون هذا شأنهم.

سادسًا: ظاهرة تقمص سلوك الظالم (النظام):

مع وجود المناطق المحررة في سوريا، كان على مرجعيات الحراك الجماهيري البحث عن سبل إدارة هذه المناطق، وبدأت في هذه المرحلة تظهر العديد من الطروحات بخصوص كيفية إدارة هذه المناطق، وبدأت القوى الموجودة على الأرض تسعى لفرض تنظيم ما للمنطقة، وبالنسبة لنا في سوريا سواء المناطق التي وقعت تحت سيطرة قوة واحدة أو المناطق التي وقعت تحت سيطرة عدة قوى، فإننا لاحظنا مع الوقت ظهور ممارسات على الأرض من قبل البعض تحاكي تمامًا تلك الممارسات التي رفضها الناس من قبل النظام السابق وناضل للتخلص منها.

كان أمراً صادمًا جداً أن نجد ذلك بين الصفوف بعد التخلص من قبضة النظام، من هذه الممارسات ما يتعلق بالسجون أو ما يتعلق ببناء الأجهزة الأمنية والطريقة التي تمارس بها الأجهزة الأمنية دورها، أو ما يتعلق بجانب المحسوبية أو الفوقية أو الأداء الذي نسميه بالتشبيحي أو مظاهره، كل ذلك وجدنا تطبيقًا له بشكل مشابه تماماً لما كان في عهد النظام.

وكم دهشت عندما وجدت إيريك يوثق الملاحظة ذاتها فيقول:

من المفزع حقًا أن نلحظ كيف يعمد المظلومون إلى صياغة أنفسهم على شكل ظالمهم.

إذا فهذه الظاهرة ليست خاصة بالحالة السورية بل هي أمر وارد في جميع الحركات.

لم أرد من عرض هذه الظاهرة التبرير لمن ظهر منهم ذلك، كما أنني لا أريد وسم الثورة السورية بالمجمل بهذا الوسم الأسود، إذ إن المتابع للتفاصيل يدرك تماماً، مدى الرفض الذي قوبلت به هذه الممارسات داخل صفوف الحراك ومن قبل الكثير من المرجعيات، ولكنني أريد التوضيح لأولئك الذين جيروا وجود هذه الممارسات والسلوكيات لصالح توجيه القدح والذم نحو تيارات بعينها أو توجهات بعينها وجدت وبرزت بشكل واضح على الساحة السورية، ليتنبهوا بأن هذه السلوكيات واردة الظهور في إطار الحركات الجماهيرية أياً كانت توجهاتها، وهو واقع قد تعايشه الحركات الجماهيرية وتمر به فعليها التنبه إليه، وكم كان اصطياد هذه الحالات من قبل النظام ذا أثر سلبي على مسيرة الحراك.

سابعًا: الركون المبكر إلى الوضع الراهن في الحالة السورية:

ثمة للحديث في هذا السياق نقطتان:

تتعلق الأولى؛ بانتقال الحركة الجماهيرية بشكل عام في طورها الأخير في حال انتصارها من الوضع العشوائي إلى الوضع المنتظم والقانوني، وبالتالي فإن الفوضى التي أحدثتها الحركة بعمد أو بغير عمد سيكون لزاماً عليها أن تسعى لإنهائها، ولن تستقيم الأمور ببقاء الأوضاع في ذات السياق الذي سارت عليه مع بدايات الحركة، وإن العصيان الذي كانت تدعو إليه الحركة ضد النظام السابق بهدف إحداث التغيير، قد تواجه احتمال ترسخه كسلوك دائم لدى بعض الجماهير ضد أي تنظيم حتى وإن كان نابعًا من الحركة ذاتها، وهذه النقطة نوهت لها لدى الحديث عن الحرية واختلاف مفهومها من أشخاص لآخرين، وسنعود إليها لدى الحديث عن سلوك بعض الشرائح داخل الحركات الجماهيرية ضمن الفصل الرابع، وأما ما يهمنا هنا فهو ضرورة الانتباه إلى الطور الذي وصلت إليه الحركة والممارسات التي تتناسب مع هذا الطور، وإدراك وجود ذلك الطور الأخير الذي سيكون فيه لزاماً إعادة البناء من جديد.

هذا الطور يتحدث عنه إيريك فيقول:

تنشغل الحركة التي وصلت إلى الحكم بالحفاظ على الوضع القائم وتشجع على الطاعة والصبر بعد أن كانت تدعو إلى الأعمال الفورية والعفوية. 

كما وينقل أنه كان لوثر في بداية تمرده على الكنيسة يتحدث بحرارة عن الفقراء والبسطاء والمساكين، ولكنه في وقت لاحق عندما احتضنه الأمراء الألمان أعلن أن (الله يفضل أن تكون هناك حكومة مهما كانت شريرة، على الفوضى التي تتيح للرعاع الإخلال بالأمن مهما كانت ظلاماتهم مشروعة). 

إذاً قد يكون ذلك تلاعبًا أو خبثًا من القائمين على الحراك، أو أمراً لا بد منه في نهاية المطاف، وتوجهًا سليمًا يخلو من أي تلاعب على الجماهير أو أي إيهام لهم، أو أي ممارسات تناقض ما قامت من أجله الجماهير.

وعندها ستكون الطاعة مطلوبة، وسيكون هناك سؤالان:

 الأول: لمن ستكون الطاعة؟ ولمن ستسلم الجماهير طاعتها من جديد؟

الثاني: هل بالفعل وصلنا إلى المرحلة التي علينا فيها أن ننتقل للوضع المنتظم، وهل حققت الحركة أهدافها؟

من خلال ما عايشناه كان هذان السؤالان والجدل حولهما محل تأثير سلبي بشكل كبير على مسار الأمور لصالح نجاح الحراك.

ولعل السؤال الأول نناقشه خلال الحديث لاحقاً حول مسألة القيادة.

 وأما الثاني فهو على صلة بالنقطة الثانية المتعلقة بهذه الفقرة، وهي خاصة بالحالة السورية ضمن المناطق المحررة.

 هل وصلنا إلى مرحلة حقق فيه الحراك أهدافه وبات علينا الانتقال إلى طور الهدوء والركون إلى ما تم تحقيقه ليكون المطلوب الآن هو الحفاظ على الوضع الراهن؟

أخطأ الكثيرون من أصحاب القرار في المناطق المحررة عندما وجهوا الأمور بهذا المنحى من حيث يدرون أو لا يدرون منحى ممارسات الركون إلى الوضع الراهن وكأن الثورة حققت أهدافها وانتهينا كلياً من النظام وأصبح علينا الانتقال إلى المرحلة التالية، وكان السعي نحو ترسيخ السلطة لأحد أطراف الحراك على حساب الآخرين والعمل على استقطاب الجماهير نحو طرف على حساب الآخر بل على حساب الخط العام للثورة سلوكًا سيئًا جداً.

في حركة جماهيرية تتضمن أطرافًا عدة وليس طرفًا واحداً يقودها، فإنها ستخسر عندما يبدأ هؤلاء الأطراف أو بعضهم بممارسات تتعلق بمراحل لاحقة، مكانها بعد نجاح الحراك بشكل كامل وليس قبله، وبالتالي لتكون هذه الممارسات سابقةً لأوانها، وعاملاً مكبلاً للحراك بدل أن يكون دافعًا له نحو تحقيق أهدافه.

هذه الممارسات مرجعها إلى أسباب عدة، منها ما يتعلق بالخطأ في التقدير الصحيح للمرحلة التي نحن فيها الآن وما تتطلبه هذه المرحلة منا لينجح الحراك، وعدم إدراك مدى الأثر السلبي لإقحام الجماهير والساحة الثورية بممارسات أو سلوكيات أو أفكار قبل أوانها تتعلق بمرحلة لم تحن بعد.

ومن هذه الأسباب ما يتعلق بوصول أشخاص تستهويهم مصالحهم الشخصية وطموحاتهم الذاتية وتدفعهم نحو تثبيت مكاسبهم الشخصية ولو على حساب الأهداف العامة للحركة الجماهيرية، وهؤلاء الذين عناهم يريك بالقول التالي:

عندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية فمعنى هذا أنها اجتازت مرحلتها الأولى النشطة، بمعنى أنها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل الحفاظ على الأوضاع الحالية.

وبالفعل كان من الطامات التي ابتليت بها الثورة السورية وصول أناس لدائرة القرار؛ همهم أشخاصهم وذواتهم أو أطرهم الضيقة، وبالتالي كان سلوكهم على النحو الذي بينه إيريك نحو تثبيت مكتسباتهم ولو على حساب تعطيل مكتسبات الثورة.

 ثامنًا: ظاهرة الأدعياء والأنانيين وأثرهم:

خلال سنوات الثورة وجدنا نموذجا من الناس كان لديهم من المزاودة وادعاء المبادئ والحرقة ما كان يجعلنا نشك في أنفسنا، تجد منهم من الدعاوى ما يجعلك للحظات تقول في نفسك إنني لم أقدم شيئاً وهؤلاء هم كل شيء وغيرهم لا شيء، ولكن مع الوقت تكتشف كم كان في كلام هؤلاء من مزاودة وكم كان لديهم من مظاهر لا طائل منها سوى اجتذابهم للأضواء نحو أنفسهم وتصغيرهم لكل من هو دونهم من خلال ما يبثونه من عناوين وبطولات وملاحم وشعارات، من هؤلاء من فوجئنا بأنانيتهم المفرطة لاحقاً ومنهم من فوجئنا بلحظة فقدناهم فيها لنكتشف هجرتهم ليخرجوا تاركين وراءهم كل ما أطلقوه من مزاودات، ومنهم من فوجئنا بسلوكه لدى حيازته شيئاً من مكانة أو سلطة، بل ثمة ما هو أكبر من ذلك إذ منهم من فوجئنا بعمالته للنظام.

ذكرني بهؤلاء قول إيريك:

من المفارقات أن الأنانيين أنانية مفرطة؛ هم الذين يحتمل أن يصبحوا أبطال الدعوة إلى إنكار الذات ………، برغم أن هؤلاء يدعون إلى الحب والتواضع، فهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن الحب والتواضع.

هؤلاء ليسوا بعيدين كثيراً عن الصنف الذي ذكرناه ضمن الفقرة السابقة، أذكر نموذجًا عايشناه كان من أكثر المؤنبين للشباب عند تقاعسهم عن القتال أو التضحية، وكان هو أبعد ما يكون عما يدعوهم إليه، وكان من أكثر المؤنبين للشباب لدى تذمرهم بسبب سوء الأوضاع المعيشية التي مررنا بها جراء الحصار الجائر الذي فرضه النظام، في الوقت الذي كان لا يمسه طرف من هذه الشدة التي كان يعيشها الناس.

تاسعًا: ظاهرة الفوقية والتعالي بحجة حيازة الحق أو الانتماء للحركة:

كم كان مشهداً رائعاً ذاك التلاحم الذي قام ابتداءً بين الكثير من الناس وبين المتظاهرين ومن يحميهم، وكم كان واقعًا مؤلمًا عندما عكر صفو هذا التلاحم والترابط عوامل عدة وممارسات عدة، لا أحمل صف الثورة جميع أسباب ذلك، ولكن من هذه الأسباب ما كان ذاتيًا كما هو الحال بالنسبة للظاهرة التي بين أيدينا.

نظرة الناس ابتداءً لهؤلاء الذين استطاعوا كسر جميع حواجز الخوف وخرجوا دفاعًا عن المظلومين تكاد ترتقي إلى مستوى جعلهم قريبين من الملائكة، ولكن مع الوقت بدر من البعض ما بدد هذه النظرة، بسبب طول أمد الثورة وبسبب ما بدر من البعض من سلوكيات خاطئة مع الوقت.

إن بذلي وعطائي وتقديمي وتضحيتي لا ينبغي أبداً أن يكون سببًا في استعلائي على الناس، وإن دخولي في صفوف العمل الجماهيري ذي الأهداف السامية لا يعني أنني أصبحت من الدجة الأولى وبقية الناس من الدرجة الثانية.

كثيرون هم الذين رأيناهم على الأرض بوعي أو بدون وعي جعلهم انخراطهم في الثورة يعاملون الناس بنظرة دونية، وكان لذلك أثر سلبي في نفوس الناس أدى لتغير النظرة نحو هؤلاء، وخاصة بعد أن خلت المنطقة من النظام، والتفت هؤلاء إلى الشارع الداخلي.

يقول إيريك:

الحقيقة أن التخلص من النفس وإذلالها قد يقود إلى الغرور والكبرياء، فينزع المؤمن إلى اعتبار نفسه واحداً من الصفوة المختارة.

عاشراً: ظاهرة التنازع على القيادة:

سبع سنوات وأكثر مرت على الثورة السورية، حملت مآسٍ جمة لم تكن كافية لترغم الثائرين على الاجتماع في إطار قيادة واحدة للحراك أو حتى الانخراط في إطار للتنسيق فيما بينهم.

حتى عندما كنا في الحصار لسنوات في الغوطة الشرقية، لم تتمكن المنطقة من الدخول تحت قيادة واحدة رغم الجهود العظيمة التي بذلت.

لطالما خطر لي أنه ربما هنالك عدة عوامل وظروف لابد أن تجتمع لتهيئ الظروف للدخول تحت القيادة الواحدة، حتى ضمن الكيان الواحد كنت تجد العديد من الانشطارات، وكانت مسألة القيادة محل جدل وصراع على الدوام، إلى حدٍ لا يخفى على أحد كم كان له من دور كبير في تأخر وصول الثورة لأهدافها.

تحليل هذه الظاهرة في الحالة السورية أمر معقد للغاية، بقدر تعقد المشهد بالمجمل وتعقد العلاقات الدولية والأيدي الدولية التي دخلت عليه، وكما كررت لدى الحديث عن عدة ظواهر فإنني أقول هنا: بغض النظر عن العوامل الخارجية التي أثرت في وجود هذه الظاهرة فإن من يقرأ ما كتبه إيريك بهذا الخصوص يدرك بأنه ثمة سياق وكأنه لابد أن نمر به، وثمة أحداث وظروف لابد أن تظهر على المسرح قبل أن تصل الحركة الجماهيرية للمرحلة التي تصبح فيها قادرة على الالتفاف حول القائد.

أقول هذا الكلام مع إدراكي لعظيم ما دفعناه من ثمن نتيجة عدم تحقق هذا الالتفاف، وإدراكي بأنه من المفترض أن يكون ما لدينا كشعب من إرث حضاري عريق وثقافة ما يجعلنا نجتاز مخاض الوصول للقائد في وقت أقل مقارنة بغيرنا، ولكنه واقع عشناه ولا مفر منه.

لدى الحديث عن ظاهرة الركون إلى الوضع الراهن في المناطق المحررة نوهت إلى مسألة الطاعة وأنني سأعود إليها لدى الحديث عن مسألة القيادة، وقد وصلت إلى مناسبة العودة هذه النقطة لأقول: كان من أسباب عدم تحصيل الطاعة والالتفاف حول بعض ممن كانوا يبرزون للقيادة هو شعور الأفراد بأن هؤلاء يقودون الأمور بطريقة الركون إلى الوضع الراهن وليس نحو متابعة الطريق، وهو ما لم يكن أمراً مقبولاً لديهم.

بالمجمل فإنني أقول: إن ظهور القائد والالتفاف حوله يعتمد على ثلاث ركائز:

القائد نفسه وشخصيته وما لديه من ملكات.

الجماهير ومستوى وعيها، وقناعاتها.

الظروف المحيطة.

وحول هذه الركائز الثلاث يقول إيريك:

خلال الثلاثينات كان القائد تشرشل معروفا ومشهورًا يصل صوته إلى الناس، إلا أن الرغبة في اتباع القائد لم تكن موجودة، كان لابد من الانتظار إلى أن جاءت الأزمة وهزت البلاد.

إن الأحداث وسلوك الآخرين والمصادفات، هي العوامل التي تهيئ المسرح قبل أن يظهر القائد.

إن الذكاء الخارق ونبل الشخصية والابتكار لا تبدو، أموراً ضرورية بل قد لا تكون أموراً مرغوبًا بها، الصفات التي تبدو ضرورية هي الشجاعة والاستمتاع بالتحدي والإرادة الحديدية والإيمان الذي لا يقبل نقاشاً…….. القدرة على الكراهية المتقدة، احتقار الحاضر، القدرة على تحليل الطبيعة البشرية، الولع بالرموز، الثقة المطلقة التي تصل إلى حد الاستخفاف بالعدالة والمنطق، معرفة شوق الجموع إلى الالتحام بكيان جماعي والذوبان فيه، القدرة على كسب ولاء مجموعة من المساعدين الأكفاء والاحتفاظ بهم وهذه الخصلة الأخيرة واحدة من أهم الصفات.

ملاحظات دقيقة وجديرة بالاهتمام باستثناء مسألة الاستخفاف بالعدالة فإنها يمكن أن تكون سببًا في فرض القائد لنفسه، ولكننا لا نسلم بأنها صفة لا ينجح القائد إلا إذا تحلى بها، بل على العكس الأجدر أن نقول بأن اهتمام القائد بالعدل أهم سبب يقدمه للقيادة، ولكن تأثر إيريك بالنماذج التي عاصرها هو ما دفعه ربما لقول ذلك.

أحد عشر: الصراع البيني الداخلي:

يداً واحدةً كانوا يعملون على تخليص الناس من وطأة النظام وبذلوا الأرواح في سبيل ذلك، وبدأ انحسار النظام عن مساحات من البلاد، واقتصر وجوده على بعض مراكز المدن، إلى حد جعل الكثيرين يظنون بأن ثمرة الحراك بتغيير النظام باتت قاب قوسين أو أدنى، عندها دخل على خط الحراك مسألة إدارة ما تمت حيازته من مناطق، هذه المناطق التي كان الجميع يعمل ضمنها معاً ضد النظام، لكنهم اليوم أخرجوه فزال شاغلهم، فرأيت الخلاف فيما بينهم بدأ يظهر.

كثيرة هي الأصوات التي أخذت تنادي لتكفهم ولكن لا حياة لمن تنادي.

وكأن الأهداف قد تحققت كاملة وكأن الثمرة قد نضجت، وبات علينا فقط أن نتقاسم النتاج.

وبالعودة إلى ما قلنا لدى الحديث عن ظاهرة الركون إلى الوضع الراهن فإنني أقول: لربما يكون الصراع سياقاً طبيعياً لدى متابعة بعض أحداث الحركات الجماهيرية التي حققت الانتصار على النظام الذي قامت ضده، ولكن المصيبة في الحالة السورية كانت أن الصراع تولد قبل تمام النصر نتيجة توهم البعض بأن النصر قد تحقق ووصلنا لمرحلة التقاسم، أو توقف البعض عن التفكير بمصلحة الثورة والسعي نحو المصالح الشخصية، وعليه فإنه كثيراً ما كان يتبادر لأذهاننا بأن المناطق المحررة كانت خسارة للنظام، حوَّلها إلى نقطة قوة عندما جعلها فخاً لإخلاء الساحة للصراعات البينية، وهو ما صرحت به روسيا كأمر تعول عليه للقضاء على الجميع ضمن المناطق المحررة، أكثر من مرة.

وعندما نقرأ كلام إيريك في وصف هذه الظاهرة ندرك بأن الثورة السورية لم تتفرد بها دون غيرها من الحركات الجماهيرية، بل هو أمر وارد الحدوث ما لم تمتلك الحركة الجماهيرية الحد الكافي من الوعي الذي يجنبها ذلك.

يقول إيريك:  

عندما يتم النصر ويبدأ النظام الجديد في التبلور يصبح المتطرف عامل توتر وإرباك ……….. من هنا تجد معظم الحركات الجماهيرية نفسها غداة انتصارها في قبضة الشقاق والخلاف.

تتحول الحماسة التي كانت في السابق تتجلى في صراع حتى الموت مع أعداء خارجيين إلى صراعات عنيفة وصدام بين الأجنحة، وتتحول الكراهية إلى عادة متأصلة.

بمجرد أن يغيب الأعداء الخارجيون يبدأ المتطرفون معاداة بعضهم بعضاً.

وسنوضح ما يقصده إيريك بالمتطرفين ضمن الفصل الرابع.

اثنا عشر: شيطان الحركة الجماهيرية:

نوه إيريك هوفر إلى فكرة شيطان الحركة الجماهيرية في سياق حديثه عن الكراهية كأحد العوامل التي تشجع على العمل الجماعي داخل الحركة الجماهيرية وأما بقية العوامل فكانت: التقليد – الإقناع والقمع – القيادة – العمل – الشك.

ولدى حديثه عن الكراهية يبين بأن تمحور الجماهير حول ما يكرهونه مما يساعد على صهرهم واندماجهم في العمل الجماعي داخل الحركة، وبالتالي فإنه لابد لكي تنجح الحركة في سيرها بأن تصوب الكراهية وبالتالي العداء نحو شيطان خاص بها، ويستعرض أمثلة على ذلك، النازية حيث جعلت شيطانها اليهود، والشيوعية جعلت شيطانها الرأسمالية… وهكذا.

ولكي تنجح الحركة فإنه عليها أن تكون قادرة على إيجاد شيطانها وتصوب نحوه، ويقول:

يمكن عادة أن نقيس قوة الحركة الجماهيرية بمدى نجاحها في إيجاد شيطانها وتجسيده.

ويمكن أن أشير هنا إلى نقطة هامة جداً لم ينوه لها إيريك، وهي أن هذا الشيطان يمكن أن يكون في بعض الحركات عدوًا مختلقًا بالفعل من قبل مرجعياتها بقصد كسب انصهار جهود الجماهير وتأطيرها وتوحيدها لتصب في اتجاه واحد ضد هذا الشيطان، كما أنه يمكن أن يكون هذا الشيطان موجودًا بالفعل ولا توجد مراوغة من قبل المرجعيات لاختلاقه.

بإسقاط ذلك على الحالة السورية، نجد بأن ما تمحور الحراك الجماهيري حول عدائه منذ البدايات هو النظام وأجهزته الأمنية القمعية وحزبه الحاكم، وكانت جهود الجميع وكراهيتهم تتمحور حول ذلك فقط، وكانت ثمرة ذلك، النجاح في استثمار جهود الجميع لتصب بهذا الاتجاه.

مع مضي الوقت وطول أمد الحراك وبشكل مدروس من قبل أعداء الثورة جرى العمل على إقحام العديد من الشياطين على خط الثورة، وهو ما كان له الأثر البالغ في بعثرة الجهود.

على المستوى العام أدرجت داعش وجرى العمل على إقحامها شيطانًا بديلاً عن النظام، ولم يكن هنالك بد من القتال معهم بعد أن كان منحصراً ضد النظام، وبلغ الأمر حداً أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية تصرح بأن استراتيجيتها مبنية على إعطاء الأولوية لقتال داعش وليس لقتال النظام، وذلك بعد سنوات من القتل والفتك الذي أحدثه النظام، ووضعت ذلك شرطا لاستمرار دعمها للفصائل التي كانت تدعمها، بحيث تشترط عليها التوجه ضد داعش وليس ضد النظام.

وعلى مستوى المناطق فإن الصراعات البينية التي نوهنا لها سابقاً كانت سببًا في شطر الشيطان إلى شياطين، بجيت أصبح لدى كل من الفصائل شياطين أخرى إلى جانب الشيطان الرئيسي وهو النظام، ولا يخفى ما خلفه ذلك من آثارٍ سلبيةٍ جداً على مسار الثورة وعلى استثمار الطاقات داخلها كعمل جماعي ضد شيطان واحد.

الفصل الرابع

رجال الكلمة والمؤمنون بالتغيير الجذري فقط (المتطرفون أو الراديكاليون) والثورة السورية

يرى إيريك بأنه ثمة أطوار تمر بها الحركة الجماهيرية أو الثورات وضمن كل طور سيكون هناك دور بارز لفئة محددة من المنخرطين ناتج عن الانسجام ما بين طبيعة هذه الفئة ووظيفتها وبين طبيعة هذا الطور ومتطلباته.

 هذه الأطوار هي التمهيد والبداية والنهاية وهذه الفئات هي رجال الكلمة والمتطرفون والرجال العمليون.

ويختم كتابه بالقول:

باختصار: الحركة الجماهيرية يخطط لها رجال الكلمة، ويظهرها إلى حيز الوجود المتطرفون، ويحافظ على بقائها الرجال العمليون.

وسأعمل خلال هذا الفصل على المقارنة بين الأفكار والملاحظات التي وثقها إيريك في هذا السياق وبين الواقع الذي عايشناه والسلوك الذي رأيناه من قبل هذه الفئات على أرض الواقع في الحالة السورية.

مع الإشارة إلى أن الثورة السورية لم تبلغ ذلك الطور الذي يتقدم فيه الرجال العمليون بحسب إيريك وذلك حتى اللحظة التي كنت أكتب فيها هذه الورقات، علماً أنه يقصد بالرجال العمليين أولئك القادرين على قيادة الواقع من طور النهايات نهايات الحركة إلى طور الاستقرار والحياة الجديدة.

أعود لعبارة إيريك التي نقلتها في الفصل الثاني وهي:

إن الجزء الثابت من أي أمة هو وسطها الذي يتكون من المواطنين العاديين الذين يقومون بأعمالهم في المدن والأرياف، كثيراً ما تتحكم بهم أقليتان: الصفوة من طرف، والغوغاء من طرف آخر.

كنت علقت على استعماله لاصطلاح الغوغاء بأننا في سياق الحديث عن بدايات الثورة لا يمكن أن نقبل بهذا التوصيف لأولئك الذين كانوا بمثابة شرارة الاشتعال، إنما يمكن ان نصفهم بأنهم عفويون بالمجمل ويمكن أن يكون بينهم غوغائيون، ولكنهم جزء من كل، وهؤلاء العفويون تميزوا بأنهم لم يكونوا مقيدين بأي علاقات أو مصالح خاصة أو احترام للحاضر عندما تطلب الأمر نصرة لمظلومين أو سعياً لمطالب محقة، وهذا الكلام أقوله من باب الإنصاف لثلة ممن نحسبهم من الصادقين عرفناهم عن قرب منذ البدايات ولا أستطيع وصفهم بالغوغاء.

لكنه يمكنني القول بأنه بالفعل في بدايات الثورة السورية كان الدور الأبرز لهذين الصنفين من الناس، العفويون والصفوة أو الطبقة المرجعية والتي منها يبرز من أسماهم إيريك برجال الكلمة.

ثم في نهاية كتابه يتحدث عن دور كل من رجال الكلمة والمتطرفين.

إذاً نوه إلى صنفين ابتداءً وهم الصفوة والغوغاء، وإلى صنفين في آخر كتابه وهم رجال الكلمة والمتطرفون، ويمكن اعتبار رجال الكلمة من الصفوة والمتطرفين بالمعنى الذي قصده إيريك، من الغوغاء بالمعنى الذي أشرت إليه عن الغوغاء لا بمطلق المعنى الذي تحمله الكلمة.

رجال الكلمة والثورة السورية:

كل مجتمع لا بد أن تكون ضمنه نخبة أو صفوة يكون لها دور في توجيه هذا المجتمع وتتفاوت نسبة الانسجام بين عناصر هذه النخبة من مجتمع لآخر، فضلاً عن اختلاف تركيبة هذه النخبة من حيث تنوعها من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر، وبالحديث عن المجتمع السوري فإن النخبة التي كانت تتصدر المشهد قبيل الثورة السورية تتنوع ما بين المرجعيات الدينية بحكم طبيعة المجتمع السوري ذي الأغلبية الإسلامية، وما بين المرجعيات الفكرية والأدبية من أكاديميين وناشطين وثلة من المعارضين الذين كان لهم هامش لا يكاد يذكر بحكم القبضة الأمنية الحديدية التي يحكم بها نظام البعث، والتي جعلت الممارسة السياسية أو التنظيمية داخل المجتمع حكراً على الحزب الحاكم وإلى جانبه مزيج فلوكلوري من التنظيمات التي يتحكم بها ويبرزها ليخفي قبضته الحديدية، ولا ننسى في سياق الحديث عن النخبة أيضاً طبقة الممثلين والمغنين ومن يحسبون على الوسط الفني أو الرياضيين، حيث لا يخفى ما لهذه الطبقة من دور في توجيه الرأي العام وهو ما استثمره النظام بشكل كبيرٍ جداً إلى حد أنه استثمر بنخب من هذا الوسط حتى من خارج سوريا لصالح تأييد بطشه ضد الثورة.

ولدى بداية الثورة السورية فإنه قد طرأ على هذه الطبقة – أي النخبة – ما طرأ على المجتمع بأكمله كما أشرنا ضمن الفصل الثاني من انقسام، حيث وجدنا ضمن كل فئة من فئات النخبة التي أشرت إليها قسمًا انحاز إلى جانب النظام ووقف في صفه وأيده، أو على الأقل عارض الحراك بالصورة التي قام عليها، سواء أكانوا مرجعيات دينية أو فنانين أو رجال فكر أو أدب أو غيرهم، وقسم وقف على الحياد أو خرج خارج البلاد، وقسم وقف في صف الثورة وأيدها.

وبالطبع فإن نخبة المجتمع ينطبق عليها ما ينطبق على المجتمع بأكمله لدى تفسيرنا لسلوك أفراد النخبة، حيث أننا سنجد أن دوافع البعض كانت المصالح الشخصية والحفاظ على مكاسبه أو مكانته أو منصبه لدى النظام، ودوافع البعض كانت الركون إلى الحاضر وعدم إدراك إمكانية التغيير أو الخوف من التغيير والخوف من المجهول، والبعض أدرك ظلم النظام وبطشه وأدرك إمكانية التغيير وامتلك الشجاعة على اتخاذ الموقف ووقف في صف الثورة.

ولا ننكر بأننا تفاجأنا كثيراً من مواقف الكثيرين من أفراد النخبة سواء أكانوا من فئة المرجعيات الدينية الإسلامية ممن كانوا ذوي شأن ومكانة وحظوة لدى الناس قبل الثورة، أو كانوا من فئة المفكرين أو الأدباء أو ممن كانوا من فئة الوسط الفني أو الرياضي ممن كانت لهم أيضا مكانة لدى الناس، عندما تعاموا عن بطش وفتك وظلم النظام وأجهزته الأمنية، ووقفوا في صف النظام، بل رأينا بعضًا من الممثلين الذين من المفترض أن يكونوا نموذجًا للحق والعدل والرأفة مقارنة بالأدوار التي كانوا يؤدونها أو بالمقابلات التي يجرونها قبل الأحداث، رأيناهم يكشرون عن أنيابهم ويظهرون على حقيقتهم.

وفي المقابل كان انحياز الكثيرين من أفراد النخبة من جميع الفئات إلى صف الثورة محل ابتهاج وترحيب في صفوف الحركة الجماهيرية السورية.

إذا وبالمجمل؛ فإنه ظهر لنا وبشكل واضح وجلي الدور البارز الذي يلعبه هؤلاء في قدح شرارة الاشتعال أو في دفع عجلة الثورة فيما بعد، وكان من أسماهم إيريك بـ”المتطرفين” أو “الغوغائيين” بانتظار موقف المرجعيات ثم توجيهها، ويتطلعون إلى أن تقوم هذه المرجعيات بترجمة ما يجول في نفوسهم حيث إن أفراد النخبة كانوا أكثر قدرة على التعبير وأكثر قدرة على صياغة وترجمة فظائع النظام وعرضها عرضاً منطقيًا وعلميًا، يقول إيريك:

إن هؤلاء المتطرفين لا يستطيعون أن يتحركوا ويأخذوا زمام الموقف إلا بعد تعرية النظام القائم وتجريده من شرعيته لدى الجماهير، ولا يمكن لهذا العمل التمهيدي الذي يستهدف تقويض المؤسسات القائمة وتعويد الجماهير على فكرة التغيير وإيجاد الجو الملائم لقبول العقيدة الجديدة إلا عن طريق رجال هم أولاً وقبل كل شيء رجال فكر وأدب يعترف لهم الجميع بهذه الصفة.

وبدون هذا الدور فإن الوضع ربما يبقى راكداً، والناس يتعايشون معه:

طالما ظل النظام القائم يقوم بواجباته على نحو منتظم فستظل الجماهير متعايشة معه.

كانت عبارات المظاهرات يكتبها النخبة ويحملها العفويون، وعندما حاول النظام الضحك على الناس عبر الوفود التي تدعي تسجيل مطالب الناس كان النخبة من مفكري البلدات ومشايخها هم الذين يحاورون، وينظر الجميع كلمتهم وقرارهم، وكانت خطب المشايخ الملهبة ومواقفهم وتعريتهم لجرائم النظام ذات أثر بالغ في توجيه الناس.

هذا فيما يتعلق بالحديث عن التمهيد وعن البدايات التي اتسمت بالحراك السلمي، وأما عندما تحول الأمر إلى صدام وقتال؛ فإن المشهد أصبح أكثر رعباً وأصبح أكثر هلعاً، عندها رأينا قسماً ممن كانوا يدفعون نحو الحراك توقفوا عند لحظة العمل المسلح التي أجبر النظام الناس عليها، ولم يعودوا قادرين على المتابعة في ظل الواقع الجديد، وفي ظل شبح الفوضى الذي بدأ يلوح بالتوازي مع ضعف النظام الذي بدأ يظهر، هؤلاء يقول عنهم إيريك:

عندما يبدأ النظام القديم بالتهاوي نجد أن عددًا كبيرًا من رجال الكلمة المعارضين الذين صلوا من أجل هذا اليوم يصابون بالهلع، ينتابهم من النظرة الأولى إلى الفوضى العارمة؛ فزع يشل قواهم العقلية.

كانت الساحة في الأصل قد خسرت جزءًا من النخب عندما وقفوا على الحياد أو انحازوا إلى صف النظام ثم خسرت من جديد قسما آخر عندما بدأت مرحلة العمل المسلح وبدأت الأمور تتجه نحو التصعيد والفوضى مع انحسار النظام، ولم يبق حينها سوى قلة من المرجعيات المخضرمين أو مرجعيات من الدرجة الثانية، وهذا الكلام ينطبق على جميع فئات النخب وخاصة المرجعيات الدينية الإسلامية ذات التأثير البالغ على الناس بحكم طبيعة المجتمع السوري، فقد كان فقدان المجتمع للكثير من أهل العلم والمرجعيات سبباً في اعتماد الناس على مشايخ أقل علماً وأقل خبرة، وفقد الناس في كثير من الأحيان والمناطق ذا الكلمة المؤثرة أو ذا الرأي النافذ، الذي يقول عن خبرة وعلم وحكمة، ويُسمع له إذا قال، ولا يخفى ما كان لذلك من أثر سلبي بالغ على الساحة السورية، بحيث اعتمد الناس على طلاب علم بدل العلماء او على جهال بدل طلاب العلم، ووجد أفراد النخبة من الدرجة الثانية أنفسهم وجها لوجه أمام الصدارة في الكثير من المواقف والمراحل كما استطاع الكثيرون من الأدعياء أو الباحثين عن المكانة ضمن هذه الظروف فرصة للتصدر والتقدم، وعندها ظهرت الأفكار الشاذة وظهر المزايدون وظهر المتنطعون وظهر المجبرون على التصدر في ظل خلو الساحة، ناهيك عن أولئك الذين بثهم النظام بقصد الاختراق والتدمير من الداخل، ولنا أن نتخيل كيف سيكون المآل بعد ذلك.

ثم مع طول أمد الثورة لم يدع النظام بابًا يحاول من خلاله اختراق الثورة إلا وطرقه وكان من ذلك محاولته استمالة بعض النخب التي كانت في صف الثورة أو شراؤهم أو إيجاد الذرائع أو الحجج التي يتحايل بها عليهم، وعندها كنا نفاجأ بين الفينة والأخرى بتبدلات في مواقف البعض أو تنقلات إلى الصف الآخر، وكان ذلك مفاجئاً عندما يصدر عن رجل مرجعي أكثر منه مفاجأة عندما كنا نراه من الأناس العاديين، لنكتشف بأن بعضاً من هؤلاء كان وقوفهم في صف الثورة مشوباً بحسابات أخرى، أو أنه كان كافياً لزعزعة إيمانهم بما خرجت الجماهير من أجله، بعض من العروض أو الإغراءات أو التحايلات أو الامتيازات يقدمها النظام إليهم، أو بعض من التواصلات من قبل شخصيات رفيعة لدى النظام أو التواصلات مع رتب عالية من قبل الروس، وكي أكون منصفًا فإنني أستثني أولئك الذين بلغوا من الجهد والضيق ضمن مناطقهم مرحلة لم يكن لديهم خيار آخر فبدر منهم ما بدر، هؤلاء الذين يبدلون موقفهم يتحدث عنهم إيريك بالضبط فيقول:

هناك في مرحلة من المراحل استعداد لدى رجال الكلمة للانضمام إلى النظام القائم وخدمته، هناك من يرى أن البابا لو منح لوثر رتبة الكاردينال لخفف ذلك من حماسته لقيادة الثورة ضد الكنيسة.

فقد يكون التحاق البعض بحثا عن غايات شخصية، ولو قدمها لهم النظام لبدلوا موقفهم، ووجود هؤلاء بين النخب واردٌ بنسبة أكبر من وجوده بين الناس العاديين، لأن هؤلاء يعتدون بأنفسهم ويعتبرون الحظوة والمكانة لائقة بهم، بشكل أكبر مما يجده الناس العاديين في أنفسهم، وبحثهم عن ذلك أكثر، إلا من كان يحترم المبادئ والدماء وطاقات الجماهير أكثر من احترامه لمكانته وحظوته وذاته.

لن أدخل في التسميات وهو ما اعتمدته فيما كتبته تحاشياً للدخول في السجالات الجانبية علمًا أنه يحضرني الكثير من النماذج والأمثلة حول الأفكار التي أعرضها من خلال التجربة التي عشناها.

ولكن هنا بإمكاني الإشارة إلى نموذج لا يختلف عليه اثنان من المنصفين عايشناه عن قرب وكان من المرجعيات التي قسمت ظهر الغوطة في أصعب وأحلك اللحظات، وهو بسام ضفدع.

بسام ضفدع؛ مرجع شرعي كانت له مكانة بين الناس قبل الثورة كمرجع شرعي وشيخ مرب له تلاميذه ومريدوه، خلال فترة الثورة بقي في بلدته ولم يخرج رغم خروج النظام منها والتزم الصمت فترة طويلة مع بقاء مكانته على حالها بين الناس ثم بدأ ينشط في التعليم ويجمع من حوله طلابا ومريدين أكثر داخل مجتمع الغوطة المحررة من النظام التي عاش فيها بسام طوال السنوات السبع التي مرت عليها بمعاركها وقصفها من قبل النظام وحصارها الشديد الأليم ، ولم يكن يظهر منه أي موقف ضد الثورة كما أنه لم يكن يبرز منه كثير تحمس لها، ولكنه لم يكن الوحيد الذي هذا شأنه؛ بل كثيرون كان يعتبر مجرد بقائهم موضع احترام وتقدير حتى وإن قدموا العلم فقط، ويظن من يراهم بأن هذا ما يستطيعون تقديمه ويرضى بذلك منهم، وبالتالي لم يكن أمراً سهلاً اكتشاف من كانت لديه نوايا أخرى من بين هؤلاء، وعليه فإن مكانة “الشيخ” بسام بقيت كما هي بل أخذت بالتنامي من جديد خلال الفترة الأخيرة من تواجدنا في الغوطة، وهذا جعله مرجعاً أو من رجال الكلمة الذين يتحدث عنهم إيريك، لدى قسمٍ من الناس في المنطقة.

ربما يكون هنالك من تنبه إلى احتمال عدم ملاءمة ما يبثه بسام ضفدع ضمن المجتمع ولكن لم يتم أخذ ذلك بعين الاعتبار بشكل كبير لأنها كانت مجرد ظنون ولم يكن ثمة ما يدل عليها بشكل قاطع.

 كانت الحملة الأخيرة من قبل النظام والروس على الغوطة أشرس حملة تشهدها المنطقة وربما أشرس حملة تشهدها سوريا، وبدأت الصفوف داخل مجتمع الغوطة تهوج وتموج وبدأ تقدم النظام يتضح على بعض الجبهات إلى أن وصل إلى مشارف البلدة التي يعيش فيها بسام وهي كفر بطنا من أكثر من اتجاه، عندها بدأ موقفه بالانجلاء وبدأ ميله إلى جانب النظام، بشكل تدريجي يتضح، وبدا أن ذلك لم يكن وليد لحظته بل كان أمراً مدبراً منذ فترة، وكان لمكانة “الشيخ” بسام كرجل كلمة دور بارز في التفاف الكثيرين من أتباعه من حوله بحيث شكلوا درعاً منع من محاسبته أو مقاضاته في تلك اللحظات العصيبة، حيث كان بين هؤلاء كثيرون ممن يحملون السلاح أداروا بنادقهم فجأة وانتقلوا إلى الصف المقابل كما وجههم بسام ضفدع، وأمنوا دخول النظام.

لم يكن صحيحاً ما نشر حينها بأن بسام ضفدع كان مرجعاً شرعيا داخل أحد فصائل الغوطة العسكرية، إلا أنه كان بالفعل أحد المرجعيات الشرعية ضمن منطقته وللعديد من أتباعه في البلدات الأخرى، وكان لموقفه دور كبير في سرعة حسم الوضع لصالح النظام.

 من يقرأ عن هذا النموذج ربما يفقد الثقة بأي مرجعية أو رجل كلمة، ولذلك أقول إنه إذا ما كان ثمة هذا النموذج في الغوطة أو أمثاله في الثورة السورية، فإنه مقابل ذلك ثمة نماذج وصور مشرقة من رجال الكلمة الذين ضحوا بكل شيءٍ في سبيل القضية المحقة التي خرجوا من أجلها، منهم من فقدناهم وفارقوا الحياة ومنهم من بقوا مع الناس شأنهم كشأنهم حتى بعد التهجير القسري الذي تعرضنا له، وبالتالي لم يكن هؤلاء ليتراجعوا أو ليبدلوا أو يخدعوا الناس أو يخدعوا أنفسهم بالدرجة الأولى.

المهم هو أن يتضح بالفعل ذلك الدور الكبير الذي يمكن أن يلعبه رجال الكلمة ضمن الحركة الجماهيرية وكيف كان لهم دور كبير في الثورة السورية سواء مع أو ضد النظام، أو حتى فيما بين الأجنحة والفصائل الثورية بقصد جمع كلمتها أو التحريض فيما بينها.

المتطرفون والثورة السورية:

سأتكلم عن هذه الفئة عبر محورين:

الأول: حول اصطلاح التطرف والمتطرفين.

الثاني: الدور الذي لعبته هذه الفئة.

حول اصطلاح التطرف والمتطرفين:

لابد من أخذ الزمن الذي استعمل فيه إيريك هذه الاصطلاحات بعين الاعتبار، ودقة الترجمة من عدمها بعين الاعتبار أيضا، وذلك لأنني خلال قراءتي في كتابه أستطيع الجزم بأنه ثمة فرق بين ما قصده إيريك بالتطرف والمتطرفين وبين ما يعنيه هذان الاصطلاحان لدى تداولهما في الإعلام اليوم، وهذه النقطة لابد من تحريرها وتوضيحها قبل الشروع في الحديث عن هذا الصنف، إذ إن إيريك يتكلم عن التطرف والمتطرفين داخل الحركات الجماهيرية ضمن كتاب عنونه بالمؤمن الصادق أو الحقيقي، ويقصد بالمتطرفين في معظم مواضع الكتاب أولئك الذين يؤمنون بأفكار الحركة إيمانًا عميقًا إلى حد يصبحون فيه مستعدين للتضحية بأغلى ما يملكون في سبيل هذه الأفكار، وأولئك الذين يرون بأنه لا سبيل لتحويل أفكارهم إلى واقع عملي إلا عبر التغيير الجذري للحاضر، وعبر فرض ذلك بالقوة، والصدام مع الواقع، بل هدم الواقع، ولن يقبلوا بأي طرح آخر، وبالتالي فإنهم لا يقبلون بالحلول الوسط وقد يتحول بعضهم إلى كتلة تألف التحرك والصدام الدائم إلى حد ربما يجعلهم عبئًا على الحركة في بعض أطوارها، وهو ما سنبينه لاحقاً.

ولا يقتصر ذلك على أولئك الذين يؤمنون بأفكار دينية وحسب، بل أي نوع من الأفكار سواء كانت شيوعية أو تحررية أو دينية أو عرقية أو حتى إلحادية، إذ يقول إيريك:

الملحد متدين من نوع ما، لأنه يعتنق الإلحاد كما يعتنق المرء دينا جديدًا.

وبالتالي قد توجد ظاهرة التطرف – بمعناها الذي نشير إليه أو بمعناها المتداول اليوم- لدى الجميع.

والتطرف الذي يتكلم عنه إيريك في معظم مواضع الكتاب لن يكون محصوراً بالمعنى السلبي أو المنبوذ دائماً، بل إنه يشمل جميع المؤمنين بالقضية بشكل قطعي لا يقبل النقاش، سواء أكان هؤلاء سيسعون لتحقيق أفكارهم بشكل يدافعون من خلاله عن حقوقهم وحسب، أو أولئك الذين سيكون منهم تعدٍّ وظلمٌ ولم يقتصر حراكهم على النضال من أجل حقوقهم فقط، وأقول بأن هذا قصد إيريك في معظم مواضع الكتاب لأنه في مواضع محددة قد يكون عنى بالمتطرفين الشق الثاني فقط وهم الذين يُقصدون اليوم لدى إطلاق وصف التطرف، وسنكون متفقين على أن هذا ما يقصده إيريك عندما نكون متفقين على أنه بالفعل هناك ظروف قد تعيشها الشعوب لن تستطيع تغيير واقع أليم ٍ تعيشه إلا إذا انتفضت وواجهت واصطدمت، ومتفقين على أن هؤلاء المنتفضين لن يكون جميعهم منطبقًا عليهم وصف التطرف بمعناه المتداول اليوم.

وهذه قضية هامة جداً كانت محل جدلٍ واسع وتلاعب ومراوغة محلياً وسياسياً ودولياً خلال سنوات الثورة السورية، وكانت سببًا في زيادة الظلم والبطش بالشعب السوري، وذلك عندما استغل النظام وحلفاؤه نعت التطرف والإرهاب وعممه ضد كل من قام ضده.

كثيراً ما رأينا إظهارًا للتعاطف من قبل الدول مع الشعب السوري ومطالبه، وكان في الوقت نفسه كل جهد النظام وحلفائه منصبًا على شرعنة ما يقوم به من خلال السعي لإثبات أنها ليست ثورة شعب بل هم ثلة من المتطرفين والإرهابيين.

وهنا بدأت قضية التصنيف، وبدل أن يجد الشعب المظلوم جلاده في قفص الاتهام يحاكم، أصبح هو في قفص الاتهام وعليه أولاً أن يثبت أنه ليس إرهابياً وجلاده يصول بحممه ويجول فوق رؤوس المدنيين.

وفي الوقت الذي كانت طائرات النظام وحلفائه تقصف الشعب، كان الجدل بين الدول دائراً حول مَن مِن هؤلاء المقصوفين إرهابي ومن منهم لا، دول تريد أن تجعلهم جميعاً إرهابيين، ودول تريد فصلهم إلى معتدلين وإرهابيين، واستمر الأمر لسنوات مع استمرار الصواريخ والبراميل على رؤوس الناس.

إذاً بسياق طبيعي أو مفتعل كان هناك جدل بين الدول حول هذا الشعب الذي خرج في هذه الثورة هل هم جميعاً متطرفون إرهابيون أم بعضهم.

وهنا أعود لما بينته بأن هذا الاصطلاح غير محرر، وقد يقتنع البعض بوجود ظروف تحتم التغيير الجذري وبالقوة، وبالتالي يتفهم موقف من يتبنى ذلك ويتبنى وجود ثورات محقة، وقد يعارض آخرون الفكرة نهائياً أو يعارضها عندما تعارض مصالحه، كروسيا أو إيران التي آمنت بثورة أوصلت الخميني للحكم وآمنت بالثورة المصرية ضد مبارك وكفرت بالثورة السورية لأنها تعارضت مع مصالحها.

هذه المواقف ألقت بظلالها على المستوى الدولي وكان على أساسها تصنيف الثائرين.

ويمكن أن أقترب أكثر من المعنى الذي أراده إيريك وأريد أن أوضحه، عندما ننظر إلى اصطلاح مشابه وهو اصطلاح الراديكالية وإن كان هذا الاصطلاح أيضا غير محرر بشكل كامل حتى أيامنا حاله كحال اصطلاح التطرف.

ولتوضيح معنى هذا الراديكالية وجذورها أنقل وبتصرف عن موقع المعرفة بعضاً مما ورد بهذا الخصوص:

الراديكالية: مصطلح قديم منذ العصور الوسطى، وهي تعريب للكلمة الإنجليزية “Radicalism” وأصلها كلمة “Radical” التي تعني باللغة العربية “أصل” أو “جذر”، ويقصد بها عموما – مثل كلمة “أصولية”- العودة إلى الأصول والجذور والتمسك بها والتصرف أو التكلم وفقها، ويصفها قاموس “لاروس” الكبير بأنها “كل مذهب محافظ متصلب في موضوع المعتقد السياسي”، وقد ظهرت في بداية الأمر للإشارة إلى تصلب رجال الكنيسة الغربية في مواجهة التحرر السياسي والفكري والعلمي في أوروبا، وللدلالة على تصلب رجال الكنيسة و”راديكاليتهم” (أي تعصبهم وتصلبهم وإصرارهم على الأصول القديمة دون تجديد).

ولكنها أصبحت تشير فيما بعد إلى العكس وإلى التغيير، ليس بمعنى العودة للجذور فقط، ولكن التغيير عموما بشكل جذري؛ حيث أصبحت تنسب إلى جذور الشيء، ويقال إن “الجذريون” أو “الراديكاليون” هم الذين يريدون تغيير النظام الاجتماعي والسياسي من جذوره، ولهذا فسرها البعض على أنها تعبر عن الإصلاح الأساسي من الأعماق أو الجذور.

لكن الغرب صبغ مصطلح “الراديكالية” بمعنى آخر هو التطرف، وأضاف إليه معنى العنف والإرهاب، وألصقه بالإسلام والمسلمين في العصر الحديث، ولهذا قال المستشرق البريطاني “هومي بابا” (أستاذ الأدب في إحدى الجامعات البريطانية) إن: “الراديكالية كلمة ذات دلالات سلبية تلصق بالعالم الإسلامي، مع أن الظاهرة عالمية ولا تقتصر على ما كان يسمى دول العالم الثالث مثل الهند ومصر، بل وجدت طريقها إلى العالم الأول حيث الراديكالية الإنجيلية على أشدها في الولايات المتحدة مثلاً”.

ويقول المؤرخون إن الصحفيين العرب تداولوا – بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 – ومن بعدهم الباحثون والمحللون الناطقون بالعربية، مصطلح (الأصولية) على نطاق واسع وذلك ترجمة لمصطلحين غربيين استعملتهما الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية في الغرب للإشارة إلى حالة اليقظة الإسلامية الراهنة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي والمصطلحان هما Radicalisme وIntegrisme، في حين أن هذين المصطلحين بما يحملان من دلالات سياسية وفكرية لا يعبران تعبيرا دقيقا عما توحي به لفظة (الأصولية) الرائجة حاليا وخاصة ما يتضمنه المصطلح الثاني من معاني الرجعية المعادية لكل تقدم، وهكذا يصبح النعت بالأصولية بمثابة شتيمة سياسية.

وقد أصبحت الكلمة مرادفة للحياة السياسية عموما، بحيث أصبحت هناك “أحزاب راديكالية” و”سياسة راديكالية”، و”توجه راديكالي”، و”زعيم راديكالي”.. ومع انحصار استخدام الكلمة في العالم الغربي تدريجيا بدأت الصحف الغربية ومراكز الدراسات تتحدث عن العالم العربي والإسلامي بهذا المصطلح، مثل وصف الثورة الإيرانية بأنها راديكالية، والفكر الثوري بأنه راديكالي

وغالبا ما ترتبط الكلمة بالتيارات الماركسية أو الاشتراكية أو اليمينية المتطرفة، وإن كانت أصبحت أكثر ارتباطا في الوقت الراهن بالتيارات الإسلامية في إشارة لسعيها لتغيير الواقع الحالي من جذوره والعودة إلي الجذور والأصول الأولى، وقد اتخذت الراديكالية في أوروبا منهج الإصلاح عبر التوفيق بين أهدافها في التغيير وأساليب الليبرالية القائمة على الحرية السياسية والاقتصادية وتغيير الدستور والقوانين من الأساليب البرلمانية وحق الانتخاب والاقتراع وبالوسائل الديمقراطية، ولذلك فهي ترفض التغيير بوسائل العنف المسلح والثورة الشعبية وهذا ما أدى إلى حالة افتراق بينها وبين الماركسية الثورية بقيادة لينين.

وقد قامت معظم الحركات الراديكالية في أوروبا بتأسيس الأحزاب الاشتراكية وفيما بعد انقسمت هذه الحركة في أوائل القرن العشرين إلى اتجاهين:

1 – راديكالي معتدل يسعى إلى الإصلاح التدريجي والسلمي كوسيلة للتغيير.

2 – راديكالي ثوري يسعى إلى الإصلاح عن طريق الثورة والعنف المسلح.

أما في فرنسا فقد كانت الراديكالية ذات تأثير فاعل في الحياة السياسية الفرنسية ولاسيما بعد الثورة الفرنسية إذ كانت الراديكالية صفة لدعاة الجمهورية في وجه دعاة الإمبراطورية، وبعد عام 1869 قاد جورج كليمنصو جماعة منشقة عن الجمهوريين المعتدلين عدت نفسها الوريث الحقيقي لتقاليد الثورة الفرنسية وطرحت برنامجًا سياسيًا متكاملاً يدعو إلى إصلاح اجتماعي واسع في مونمارتر 1881 والذي هيأ لاحقاً في عام 1901 لنشوء الحزب الاشتراكي الراديكالي.

حاول الراديكاليون الفرنسيون أن يصوغوا من أفكارهم مذهبًاٍ شاملاً وكانت أهم المحاولات في هذا السياق ما كتبه ليون بورجوا أول رئيس للمجلس الراديكالي في فرنسا في دعوته لإنشاء مذهب راديكالي يؤسس على مفهوم التضامنية وذلك في كتابه «محاولات في فلسفة التضامن» عام 1902، إذ أشار إلى أن «الراديكالية تملك مذهبًا، وتنتمي إلى فلسفة… وإن للحزب الراديكالي هدفًا يبغي تنظيم المجتمع سياسياً واجتماعياً بحسب قوانين العقل، وله منهج هو منهج الطبيعة ذاتها، ويملك أخلاقًا وفلسفة، وينطلق من حقيقة الضمير التي لا نقاش حولها ويستخلص منها المفهوم الأخلاقي والاجتماعي لكرامة الشخص الإنساني، وله مذهب سياسي هو المذهب الجمهوري، وأخيراً له مذهب اجتماعي هو المشاركة.. وفي النتيجة لا يعتقد بأن خير الأمة ممكن أن يتحقق عن طريق صراع الأفراد والطبقات».

بيد أنه في الواقع اتخذت الراديكالية في فرنسا تعريفات واتجاهات مختلفة لعل أهمها:

1 – راديكالية الأب كامب: الذي يعتبر أن مناهضة الأكليروسية هي عصب الراديكالية.

2 – راديكالية الدعوة إلى اللجان الإقليمية والجمعيات الفكرية.

3 – راديكالية موالاة القنصلية (كليمنصو) فهي راديكالية سلطوية ويعقوبية (نسبة إلى حزب اليعاقبة في الثورة الفرنسية) مناهضة للاستعمار تحت شعار (الوطن في خطر).

4 – راديكالية كايو وهي سلمية وتكنوقراطية تهتم بالمردود والجدوى.

5 – راديكالية آلان وهي أحدث الاتجاهات في فرنسا (1868 – 1951) فالراديكالية عنده هي الرقابة الدائمة للناخب على المنتخب وللمنتخب على الوزير.

والديمقراطية عنده نظام رقابة، والحزب الراديكالي الصحيح هو حزب المعارضة الحكومية، فالحرية عنده لا تسير من دون نظام، والنظام لا يساوي شيئاً بلا حرية؛ فالمقاومة والطاعة هما فضيلتا المواطن، فبالطاعة يحقق النظام، وبالمقاومة يحقق الحريـة، وما يهدم الطاعـة هي الفوضى وما يهدم المقاومـة الطغيان والدكتاتورية.[1]

الخلاصة إذاً هي أنه في جميع المجتمعات وجدت تلك الفئة التي آمنت بالتغيير الجذري ولم تكن تحمل لونًا واحداً بل ألوانًا، ودائماً كان هناك تبدل في المدلول الذي يحمله اصطلاح التطرف والراديكالية وفي الموقف منهما.

وما ابتلينا به في سوريا؛ هو أنه وضع المطالبون بالتغيير في ميزان واحد سواء أكانوا بالفعل إرهابيين أو كانوا يبحثون عن الحق وعن الحق فقط، بل جرى العمل على قدم وساق لجعل الثورة بأكملها تصطبغ بصنف الإرهاب في الوقت الذي كانت الحقيقة على الأرض مختلفة، والثغرة كانت ذاك المفهوم المطاطي الذي يستعمل عبره مصطلح التطرف أو مصطلح الإرهاب.

وعندما أنقل عبارات إيريك التي تتضمن المتطرفين فبالطبع لا أقصد ذاك المعنى الخاص بالإرهاب، بل المعنى الأشمل الذي يشير إلى تلك الفئة الراديكالية التي لا تقتصر على الإرهابيين.

الدور الذي نوه إليه إيريك:

سعى النظام منذ بدايات الثورة إلى عدة مسرحيات هزلية حاول من خلالها التحايل على المطالب الشعبية، وامتصاص الهبة الجماهيرية ضده.

وكان من ذلك بعض التعديلات الوزارية أو بعض القوانين الشكلية، أو بعض الحركات الإعلامية، أو بعض المراسيم الرئاسية، أو بعض الوفود التي أرسلها إلى المدن والبلدات الثائرة بحجة البحث عن مطالب هذه البلدات، وكان من ذلك مسرحية تعديل الدستور.

جميع هذه المحاولات باءت بالفشل، ودائماً، كان الوعي سبب ذلك وكان وجود أولئك الذين لم يعودوا يقبلون أبدا بما هو أدنى من إسقاط النظام، سبباً في الحيلولة دون أن يستطيع النظام خداع الشعب، أياً كانت تسمية هذه الفئة وأياً كان الموقف منها فقد كان لها الفضل في الوقوف في وجه خداع النظام.

هذه الحالة يصفها إيريك فيقول:

أي إصلاحات جديدة حتى عندما تكون جذرية لا تستطيع في غياب المتطرف تغيير نمط الحياة القديم، وأي انتقال للسلطة في غياب المتطرف لا يتجاوز عادة نقل الحكم من رجال عمليين إلى رجال عمليين مثلهم، باختصار يمكن القول إنه بدون المتطرف لا يمكن أن تكون هناك بداية جديدة.

ثم إنه لما خلت المناطق المحررة من النظام بيَّنتُ لدى الكلام عن أصحاب الكلمة أنه كان هناك بعض من المفكرين أو المرجعيين أو حتى الناس العاديين، ذهلوا من الحال الذي آلت إليه الأمور، وشعروا بالعجز وعدم القدرة على الإتيان بأي حركة في ظل الفوضى التي حلت، في هذا الوقت العصيب وجد صنفٌ من الناس كانوا قادرين على العمل على جميع الأصعدة، برغم حالة عدم التنظيم الناجم عن الفراغ الذي خلفه النظام، وكنت تقف مذهولاً من قدرتهم على المتابعة وعلى اتخاذ القرار في مثل هذه الظروف.

من جديد أياً كانت تسميتهم أو توصيفهم فهؤلاء فئةٌ تقدمت وعملت في وقت تراجع فيه آخرون، هذه الفئة يقول عنها إيريك:

عندما يبدأ النظام القديم بالتصدع يتقدم المتطرف بكل جرأة.

ترى هل كل هؤلاء كانوا إرهابيين؟، لا بل كثيرون منهم كانوا أصحاب حلمٍ بالتغيير، ليس التغيير لأجل العبث، إنما التغيير عن واقع الظلم والتضييق الذي عاشوه تحت وطأة النظام لعقودٍ من الزمن، التغيير الذي يئسوا من حدوثه بغير الطريقة التي لجأوا إليها مؤخراً.

ثم كان بعدها أن تخلل الصفوف ثلة من المخربين واتُّخذوا ذريعة لضرب الجميع.

خاتمة

مليئة بالأحداث والتجارب تلك السنوات التي عشناها، وهذه الورقات ما هي إلا محاولة لشق الطريق نحو دراسة هذه التجربة، بالتأكيد لم آتِ سوى على نذر يسير مما ينبغي الوقوف عليه، وكان ما وقفت عليه مرتبطا تماماً أو مقيداً بما وقف عليه إيريك ضمن دراسته للحركات الجماهيرية، وبالتالي كان ما كتبته مقتصراً على المنظور العام، أما الثورة السورية فلا شك أنها بحد ذاتها حالة بالدراسة بشكل مستقل.

لم يتطرق إيريك إلى جوانب أخرى؛ وخاصة الجانب السياسي، أما من حيث الواقع فإنه وبشكل خاص في الحالة السورية لا يمكن إغفال أثر الجانب السياسي والاستخباراتي والمعلوماتي والتقني التكنولوجي وأقنية الدعم وما امتلكته الدول من خبرة في التعامل مع الحركات الجماهيرية، ومن قدرات على توليد الثورات المضادة أو تعويم الثورات، وما رافقها من ظروفٍ إقليمية ودولية، كان له الأثر البالغ في أحداث الثورة السورية.

إلا أنني أقول بأنه كان من المفيد جداً تسليط الضوء على تلك الجوانب التي اشتركت فيها هذه الثورة مع غيرها، قبل دراستها بشكل منفرد بحيث يساهم ذلك في فرز ما سيكون خاصاً بالتجربة السورية وحدها، وفي التمييز بين ما هو سياق طبيعي وما هو سياق خاص.

أشرت إلى المجتمع السوري والانقسامات التي حدثت داخل صفوفه وشرائحه مع بداية الحراك، ثم نوهت إلى ظواهر عايشتها واكتشفت بأن إيريك نوه إليها ولم تكن خاصة بنا، ثم نوهت إلى الدور الذي لعبته فئتان من فئات الحراك بناء على المقارنة بين ما لاحظه إيريك خلال عرضه وما لاحظناه خلال التجربة.

في النهاية أقول إنها مساهمة متواضعة تحتاج إلى توسع وتحتاج إلى النقد وسأكون مسروراً سواءٌ قرأت أو سمعت نقداً لها بنفس المستوى من السرور فيما لو سمعت أو قرأت ثناءً عليها أو توسعاً بها، لأنني في كلا الحالين سأكون بذلك ساهمت في التحفيز والدفع باتجاه توليد الأفكار والدراسة لهذه التجربة الكبيرة[2].


[1] موقع المعرفة

[2] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close