fbpx
دراسات

المواطنة في دولة مسلمة: الإشكالات والتحديات النص الكامل

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

يبدو من تركيب ذلك العنوان أننا أمام إشكالية مركبة تتمثل في ثلاثة كلمات؛ الأولى منها تتعلق بالمواطنة، والثانية تتعلق بالدولة، والثالثة تتعلق بوصف مسلمة، وفي هذا الإطار تكمن تلك الإشكاليات في أن مفهوم المواطنة هو من المفاهيم الغربية التي سادت المعمورة وانتقلت من ذلك السياق الحضاري الغربي، اما الكلمة الثانية فهي ترتبط بحالة غربية أيضا تتعلق بمفهوم الدولة القومية ومقتضياته وإشكالاته في الدول المختلفة على تنوع المعمورة(1 ) ، أما الكلمة الثالثة فترتبط بوصف مسلمة أو إسلامية، وخيرا فعل منظمو الندوة حينما جعلوا من وصف “مسلمة” هو الوصف المعتمد في هذا الشأن ليعبر عن حالة اجرائية غاية في الأهمية، ذلك أن على عالم المسلمين أن يدرك أنه في عالم متغير بكثير من سماته، وبالعديد من معطياته، يتأكد ذلك من واقع يجب أن نتحرى بصدده المناط ومن رؤية يجب أن نحدد بصددها منهج النظر والموقف.

نحن إذن أمام علاقة غاية في الأهمية تأخذ تجليات وإشكالات بين الإسلام والغرب في الأفكار وفي واقع الدولة القومية وفي واقع عالم المسلمين، وغاية الأمر في هذا الإطار وأنه من الواجب علينا أن نحدد طبيعة الإشكالية المنهجية في هذا المقام من فقه للواقع ومن تحديد للمناط يجعل هذا الارتباط بين المواجهة من جهة والدولة القومية من جهة أخرى وعالم المسلمين من جهة ثالثة يشكل في حقيقة الأمر إشكاليات مركبة تتطلب رؤية منهاجية واضحة تحدد مناهج النظر ومناهج التناول والتعامل.

وغاية الأمر في هذا المقام أن نؤصل معنى هندسة الاجتهاد المقاصدي كمدخل تأسيسي للنظر(2 ) إلى هذا المركب ذلك أنه لا يقف عند حدود الرسوم والأشكال متخطيا ذلك باعتبار الواقع والمآل، ومن هنا فإن هذا الإشكال المنهاجي التأسيسي يفرض علينا أن نتحرك صوب العامل مع إشكالات المواطنة ذاتها مستصحبين سياق الدولة القومية من جهة، وعالم المسلمين بمرجعيته الإسلامية من جهة أخرى، وهو أمر يفرض علينا مناهج النظر للتعامل مع الواقع إذ يؤصل المعنى الذي يتعلق بجهات الاختلاف سواء تعلق الأمر بالمكان أو بالزمان او الإنسان، وبمجمل الأمر كافة الأحوال.

وحول مبدأ المواطنة تثار أسئلة وإشكاليات عميقة أهمها ينبع من متطلبات تفريد الولاء للوطن وتقديمه على ما سواه من الهويات والانتماءات الفرعية. وفي مواجهة التقاطعية التي قد تحصل بين الانتماءات المتناظرة للأفراد تحت مظلة الوطن الواحد، فان منهج النظر الإسلامي قد أوجد حالة من التناغم والتوازن الخلاق بين منعرجات خارطة الانتماءات المتناظرة تلك. وهكذا بلغت الرؤية الإسلامية – في حقوق المواطنة ومحدداتها – آفاقا راسخة متجددة. غير أننا بالمقابل لم نشهد خطاباً إسلامياً معاصرا يتبنى المواطنة في عمق التنظير القيمي للدولة وللمجتمع السياسي الحديث. أو بالمعنى الذي ينصرف الى العلاقة الأكيدة والسوية بين المجتمع والدولة.

لذا توجب علينا في هذا المقام التحري عن ملامح المواطنة واستخلاص الأبعاد والملامح الحقيقية لها وتجذير الوعي بأهميتها بالاستناد الى قيم الإسلام وتجربته التاريخية في ظل الدولة التي اقامها الرسول صلى الله عليه واله وسلم بوصفها المرجعية الشرعية والتاريخية التي ينبغي على المسلمين وغيرهم الاحتكام اليها في ضبط الحدود المعيارية لمبدأ المواطنة ومعالجة ما يواجهه من إشكاليات وتحديات عبر اعتماد اليات ووصفات اسلامية تنسجم مع روح العصر.

وفي ضوء ذلك يمكن بناء فرضية مفادها: “أن خصوصية المنهج قد أقام بناء متوازنا للمواطنة يستوعب في جنباته تقاطعات الانتماءات المتناظرة للفرد المسلم دون تفريط بأولوية الانتماء للهوية الإسلامية المرتبطة بالمرجعية وتحقيق مستلزماتها”( 3) .

إن هذا الأمر إنما يشير إلى الإشكال الحيوي الذي يتعلق بالعلاقة بين المواطنة والدين، وبين المواطنة ودوائر الانتماء، وبين المواطنة وعلاقتها بالسياسي والمدني، وبين المواطنة وعلاقتها بمسالك ومداخل التنشئة السياسية والأطر والسياقات الغربية التي تنظر إلى مفهوم المواطنة باعتباره مفهوم منظومة في ذاته وضمن منظومة تتعاضد معه وتشكل مساراته، وفي هذا المقام وجب علينا أن نحدد لهذا المفهوم في مبناه معنً نحاول أن نتلمس بعض مرئياته ضمن رؤية إسلامية متميزة، ولكن في إطار سياق إنساني وحضاري يعتمد الدولة القومية كوحدة تأسيس في العلاقة بين الدول بعضها البعض.

وضمن هذا المقام يجب أن نتطرق إلى مشكلة الدولة في عالم العرب والمسلمين( 4) والتعاطي معها ذلك أن الدولة القومية بما افترضته من اطر عامة للتعامل جعل كثير من الاجتهادات الماضية وبحكم فقه الواقع وتحقيق المناط تتعامل مع سياق مختلف ولا يتطابق مع سياق الاجتهادات في الماضي، إن القضية والإشكالية الأساسية في هذا المقام هي إشكالية منهاجية أيضا تتعلق بسياق الدولة القومية الذي لابد وأن يؤثر على تصور المواطنة وتفعيل معطياتها، وضمن ذلك لابد وأن تأتي الإشكالية التي تتعلق بذلك الوصف لهذه الدولة بالمسلمة لتعبر عن إشكالية منهجية أخرى ترتبط بإطار المواطنة ومسار الدولة القومية في آن واحد فتعبر بذلك عن إشكالية عالم المسلمين في الواقع الحاضر الذي يتنازعه جهازين مفاهيميين؛ جهاز مفاهيمي غربي النشأة؛ وهو الذي يسود بحكم الحضارة الغالبة، وجهاز مفاهيمي يرتبط بالحضارة الإسلامية ويتحرك صوب الواقع المعاش ليتعرف من خلاله على حقائق الاشتباك والتداخل بين الجهازين المفاهيميين(5 ) .

ومن هنا وجب أن يكون الموقف في هذا المقام يعبر عن حقائق عدة نحاول من خلالها أن نوضح الموقف الأساس من عملية فض اشتباك على نحو منهاجي يؤصل لمضمون مفهوم المواطنة في الذاكرة الحضارية الإسلامية، ويمد ذلك إلى إطار لتفعيله في سياقات الدولة القومية وما يتطلبه ذلك من إمكانات اجتهادية وتجديدية، لأننا بذلك سنخرج من أسر ثلاثة أمور؛ الأسر الأول هو ذلك الذي يتعلق بطبيعة الجهاز المفاهيمي الغربي وافتراضاته، والأسر الثاني الذي يرتبط بالفقه التقليدي في مضامينه الذي يتعلق بأزمانه الخاصة، أما الأسر الثالث فيتعلق بإمكانيه تفعيل وتشغيل مفهوم المواطنة في سياق رؤية إسلامية واعية لا تغادر المفهومات الحديثة وتؤصل معاني التفعيل الإسلامي من خلال صبغ هذه الرؤى من مداخل مقاصدية تستطيع أن تستوعب معطيات التغير وأصول المرجعية، إن ذلك يعني القيام بعمل مركب وبموقف يتصل بمناقشة طبيعة هذه الإشكالات على نحو منهاجي ومنظومي ودينامي حركي وتشغيلي، ومن هنا يجب التعرض إلى موضوعات شتى، لتكوين رؤية بصيرة لقضية المواطنة في دولة مسلمة.

الخروج من الأسر

وواقع الأمر أننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه الرؤية المركبة إلا من خلال استعراض المواطنة كمفهوم غربي وتقديم رؤية نقدية له من منظور إسلامي أو غير إسلامي، أما الأمر الثاني فيتعلق بضرورة أن نقدم معاني الذاكرة الحضارية لمفهوم المواطنة في سياق مقارن يؤكد على معاني غاية في الأهمية ترتبط بالخبرة النبوية، إن وثيقة المدينة في هذا المقام تشكل أساسا مكينا ورصينا لرؤية متميزة لمفهوم المواطنة وبناء المجتمع السياسي، أما الأمر الثالث فيتعلق بضرورات إعادة بناء مفهوم المواطنة ضمن رؤية مقاصدية كلية وحقائق تتعلق بالجماعة الوطنية، ونماذج ترتبط بالمواطنة السفنية.

في هذا السياق يمكننا فقط تأصيل هذا المفهوم، وتفعيل مقتضياته، وتشغيل محركاته، والعمل من خلال آلياته، ومسالكه، وبنياته، ضمن هذه الرؤية الكلية يكون مفهوم المواطنة بمثابة اختبار معملي لإشكالات تتعلق بمناهج النظر الكلية، ومناهج التناول الجزئية، والتعاطي مع مناهج التعامل مع الواقع ومعطياته الحضارية والتشغيلية، من دون أن نهمل جانب التحديات الذي يتعلق بتشغيل هذه الرؤى والمآلات المترتبة عليه في سياق رؤية استشرافية مستقبلية.

أولا: الشبكة الاجتهادية وأصول الفقه الحضاري:

من الضروري الاهتمام بشأن البناء الحضاري وهندسة الاجتهاد المقاصدي ومعادلاته السننية الاستراتيجية وأصوله العمرانية والحضارية بما يؤسس رؤية في تجديد جامعية الأمة، ذلك أن الخروج من حال الاختلاف إلى فن الائتلاف في إطار الموافقات الكبرى في سياق اعتصام الأمة وتماسكها، ذلك المشروع الحضاري الذي يعتبر من أوجب الواجبات وذلك للتعامل مع جملة التحديات وتقويم عالم الاستجابات وبناء وتأسيس الاستراتيجيات.

ومن هنا كان ذلك المدخل الكلي الهادف إلى الألفة الجامعة للتمكين لكل أمر يؤدي إلى جامعية هذه الأمة وفاعليتها من خلال اجتماع الانسانية وجامعية المواطنة وأصول تماسك واعتصام ووحدة الجماعة الوطنية مجالا لتفعيل الإرادة والإدارة.

المواطنة تعد جزءا من منظومة الجامعية المعاصرة والاجتهاد المنظومى يحدث اجتهادا يسكن المواطنة ضمن منظومة الاجتهاد القادر على توظيف فكرة المواطنة ضمن سياقات الجامعية والجماعة الوطنية وضمن سياقات صناعة التوافق المجتمعى وأصول اعتصامه في إطار فهم متجدد لحركة الإجماع المعاصر بين موافقاته وتوافقاته وجامعيته وعوامل عصمته واعتصامه.

العلاقة بين الكلي والجزئي، وبين الاصل والفرع عمليات منهجية تتضمن حقيقة تسكين الجزئي في كلييه وعقد الصلة والنسب بين الأصل والفرع ضمن عملية تسكين وتنسيب.

الاهتمام بالفروع أو الجزئيات لا يكون بحال على حساب الكليات أو يكر على الأصل بالنفي والنقص والبطلان، فالكليات هي القاضية على الجزئيات والفروع تلحق بالأصول وهي بهذا المعنى حاكمة.. إلا أن التفاصيل هي بمثابة مقدمات الواجب والآليات الموصلة والواصلة.

هكذا نستعرض ما يمكن أن نطلق عليه الاجتهاد المنهجي ” ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا..” والمنهج والمنهاج والمنهاجية عمل فائق لابد أن يرتبط بالاجتهاد المقاصدي فما من قصد إلا وله طريق ومسلك وسلوك “وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..”

هذه الشبكة الاجتهادية نحن أحوج ما نكون إليها للوقوف على حال عوالمنا المختلفة؛ عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، وعالم الأحداث، وعالم الرموز، وعالم النظم، وعالم المفاهيم، وعالم الخبرات، وعالم النماذج، وعالم الانماط، وعالم النماذج المعرفية ورؤى العالم، وعالم الادراكات، وعالم التحديات، وعالم الاستجابات، وعالم الاستراتيجيات، وعالم التشكيل الحضاري، والأبنية الحضارية، والعوالم الثقافية والعقلية والفكرية وعوالم التنمية والنماء والارتقاء، وعوالم الارادة والأداء وعوالم العدة وعوالم الأحوال المتقاربة بين الشدة والرخاء، والضعف والقوة، والوهن والعزة، وعوالم العلاقات، والسياسات، وعوالم المؤسسات، وعوالم البدائل والمواقف والاحكام والرؤى، وعوالم القيم وأنساقها والأخلاق وبنياتها، وعوالم المناهج والتفكير المنتظم، وعوالم المجالات المختلفة في سياسة واقتصاد واجتماع وتربية، وثقافة وفكر وعوالم الأفراد والتشكيلات الجماعية والجمعية والمجتمعية وعوالم الفكر والحركة.

ويرتبط بذلك كله عوالم الاجتهاد وعمليات التجديد الحافزة على العمران الحضاري ونهضته، وعالم الأسباب والمسببات، وعالم الوسائل والآليات والادوات والإجراءات والقواعد والمؤسسات والوسائط..، وعام العقبات والمسهلات وعالم النظام الدولي والعلاقات الدولية والأنظمة السياسية، وعالم الداخل والخارج، وعوالم العمليات المتعلقة بالمشاركة والشرعية والقيادة والحركات الاجتماعية والقوى السياسية ومسارات المواطنة..وعالم النماذج التاريخية والنفسية والفكرية…

عوالم شديدة التنوع والتمدد والتعقد والتجدد فهل لنا أن نعتبر هذه العوالم جميعا فنفهم حقيقتها وطبائعها، ومسيرتها وسيرورتها وتطوراتها، وتأثيراتها ومآلاتها ومستقبلاتها، عناصر نظمها ضمن رؤى استراتيجية نصل إلى رابعة الاجتهاد والمقاصدي وهو ضرورات البناء الاستراتيجي والحضاري ضمن أصول الفقه الحضاري والاستراتيجي والعمراني. فقه جامعية الأمة ومانعية افتراقها وتفرقها ” في واقع الدولة القومية والسياسات الكونية والعولمية(6 ) .

ضرورات البناء الاستراتيجى والحضارى والعمرانى ضمن أصول الفقه الحضارى.

ثانيا: السياق منهج مأمون لدراسة المواطنة:

من الأهمية بمكان حينما نعالج فكرة السياق وآثارها في رؤية الأحكام الشرعية أن نؤكد أن فكرة السياق لابد وأن تكون واحدة من أهم الشروط للقيام بالعمل الاجتهادي، ذلك أن السياق لا ينصرف فحسب إلى ذلك السياق الأسلوبي المتعلق بالنص والذي يحرك أصول الفهم العلمي للنص ضمن سياقاته اللغوية والأسلوبية، ولكن السياق أبعد من ذلك بما يعبر عن سياقات تتعلق بالواقع وكل تضميناته ومن هنا فإن السياق يعبر ضمن ما يعبر عنه عن فقه يتعلق بالحوادث الكلية كما يشير إلى ذلك ابن القيم.

ومن هنا فإننا قد نتوقف عند ما يمكن تسميته بسياقات المدخل المقاصدي بما هو ينظم بين مفردات تشكل مداخل متكاملة حتى تكتمل فكرة السياق وتشكل سياقات متساندة توضح عناصر متعددة ينضاف إليها سياقات أخرى تشكلها منظومة سياقات أصول الفقه الحضاري، فتسهم هذه السياقات جميعا في إبراز عناصر ثلاثة تشكل مثلث الاهتمام الذي يحرك فكرة السياقات ويضمنها بعمل متواصل ومتراكم. هذا المثلث يهتم بعمليات ثلاث:

الأولى هي عملية التأصيل، والثانية: تتمثل في عملية التفعيل، أما الثالثة فتهتم بعملية التشغيل..

وغاية الأمر أن الوصل بين هذه العمليات الثلاث إنما يتأتى من اتساع فكرة السياق فتجعل من هذه العمليات سياقات متساندة تؤدي إلى بعضها بعضا وتؤسس معمارا يؤسس عناصر وعي ومقاصد سعى، تتلخص فيما يلي:

الأول يتعلق بسياق المجال، والثاني يهتم بسياق الأولوية، والثالث يتوفر على سياق الحفظ، والرابع يؤكد على سياق الموازين، والخامس يركز على سياق المناط، والسادس يتعلق بسياق الواقع والوسط، والسابع يتعلق بسياق المآل، أما الثامن والأخير فيفعل سياق الوسائل.

ثمانية محكمة تجعل من هذه السياقات بدورها عمليات متكاملة ترى فيها الشريعة في سياق واحد وعلى صعيد واحد كالجملة الواحدة تؤصل معاني الفقه وتوصل إلى مناط الفاعلية.

السياقات المقاصدية:

وهي بهذا إنما تستكنه من خلال الأصل والوصل بين الشريعة باعتبارها حكمة في بنائها المعرفي وعدل في نسقها القيمي، ورحمة في أنساق سلوكها ومصلحة تؤكد على أنساق المقاصد والغايات. وفي هذا المقام فإن ترجمة الشريعة من خلال تلك الكليات على ضرورة اعتبار السياق ومراعاته(7 ) .

ومن هنا فإن القول بأن الحال أن العمل على تطبيق الأحكام الاسلامية في الواقع يحتاج إلى منهج آخر مختلف، يكون مبنيا على فقه تطبيقي ليست غايته بسط حقائق الدين للإقناع وإنما غايته تسهيل الطريق لتلك الحقائق لكي تصبح جارية في حياة الناس.

ثالثا: نحو بناء استراتيجية لمفهوم المواطنة: رؤية إسلامية:

نقدم من خلال هذا المدخل بيان موجز لمجموعة المفاهيم الأساسية وبيان خريطتها الواصلة بينها ضمن نظريات المدخل المقاصدي؛ وهي مفاهيم المناط (أو العلة) والمفاهيم المتصلة به والمشاكِلة له من قبيل: الحكمة والمصلحة والقيمة والمقصد والنية، وتعريف الخطوات أو العمليات المناطية: التخريج أو التحرير والتنقيح والتحقيق، وعلاقة هذا المناط بدائرتي النص والحكم الشرعيين، والمنهج وعمليات النظر والتناول والتعامل، ومفهوم السياق وعلاقته بهذه الدوائر.

ثم يتم بيان نظرية المناط وعلاقته بالمقاصد الشرعية سواء المقاصد العليا أو المتعلقة بالمكلف، وعلاقة المناط والحكم بالسياق، والمعتبر من كل ذلك وغير المعتبر وما بينهما من سياق مرسل، نعنى في كل ذلك بالمناهج لا المسائل، وبشبكة المفاهيم المؤسِّسة؛ انطلاقًا من أن المناط هو مركز دوائر النص فالحكم الجزئي فالسياق الحاضن، موصول بحِكَم الشريعة ومقاصدها وقيمها، وبمصالح الخلق العامة والخاصة، وأن “المنهج”؛ أي الطريق المستقيم الواضح هو الذي ينبغي أن يحكم الوصل بين هذه الدوائر والزوايا.

لقد درجنا على الفصل بين مفاهيم المناط (أو العلة) في جهة أولى، والسبب والشرط والمانع باعتبارها تبني أحكامًا وضعية في جهة ثانية، والمقاصد في جهة ثالثة، والحكمة والمصلحة والقيمة في جهات أخرى، وذلك لاعتبارات الدراسة تارة ولاعتبارات البيان والضبط والتمييز تارات أخرى، كما ينبغي التأكيد على أنه قد تم الربط بينها لكن غالبا في الممارسة الفقهية أكثر من المدارسة الأصولية الأمر الذي ينبغي أن يتداركه “أصول الفقه الحضاري” الذي يركز على “الكلي” وإدراج القضايا تحت كلياتها، والوصل بين هذه العناصر في رؤية منظومية جامعة على سبيل التأسيس المنهاجي وفي الطريق إلى بناء عقلية أكثر تركيبا وأكثر قدرة على استيعاب تعقدات العصر الراهن(8 ) .

وضمن سياق فقه الواقع فان الأمر وكما أشرنا آنفا إلى تعريف الواقع وشموله هده الامتدادات الزمنية والمكانية الإنسانية, والمستويات المختلفة الفردية والجماعية بكل تكويناتها الحضارية, والداخل والخارج بفعل التداخل الشديد بحكم عناصر ثورة الاتصال وثورة المعلومات, كل دلك يجعل من الضروري التعرف على عمليات مهمة في فقه الواقع:

فقه الحال: الذي يحرك عناصر التعامل مع الواقع المعاش لاعتبارات تفرضها عناصر الزمان والمكان, إن سيولة المشاكل الدولية, وتأثيرها على أنحاء المعمورة لا يمكن أن يتحقق الدور الفاعل بصددها إلا من خلال فقه الحال, ولا يؤخر البيان فيه عن وقت الحاجة، كما يعتبر من فروض الوقت التي يجب جعلها ضمن قمة سلم الأولويات البحثية كمقدمات لوعي المواقف ووعي الوسائل والآليات.

فقه المجال: باعتباره الوسط المتشابك في إطار تصور التفاعل بين الداخل والخارج وتفاعل دوائر الواقع المختلفة.

فقه المآل: فان اعتبار المآل من المقصودات الشرعية والتي تحك التفكير والتدبر والتخطيط لعناصر الفعل الحضاري. والواقع هنا ليس تعاملا عفويا. بل هو جملة من الأفعال الحضارية يترتب عليها آثارا ونتائج. وفقه المآل هو أولى خطوات التفكير المستقبلي ويحرك عناصر التدبر في التعرف على عواقب الأمور وعاقبتها.

أصول فقه الواقع:

سياق المآلات: إن دراسة المناطات المتعلقة بالحكم الجزئي من ناحية والمتعلقة بالواقع من ناحية أخرى، وسياق الذي يتعلق بفقه الواقع وصفا وتحريكا إنما يتعلق بعناصر غاية في الأهمية ترتبط بما يمكن تسميته بالسياقات المآلية، سياق المآل يعني ضمن ما يعني البحث في النتائج والأثار المترتبة على الفعل كذلك المستشرفة لجملة من الأفعال يصار إليها بالقصد لبناء موقف مستقبلي يدخل في سياقات علوم التدبير.

إن السياقات المآلية هي التي تجعل من المجتهد حاضرا ليس فقط بعد تقرير الحكم الشرعي الجزئي أو الكلي ولكن يجعل من ذلك مقدمات أساسية يترتب عليها تفكير مآلي خشية أن يقع المكلف في الحرج أو في المفسدة وغاية هذا السياق المآلي أن يظل حاضرا ضمن اعتبارات المجتهد في نظره الاجتهادي ضمن عملية اجتهادية مستمرة وممتدة تفضي بالضرورة إلى البحث في الأمور التي تتعلق بإمكانات عمليات التنزيل والتأثير والتدبير والتغيير والتمكين. كما أنها تشير على المجتهد إلى ضرورة تأسيس علوم مستقبلية تشكل ركنا أساسيا وأصلا مكينا ضمن أصول الفقه الحضاري وتفعيل الفقه السنني.

عمليات لا يمكننا إغفالها ضمن استمرارية الاجتهاد في سياقات اعتبار المآل ضمن سياقات الحكم الشرعي الجزئي وسياقات الفقه الحضاري.

غاية الأمر في هذا الموضوع أننا في حاجة إلى مجتهد من نوع مختلف مجتهد قادر على إحداث فقه عميق بالنظر الجزئي، وفقه دقيق بالنظر الحضاري، وفقه منظم يتعلق بالنظر المنهاجي ينتظم فيه عناصر الفعل الجزئي بالفعل الحضاري بكليات في أصول الفقه الحضاري الذي يؤصل نماذج معرفية تصوغ عقل المجتهد بما يتناسب مع ذلك المعمار الناظم وتعقد المشكلات وتركيبها وتوافقها وتواقفها على بعضها البعض.

إن هذا الأمر يرتبط بفقه يتعلق بالتحديات التي تتعلق بالأفراد والتحديات التي تتعلق بالأمم والحضارات وهو في هذا الأمر يصل بين هذا وذاك ضمن عمليات تربوية وثقافية وتعليمية وتدريبية متكافلة ومتفاعلة.

هذا يشكل منهج نظر وتناول وتعامل تتصل مضامينه كما تتواصل مع مراميه ومقاصده.

وكأننا بذلك يمكن أن نخرج من أسر السياق الأصغر إلى السياق الأكبر ضمن منظومة سياقية تحاول أن تحرك هذه الكليات لتتواصل مع بعضها البعض كذلك لتتناغم تلك الجزئيات في اندراجها الجميل والرصين ضمن هذه الكليات.

هذه المسألة إنما تشكل ليس فقط أهمية إضافية لمعالجة فكرة السياق الأكبر على النحو الممتد والمنفتح والمنتظم والمتواصل ولكن أيضا نعطي لفكرة السياق حجية أعلى وأجل تجعل من المجتهد والاجتهاد عملية عميقة تجمع بين المنظور الاجتهادي الفقهي والمنظور الحضاري الكلي.

هذا الجمع إنما يشكل إطارا منهاجياً يجب أن يتحول إلى سياقات تعليمية وتدريبية وتربوية، تشكل المصداقية والأهمية والتعاضدية والتكاملية ما بين الأطر المنهجية التي يمكن أن تشكل بدورها أصلا فعالا في العملية الاجتهادية سواء كانت ضمن الأحكام الجزئية أو الأحكام الحضارية الكلية، ماذا يعنى كل ذلك بصدد المواطنة في دولة مسلمة؟

رابعا: بناء مفهوم للمواطنة يحفظ جامعية الأمة والجماعة الوطنية:

من الضروري التعامل مع باب الوسائل والآليات في إطار يحفظ جامعية الأمة واعتصامها والأدوات والوسائل بحكم هذا الفقه الذي يعد بابا مهما من أصول الفقه الحضاري والعمراني إنما يشكل مدخلين مهمين:

الأول منهما يتعلق بالوسائل والآليات لمواجهة التحديات وتقديم الاستجابات والأمر الثاني يتعلق بالأدوات التي تعين على بناء الأمة وعمرانها في سياق يتكافل هذا النوع من الأدوات مع أخيه ليحقق عملا مثمرا يصب في عافية الامة وكيانها.

من الممكن أن نصنف الوسائل التي يجب الاهتمام بها ضمن مشروع حضاري لنهضة الأمة وارتقائها إلى ثلاثة صنوف متكاملة ومتكافلة:

الاول منها يعنى بالأدوات المنهجية والوسائل المعرفية

والثاني يتعلق بالأبنية المؤسسية لاتي يمكن أن تقوم على مهمة هذه الجامعية فتدفع الأضرار المتعلقة بها وتجلب المصالح البانية لها

أما النوع الثالث من الوسائل والاليات فانه يقترن بقدرة الامة على التعامل تدريجا في تنفيذ سياساتها الجزئية وخططها الكلية بحيث يحقق التواصل بين الجزئي والكلي في عمليات التكامل والتفعيل والتشغيل، وبما يؤصل معاني موصولة بفقه الحال وفقه المجال كعمليات مترابطة ومتصلة بفقه التنزيل.

إن بناء استراتيجي أو توجه نحو بناء المواقف والقدرات المتكاملة والمتكافلة بحيث تمثل أحد مداخل الاستجابات الواعية لمواجهة التحديات التي تترى على الأمة، ومن هنا فإن عملا ثقافيا وتربويا من الأهمية القيام به وعليه في إطار التدريب الواعي على فنون “الاختلاف” وفنون “الائتلاف” على حد سواء، بحيث تشكل البنية التحتية لاعتصام الأمة وتعبئة قدراتها بما يحقق هذا في إطار تجميع المصالح وامكانات تبادلها بدلا من تناقضها وتصارعها، “بناء المصالح” “واحد” من أهم الأهداف المشتركة التي يجب أن تؤسس على قواعد ثقافية وتربوية واجتماعية واقتصادية وسياسية بما يحقق ” التجديد التفعيلي ” على الأرض وبما يصب في عافية الأمة وكيان وجودها وحركة استمرارها ونهوضها وعمارتها وارتقائها.

إن جهود التأصيل والتفعيل والتشغيل للمواطنة يجب أن تكون ضمن تصور استراتيجي يحقق جامعية وفاعلية الأمة، وتأهيلها لمعاني الرافعية للنهضة، والدافعية لعمرانها، وبناء المصالح المشتركة والمتبادلة بحيث تتحرك صوب تأسيس ذلك كواجب وقت يلتزم في القيام عليه جملة الثوابت والكليات، وهو ما دعانا الى ضرورات استثمار وتفعيل وتشغيل المدخل المقاصدي وغيره من مداخل كلية في تجديد الخطاب الديني بنية وأداء (9 ) ،على أن تكون عملية التجديد هادفة الى تحقيق غاية ومقصد استراتيجي من مثل الحفاظ على جامعية الأمة وفاعليتها وتستأنف أدوارها الحضارية ومكانتها، للقيام بهذا الدور الحضاري والاستراتيجي في آن واحد، المواطنة ضمن هذا السياق حركة المرجعية والدافعية والرافعية والجامعية والشرعية والتجديدية والفاعلية.

خامسا: تعريف المرجعية وعلاقتها بالمواطنة:

المرجعية هي الأصول الفكرية والثقافية العامة التي التي تؤمن بها الجماعة الوطنية وتشكل قوة التماسك الأساسية في تشكيلها بوصفها جماعة بشرية وهي أيضا الأصول الفكرية والثقافية التي تتشكل منها هياكل التنظيمات السياسية والاجتماعية المشخصة للجماعة العامة كجماعة سياسية، أو الجماعات الفرعية التي يتكون منها المجتمع والمنظمة لأنماط العلاقات الاجتماعية السائدة(10 ) .

الإنسان رؤية العالم والإطار المرجعي:

الإطار المرجعي يشتمل على جملة الافتراضات والرؤى الأساسية والتأسيسية التي تشير إلى طبيعة الحياة وأبعادها الأساسية وعملياتها ومسار حركتها التي يؤمن بها الإنسان أو يتخذها مرجعًا ومرشدًا له في رؤية الظواهر الحضارية على امتدادها وتنوعها وتشابكها.

ومن هنا فإن إطار المرجع يحدد الأنساق المفاهيمية والمعرفية والفكرية والقيمية والسلوكية التي تصف وتفسر السلوك والظواهر والإطار المرجعي هو الذي يحدد للإنسان ما له دلالة وأهميته عند النظر إلى الظواهر الحضارية في وصفها وما يفتقر إلى تلك الدلالة والأهمية.

ومن الحقائق التأسيسية في هذا المقام أن نتحدث عن المرجعية بما يتبادر به إلى الذهن ولكن أن نتحدث عنها بما يشكل رؤية متكاملة للعالم للإنسان والكون والحياة، وما يتولد عن هذه الأصول من علاقات وتفاعلات.

والجماعة المرجعية تنصرف الى الامة خيريتها صفة، ووسطيتها منهجا، وشهودها فعلا وفاعلية وتأثيرا. وهي لا تتنافى أو تنفى جماعات مرجعية فرعية أو مشتقة أخرى بل توظفها في كيان الامة بحيث تصب في عناصرها المؤسسية (الخيرية-الوسطية-الشهود). وشبكة الإسنادات المرجعية في جملة المراجع والمصادر التي يجب الرجوع اليها من دون ان يعنى ذلك انغلاقها او الاكتفاء او الانكفاء عليها، بل ضرورة ان تتحرك صوب أهم وصف لها والتي تتعلق بنسقيتها المنفتحة في اطر المقارنة، وعمليات تحكم التواصل بين عناصر العلم النافع ومعاني الحكمة في كل سياقاتها وتنوعاتها.

وبهذا فإن فكرة المرجعية وفق عناصر الترجمة الإجرائية باعتبارها إطار للمرجع لأنساق الإدراك والقيم والسلوك والمصالح إنما تعبر بذلك عن فكرة جامعة ودافعة ورافعة وفاعلة.

ومن هنا فإن عناصر المرجعية التي تجمع بين رؤى التأسيس واعتبارات الواقع والجماعة الوطنية المرجعية وأصول وقواعد النظام العام فضلاً عن السياقات الثقافية التي تشكلها اللغة والرموز وكافة العناصر الثقافية إنما تعبر جميعًا عن أعمدة في بناء معماري يشكل أصول هذه المرجعية حينما تنسجم تلك العناصر وتتكامل وتتكافل وتأتلف بحيث لا تقوض ولا تهدم، وقد تختلف هذه الأعمدة في شكلها وفي تجلياتها ولكن نظر لهذه الأعمدة فضل رفعها للأسقف الحضارية والعمرانية لفاعلية إنسان الحضارة الذي يرتبط بها.

هذه الأعمدة وإن اختلفت في مبناها ومظهرها فإنها تأتلف في معناها وجوهرها ووظيفتها، وكأن ذلك الاختلاف في الأمة وجب على من يعيش فيها ويتعارف في ساحاتها أن يجعله اختلاف الرحمة الذي يشكل عناصر الوجود الحضاري الرافع والدافع والفعَّال والمالك لعناصر تصحيحه الذاتي وتجدده الذاتي.

سادسا: الشريعة الإسلامية والمواطنة.. نحو تأسيس الجماعة الوطنية:

تعتبر قضية العلاقة بين الشريعة والمواطنة من المسائل المركبة لا باعتبار الجمع بينهما على صعيد واحد، ولكن بالاعتبار الذي حملت فيه قضية الشريعة ومسألة المواطنة بما لا تحتمل، وأدى ذلك إلى تصور حقيقية هذه العلاقة ضمن رؤى تفترض تناقضا في العلاقة بين الشريعة والمواطنة، على الرغم من أن قضية الشريعة تنتمي إلى دائرة المرجعية والقواعد المتعلقة بالنظام العام، بينما قضية المواطنة ترتبط بأسس المرجعية (المعاش الواقعى) التي تتعلق بالواقع الذي يجمع المواطنين ضمن وطن واحد وحالة من المواطنة؛ ترتب أصول التعامل ضمن قاعدة المساواة العامة في الحقوق والواجبات.

من الضروري أن نحدد منهج النظر للعلاقة بين المواطنة والشريعة، ضمن دوائر عدة تتراوح بين التراحم والتزاحم والتصادم، فقد يرى البعض أن الشريعة والمواطنة صنوان، وقد يرى البعض الآخر أن العملية السياسية لا تتسع لكلاهما ولكل مجاله، بينما يرى فريق ثالث أن الشريعة والمواطنة مفترقان / متمايزان، ويتبنى رابع أن الشريعة والمواطنة متصادمان متنافيان، وذلك ضمن ضغوط تتعلق بواقع يعيش فيه النظام الاستبدادي على توليد الاختلافات بين طوائف الأمة وإستغلال ذلك الخلاف لمصالحة الاستبدادية، صناعة الخلاف والاختلاف عملية يقوم بها النظام السياسي الاستبدادي ضمن عمليات متراكمة، فتفتعل خلافا، وتختلق اختلافا، وتؤجج تناقضا، بحيث تصرف النظر عن جملة القضايا الحقيقية التي ترتبط بكيان المواطن والإنسان، وتتعلق بحقوقه المهدرة، وكيانه المهدور.

لا يمكن التعارف على المبادئ التأسيسية التي تتعلق بالشريعة إلا في إطار منظور عام وكلي يرتبط أول ما يرتبط بالمقاصد الكلية العامة للشريعة، وبما يحدد العلاقة بين الديني (الشريعة) والسياسي (المواطنة)، والشريعة في مبادئها (مرجعية النظام العام)، والمواطنة في جماعتها السياسية (جماعة المواطنين عبر الوطن)، هذه الرؤية هي التي تكشف مسار ووسط العلاقة بين حقائق التأصيل ومداخل التزييف، والذي يتخذ مسارات عدة، وتوجهات تحمل في طياتها أحكام وتعميمات تحتاج في حقيقتها إلى مراجعة وتأمل، من مثل أن الديني لا علاقة له بالسياسي، الخلط بين تأثير الديني الجوهري والحقيقي في الاجتماع الإنساني وعمليات تسييس الدين وتوظيف قدراته، الشريعة بين الفرض والرفض، الشريعة ومداخل الأقلية والطائفية، الدستور بين الوحدة الكيانية وصراع الموارد وفكرة التوازنات.

قد تكون هذه القضايا جميعا خاصة في حال تشوشها وتشوهها، تعاني ضمن سياق عام من التضمينات السلبية والتي تولد كثيرا من تلك الهواجس، هذا السياق قد يؤثر تأثيرا سلبيا أو إيجابيا في سياق تراكمات معينة على النظر للجماعة الوطنية والسنن التي تؤدي إلى تماسكها والنظر في تلك الأمور التي تؤدي إلى تفككها، وهو يشكل سياقا تاريخيا يجب النظر فيه، والتعامل معه بدقة وحساسية وروية، كذلك يجب أن يؤخذ في الاعتبار ذلك السياق الإعلامي ولغة الخطاب السائدة التي تحتوي على مفجرات ومفخخات، وكذلك البحث في السياق عن تلك المداخل التربوية والتثقيفية التي تحيط بهذه العملية التي تشكل شروطا لتأسيس الجماعة الوطنية وتشكيل وعيها.

كما أن هناك من بعض المهتمين بهذا الأمر من أضاف إلى ملف الطائفية معالجة جديدة لا تقل خطرا عن المعالجة الأمنية السائدة في التعاطي مع هذا الملف، فبعد أن كانت المعالجة الأمنية هي فقط التي تسيطر على معالجة ملف الفتنة الطائفية أضاف البعض المعالجة الفتنوية والتي قد تزيد الأمور اشتعالا، ومن هنا وجب علينا أن نضع الأمور في أحجامها الحقيقية من دون إقحام الدين من غير ميدان واللجوء إلى خطاب الاستنجاد والاستغاثة وكأننا نولول على انتهاك حق هنا أو حق هناك بسبب الديانة أو ما شابه ذلك، أصبح هناك ما يمكن تسميته معالجة فتنوية لكثير من الأحداث والتي يمكن أن تنتمي إلى دائرة العلائق الاجتماعية والاقتصادية يقحم الدين فيها ومن أقرب طريق( 11) .

 سابعا: المدخل الحقوقي وأصول النظام العام وحركة المجال العام:

فكرة النظام العام هي من الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها علم القانون إلا أنها ليست فكرة قانونية خالصة ابتدعها علم القانون فانحصرت فيه وتقوقعت داخله بل إنها تطالعنا خارج علم القانون كذلك فجد لها مكانا بين العلوم الإنسانية المختلفة لتقع في منطقة التماس بين علم القانون وعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد،.، فهي مفصل من مفاصل ربط هذه العلوم بعضها ببعض باعتبارها إحدى قوى التأثير داخل المجتمع والدولة. ففكرة النظام العام في وضعها المعاصر توصف بأنها (12 )صمام أمان حافظ لأي نظام اجتماعي مما قد يتهدد أسسه التي ينبني عليها. فضلا عن كونها الغطاء الشرعي لدفع حركة المجتمع تحقيقا لأهدافه.

.. من الثابت أن فكرة النظام العام من نتاج الفكر القانوني الغربي.. إلا أن النظر إلى وظيفة الفكرة ومضمونها يكشف عن أبعاد كونية لها فمهمة الحفاظ على قيم المجتمع الأساسية ومرجعيته العقدية وأسسه الفلسفية الأيديولوجية وهي المعروفة بالأصول والكليات التي تبني عليها الجماعة حركتها، لا شك أن الشريعة الإسلامية تضمنت من الأفكار ما مكنها من الاضطلاع بهذه المهمة.

المجال العام والملف القبطي:

إن سيطرة المؤسسات الدينية على المجال العام يطرح تساؤل هل يعني ذلك أن تبتعد المؤسسات الدينية كلية عن المجال العام ضمن رؤية علمانية؟ الأمر ليس على هذا النحو فكثير من المؤسسات الدينية حتى في الحضارة الغربية شكلت واحدة من الفعاليات التي تدخلت في المجال العام فضلا عن المجال السياسي، الكنيسة في بولندا، وفي أمريكا اللاتينية. ومن هنا فإن الأمر لا يرتبط ربما بانخراطها المباشر في المجال العام بحيث تحل الكنيسة محل مؤسسات أخرى وجب أن يرتبط بها ذلك المجال العام والخطاب العام، أبرز ما في ذلك بروز وتكرار الحديث عن شعب الكنيسة، ومحاولات تسييس ما يسمى بأحداث الفتنة الطائفية، وقد تزامن ذلك مع انسحاب الدولة من مساحة تتعلق بالمجال العام مما أدى إلى فراغ ربما حاولت بعض المؤسسات ملئه خاصة حينما يتعلق الأمر بمنظور توجه بعينه ينظر للأقباط كطائفة أو أقلية

هناك كذلك ما يتعلق بعشوائية النظر فضلا عن عشوائية الواقع الذي يتعلق بالمجال العام على وجه العموم، ذلك أن المجال العام بدا كساحة متنازع عليها ضمن قوى شتى لا تعبر الكنيسة إلا عن واحدة منها.

وفي هذا السياق فإن النشاط القبطي في مصر ليس بعيدًا عن هذه الأرضية الحوارية إلا أنه يجب أن نجيب وبوضوح وتمييز على مجموعة من الأسئلة، هذه الأسئلة التي تطرح أو يُسكت عنها، من المهم أن نخرجها لحال العلن والمكاشفة في إطار شفافية تعكس حقيقة العلاقة بين عناصر النسيج الاجتماعي للأمة وذلك ضمن مدخلين للمرجعية يجب الوقوف عليهما:

مرجعية الجماعة الوطنية وقواعد النظام العام التي لا تستنكف من أن تجعل الثقافة الإسلامية أصلا مرجعيا مكينا.(الاعتراف بالثقافة العامة والثقافات الفرعية المتنوعة).

مرجعية المواطنة في العمل السياسي والشأن العام وقضايا الحقوق والواجبات، بما يؤسس لجماعية المواطنة عبر الوطن ودون أدنى شبهة للاستقواء بالخارج أو العمل خارج قواعد تأسيس الجماعة الوطنية.

ثامنا: تأسيس الدولة ودستور المدينة: المواطنة في دولة مسلمة:

نصت وثيقة دستور المدينة على اعتبار الإسلام أساسا للمواطنة في الدولة الإسلامية الجديدة التي قامت في المدينة المنورة. وأحلت الوثيقة الرابطة الدينية محل الرابطة القبلية، فعبرت عن المسلمين بأنهم “أمة من دون الناس” (م/2) ويجعل هذا النص المسلمين أمة يجمع بين أفرادها الإيمان بالدين الذي جاء به محمد (ص) دون نظر إلى أصولهم القبلية أو النسبية. وهذه ظاهرة يعرفها المجتمع العربي لأول مرة في تاريخه، فلم يجتمع فيه الناس قبل الإسلام إلا على أساس من صلات القرابة والنسب.

والمواطنة للمسلمين مقتصرة على المقيمين بالمدينة من أهلها وممن هاجر إليها مع رسول الله (ص)، أو قبله أو بعده، ولا تشمل المسلمين غير المقيمين في المدينة، لقول الله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) {الأنفال:72}.

ولم تحصر المواطنة في الدولة الإسلامية الأولى في المسلمين وحدهم. بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات. ففي فقرتها (25) تقرر الوثيقة أن “يهود بني عوف أمة مع المسلمين. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم”. ولا يقف عند يهود بني عوف وحدهم، وإنما تمضي النصوص من الفقرة (26) إلى الفقرة (36) لتقرر باقي قبائل اليهود مثل ما تقرر ليهود بني عوف.بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها. وأوضح هذه النصوص هو نص الفقرة (20 ب) الذي يقرر أنه ” لا يجير مشرك مالكا لقريش ولا نفس، ولا يحول دونه على مؤمن “. وهكذا يتبين أن عنصر الإقليم (المدينة) والإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم.

وقد نظمت الأحكام الإسلامية ـ بعد ذلك ـ في القرآن والسنة أوضاع غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وعرضت لذلك كتب الفقه الإسلامي المتخصصة في موضوع اهل الذمة، والمبسوطة الشاملة لأبواب الفقه كافة تحت عنوان “أهل الذمة” ولا يختلف الباحثون ـ من مسلمين وغير مسلمين ـ في أن الإسلام قد كفل لأهل الذمة حياة كريمة عزيزة لحمتها العدل معهم والمساواة بينهم وبين المسلمين وفق أحكام الإسلام التي تقرر ذلك، وسداها الرفق بهم والتسامح معهم في كل ما لا يخل بأحكام الدين الإسلامي أو يعرض نظام دولته لخطر أو ضرر.

النظام الإسلامي هو النظام القائم على الشريعة الإسلامية، المؤسسة تفاصيله على وفق قواعدها في الاجتهاد والاستنباط والتفسير والتأويل، وغير المسلمين هم شركاء المسلمين في الوطن منذ كانت للإسلام دواته : دولته الأولى في المدينة المنورة، ودوله التي توالت أيامها بعد انتقال النبي (ص) إلى الرفيق الاعلى، وحتى يوم الناس هذا.

من الضروري الإشارة إلى أن هناك أصول مهمة في هذا المقام تجدر الإشارة إليها والتي تتمثل فيما يلي:

الأصل الأول: تحكيم نصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة، والأصل الثاني: قبول ما تقتضيه المشاركة في الدار، أو الوطن بتعبيرنا العصري، والأصل الثالث: إعمال روح الاخوة الإنسانية، بدلا من إهمالها، فكل قول أو رأي أو فعل نافي روح الأخوة فقد غفل صاحبه عن أصل من أصول الإسلام عظيم نطق به القرآن الكريم، والسنة الصحيحة ( 13 ).

إنهم أمة واحدة من دون الناس.

لا شك أن المراد بكلمة أمة هي الجماعة السياسية المتميزة بقرينة قوله (من دون الناس) والتمايز قائم على معيار جديد غير قبلي وغير دموي، وهو معيار عقيدي..إن وحدة الأمة أمر ثابت لا يمكن التشكيك في ثباته وحرمة الاخلال به، ولكن في إطار وحدة الأمة يمكن أن يتعدد المجتمع السياسي ويمكن أن تتعدد الدولة حسب المجتمع السياسي داخل الأمة الواحدة ( 14 ).

..الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمع سياسي متنوع في دولة واحدة ونظام حكم واحد، على أساس الإسلام يتمتع الجميع فيها بحق المواطنة الكاملة. ولا يشترط لإقامة دولة أن تكون لمجتمع إسلامي نقي خالص ( 15 ).

عند وصول الرسول صلى الله عليه وسلّم المدينة المنورة مهاجرا، سارع الى ارساء معالم الدولة الاسلامية الاولى، وعزمه على تأسيس التجربة السياسية الجديدة وجد لديه واقعاً لا يمكن بحال حمله كلياً على أساس العقيدة، حتى أنَّ المسلمين المتوحدين بالعقيدة لم يكونوا واقعاً واحداً، فالأنصار كانوا يمتلكون الأرض والإمكانات والإنتماء إلى الأرض على عكس المهاجرين، الامر الذي اقتضى المواخاة بينهم لتجاوز التمايز الواقعي الذي يحول دون صهرهم في بوتقة التجربة الجديدة. وتجلى ذلك في قيامه صلى الله عليه وسلم بازالة اسباب الخلاف بين الاوس والخزرج، وتأسيس المسجد الذي اتخذ مركزا للدولة تقام فيه الصلوات وتتخذ منه القرارات، ثم امر بالمؤاخاة بين المهاجرين والانصار، ذلك الحدث الفريد في العالم الذي وحد مشاعر وآلام المسلمين، وجعلهم فعلا كالجسد الواحد.

كما وجد لديه خليطاً من غير المسلمين من المشركين واليهود.؛ وهنا فإنَّ إسقاط العقيدة كأساس للمشروع السياسي المراد تأسيسه في المدينة سوف تصدق على قسم من الناس ولا تصدق على القسم الآخر، فالإخوة الدينية والمشترك العقائدي يصلح لتكوين رابطة بين المؤمنين فقط وضمن شروط لتجربة أخرى تأخذ بكافة أسباب ومقتضيات التجربة الدينية البحتة، وواقع المدينة لم يكن كذلك كونه يشتمل على غير المسلمين ولوجود واقع آخر يميز التجربة الإنسانية في أبعادها العقدية والإجتماعية، وهنا فإنَّ لوازم المشروع السياسي المراد تأسيسه من خلال هذه التجربة الإنسانية تقتضي إيجاد رابطة أعم تصدق على واقع المدينة المتنوع والمتعدد في أطيافه وألوانه المجتمعية والعقيدية، وهذا ما فعله الرسول(ص) عندما عقـد اتفاقاً مع المسلمين وغير المسلمين، عرف باسم (صحيفة المدينة)، فكان بحق أول من وضع المعنى الحقيقي لمفهوم المواطنة المسؤولة والمحدودة بحدود وضعها الرسول كعلامات توقع مسؤولية من أخل بداخلها تحت دائرة حكم الإسلام ومرجعيته طبقا لأحكام هذه الصحفة (صحيفة المدينة) التي تعد بالمفهوم المعاصر مرجعية دستورية لسكان المدينة النبوية؛ اذ إنَّ تلّمس جوهر هذه الصحيفة – التي تتضمن 47 بنداً- يوضح المشتركات القيمية مع مبدأ المواطنة، من خلال الاعتراف بالتعددية واحترام حقوقها وواجباتها لكل من سكن المدينة مسلماً كان أو غير مسلم. ونلاحظ أنَّ الرسول (ص) وصف المسلمين واليهود وغيرهم ممن دخلوا في هذه الاتفاقية بأنهم أمة من دون الناس، وأنهم جماعة لديها اتفاق يخصها دون غيرها من الجماعات خارج المدينة.

وفي هذا الشأن نصت الصحيفة: “هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلّم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم امة واحدة من دون الناس”. وقد أكدت الصحيفة ايضا مفهوم النصرة المتبادلة بين سكان المدينة مسلمين وغيرهم كما في البند (16 – 37)، إن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم)). وتعرض الصحيفة في مواضع مختلفة أن الاحتكام حين التشاجر والاختلاف هو لله ورسوله(بند23 – 42) مما يعني تأكيد السيادة الشرعية.

وهذا التعريف الواسع للأمة هو إطار الجماعة السياسية المراد تأسيس مجتمع المدينة على أساسه من خلال بنود هذه الصحيفة التي شكّلت إطاراً واسعاً للتعايش بين الأديان والجماعات الإنسانية المتنوعة.

وهذا يتطابق مع مفهوم المواطنة القائم على فكرة العلاقة العضوية بين أفـراد المجتمع السياسي للدولة والتي تحتمها ضرورات تنوعهم وتعدد أطيافهم؛ مما يقتضي إيجاد رابطة تشملهم جميعا.

من جانب اخر نظمت الصحيفة حقوق الجماعات والافراد، فنصت على ان جميع افراد الامة متساوون في حق منح الجوار لان ذمة الله واحدة، يجير عليهم ادناهم غير ان الصحيفة قيدت هذا الحق بالنسبة للمشركين من افراد الامة بقولها: ” وانه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن” وذلك لان مشركي قريش كانوا في حالة حرب مع المسلمين. واعطت الصحيفة لغير المسلمين الحق في حرية التدين، فقالت (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم)، لقوله تعالى: “لا اكراه في الدين” وقوله عليه الصلاة السلام عندما كتب الى اهل اليمن “انه من كان على يهوديته او نصرانيته فانه لا يفتن وعليه الجزية. وكذلك يتركون وما يعبدون، ويسيرون” (1 :45)

كما منحتهم حرية التصرف في احوالهم الشخصية حسب اديانهم من زواج وطلاق وغيره بل وتعين الدولة لهم قاضيا منهم ينظر في خصوماتهم. واما المطعومات والمشروبات والملبوسات فيعاملون بشأنها حسب احكام دينهم ضمن النظام العام. واما الحقوق الادارية، فسائر رعايا الدولة هم سواء في تقلدها الا في المناصب الدينية، او التي تعتبر من اعمال الحكم. ولكل من يحمل التابعية وتتوفر فيه الكفاية، رجلا كان او امرأة، مسلما او غير مسلم ان يعين مديرا لأية مصلحة من المصالح او اية ادارة وان يكون موظفا فيها، ويجوز لكل حامل التابعية الاسلامية “الجنسية” وبغض النظر عن دينه وعنصره ان يكون عضوا في مجلس الامة. وان ينتخب او ينتخب لهذا المجلس وتنفق لدولة على رعاياها من غير المسلمين الفقراء ما تنفقه على فقراء المسلمين من اموالها بحيث تمكنهم من العيش الكريم اسوة بأي مسلم، وتمكنهم من قضاء لوازم حياتهم الضرورية وتعليمهم كما تمكن المسلمين. ومن حقوق اي فرد في الدولة استخدام المرافق العامة، واحياء الارض الموات ومن واجب الدولة المحافظة على حرماته الشخصية.

ومن الملفت للنظر أنَّ صحيفة المدينة اعتبرت الحقوق هبة الله تعالى وليس لأحد انتهاكها وأنها قرنت الحقوق بالواجبات في تأكيد جازم على ملازمتها لإنتاج حياة مسؤولة وهادفة، وأشارت إلى قدسية حقوق الإنسان من خلال تأكيدها على التعاون ضد الظلم والفساد والطغيان وحماية الضعيف، ولم تعط أي طرف ميزة خاصة، ووثقت مبادئ الإيمان والعدل والمساواة والتعاون بين بني البشر جميعاً.

واذا كانت النصوص الاسلامية قد اسندت المسؤولية الجزائية على كل مسلم بصفته الفردية، فكذلك شملت هذه القاعدة غير المسلمين فجاء في الصحيفة: ” الا من ظلم واثم، فانه لا يوتغ – اي يهلك – الا نفسه” وكذلك وضحت الصحيفة ما هي واجبات (غير المسلمين لا سيما اليهود)؛ حيث اوجبت الصحيفة على اليهود عدم منح الجوار “الحماية” لقريش ولا من نصرها، كما ان من واجبهم مناصرة المسلمين في محاربة من اعتدى على المدينة. اضافة إلى تحديد النطاق الجغرافي الذي يحاسب عليه أي إنسان اقترف جرماً داخل ما يسمى بجوف المدينة كما في البند رقم (39 – 44) ومن تحليل تلك النصوص يتضح ان الاسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب أحكامه وحدة إنسانية بغض النظر عن طائفتها وجنسها، فليس في الإسلام ما يسمى بالأقليات، بل جميع الناس لهم الاعتبار الانساني فقط ما داموا يحملون التابعية او الجنسية، فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له سواء أكان مسلما ام غير مسلم. ويطبق الاسلام على جميع الرعايا باعتباره قانونا للجميع، فحين تطبق احكام المعاملات والعقوبات مثلا، يُنظر الى الناحية التشريعية القانونية، لا الناحية الروحية الدينية.

وهكذا عدتَ صحيفة المدينة أول وثيقة حقوقية نظمت العلاقة العضوية بين أفراد الجماعة السياسية وضمنت الحقوق والواجبات على أرضية التعددية الدينية والعرقية وأنها عقد مواطنة متقدم على عصره بين رأس الدولة ومن معه من المسلمين، وبين سكان المدينة من اهلها الذين لم يدخلوا الاسلام بعد ( 16 ).

تاسعا: المواطنة:

المدخل المفاهيمي بين معطيات اللغة والتاريخ والثقافة والفكر:

لم ير بعض أهل اللغة دلالة لهذا اللفظ على مفهومها الحديث؛ إذ إن (واطن) في اللغة تعني مجرد الموافقة وواطنت فلاناً يعني وافقت مراده، لكن آخرين من المعاصرين رأوا إمكانية بناء دلالة مقاربة للمفهوم المعاصر بمعنى المعايشة في وطن واحد من لفظة (المواطنة) المشتقة من الفعل (واطن) لا من الفعل (وطن) فواطن فلان فلاناً يعني عاش معه في وطن واحد كما هو الشأن في ساكنه يعني سكن معه في مكان واحد.

والمواطنة بصفتها مصطلحاً معاصراً تعريب للفظة (Citizenship ) التي تعني كما تقول دائرة المعارف البريطانية (علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق – متبادلة – في تلك الدولة، متضمنة هذه المواطنة مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات) ( 17 )

الوطن، المواطن، المواطنة، الوطنية، تعبيرات شائعة يختلط في معناها الوصف بالقيمة. لكنها جميعا تنطوي على اشكاليات اساسية، مصدرها كما اظن هو تطورها خارج الاطار المعرفي العربي، وتطبيقها على نحو متغاير مع حاجات الناس في العصر الجديد. تُعَدُّ «المواطنة» أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر الليبرالي منذ تبلوره في القرن السابع عشر كنسق للأفكار والقيم، تم تطبيقه في الواقع الغربي في المجالين الاقتصادي والسياسي في القرنين التاليين، وما ترتب على ذلك من آثار على الترتيبات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في القرن العشرين ثم مطلع قرننا هذا .

وإذا كانت الليبرالية عند نشأتها قد دارت بشأن فكرة الحرية الفردية والعقلانية وتقوية مركز الفرد في مجتمع سياسي قام على قواعد عصر النهضة على أبنية اجتماعية حاضنة وقوية، فإن مفهوم المواطنة قد تطور وتحوّر عبر مسيرة الليبرالية ليتركز حول خيارات الفرد المطلقة وهواه كمرجع للخيارات الحياتية والسياسة اليومية في دوائر العمل، والمجتمع المدني، والمجال العام، ووقت الفراغ، وليصبح «المفهوم المفتاح» الذي لا يمكن فهم الليبرالية وجوهرها من دون الإحاطة بأبعاده المختلفة وتطوراته الحادثة المستجدة، إذ يستبطن تصورات الفرد، والجماعة، والرابطة السياسية، ووظيفة الدولة، والعلاقات الإنسانية، والقيم والأخلاق .

وقد شهد هذا المفهوم تغيرات كثيرة في مضمونه واستخدامه ودلالته، فلم يعد فقط يصف العلاقة بين الفرد والدولة في شقها السياسي القانوني كما ساد سابقا، بل تدل القراءة في الأدبيات والدراسات السياسية الحديثة على عودة الاهتمام بمفهوم «المواطنة» في حقل النظرية السياسية بعد أن طغى الاهتمام بدراسة مفهوم «الدولة» مع نهاية الثمانينات، ويرجع ذلك لعدة عوامل، أبرزها الأزمة التي تتعرض لها فكرة الدولة القومية التي مثلت ركيزة الفكر الليبرالي لفترة طويلة؛ وذلك نتيجة عدة تحولات شهدتها نهاية القرن العشرين :

أولها: تزايد المشكلات العرقية والدينية في أقطار كثيرة من العالم، وتفجر العنف بل والإبادة الدموية، ليس فقط في بلدان لم تنتشر فيها عقيدة الحداثة من بلدان العالم الثالث بل أيضا في قلب العالم الغربي أو على يد قواه الكبرى، بدءا من الإبادة النازية لجماعات من اليهود، ومرورا بالإبادة النووية في هيروشيما، والإبادة الصربية للمسلمين، والإبادة الأميركية للعراقيين وللأفغان، والإبادة الجارية للفلسطينيين .

وثانيها: بروز فكرة «العولمة» التي تأسست على التوسع الرأسمالي العابر للحدود وثورة الاتصالات والتكنولوجيا من ناحية أخرى، والحاجة لمراجعة المفهوم الذي قام على تصور الحدود الإقليمية للوطن والجماعة السياسية وسيادة الدولة القومية، وكلها مستويات شهدت تحولا نوعيا .

وعلى صعيد آخر فإن نمو الاتجاهات الأصولية المسيحية واليمينية المتطرفة في البلدان التي مثلت مهد التجربة الليبرالية قد أدى إلى مراجعة المفهوم والتأكيد على محوريته لمواجهة هذه الأفكار وآثارها في الواقع السياسي والاجتماعي الغربي المعقد مع وجود أقليات عرقية ودينية منها العرب والمسلمون، هذا فضلا عن وصول الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع الليبرالي، بعد أن أدى التطرف في ممارستها وعكوف الأفراد على ذواتهم ومصالحهم الضيقة إلى تهديد التضامن الاجتماعي الذي يمثل أساس وقاعدة أي مجتمع سياسي، وتراجع الاهتمام بالشأن العام لصالح الشأن الخاص، وتنامى ما يسميه البعض «موت السياسة» وبروز «سياسات الحياة اليومية ».

والإشكالية التي تهم العقل العربي والمسلم في هذا الصدد هي أن الفكر الليبرالي لم يؤدِّ إلى تأسيس تجارب ديمقراطية في العالم الغربي فقط، بل يطرح نفسه الآن وبشكل شبه منفرد كبديل للواقع السياسي والفكري في دول العالم الثالث التي تشهد تحولا نحو الديمقراطية، كما في أطروحة «نهاية التاريخ» وإعلان انتصار الليبرالية النهائي لباحث مثل فوكوياما، أو كطرف متماسك ومتجانس ومتقدم في مقابل حضارات أخرى (أو أدنى) في أطروحة مثل «صراع الحضارات» لهنتنجتون. فخيار المواطنة صار مثالية تروج لها الرأسمالية الليبرالية في الدول غير الغربية، ويتم تقديمها كحل لمشكلات الجنوب «على طريق التقدم» يرتهن بتحول الرابطة السياسية داخل مجتمعاتها من رابطة تراحمية عضوية أو قرابية – ريفية أو قَبَلية – إلى رابطة تعاقدية علمانية و»مدنية للمواطنة؛ لذا فإن فهم دلالات «المواطنة» كرابطة تزعم أنها تجبّ روابط الدين والعرقية والأيدلوجية لَهُو أمر يحتاج مزيد تأمل وتقص، وتحريرا وتقويما، واختبارا في الواقع التاريخي بين النجاح والإخفاق .

من المواطن الرشيد للمواطن المستهلك

لقد أدت التطورات السالفة الذكر التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة إلى تركيز بعض الدراسات على ظواهر وحوادث كان لها أكبر الأثر في تغيير مفهوم المواطنة ليشمل أبعادا جديدة. فكتابات النظرية السياسية الليبرالية الأولى التي كان مفهوم العقلانية والرشد فيها مرتبطا بالقيم المثالية والفلسفية ما لبثت أن تناولت مفهوم المنفعة بمعنى ذاتي/نفسي ثم بمعنى اقتصادي/مادي، وربطت في مجملها بين المفاهيم النظرية السياسية والرؤى الاقتصادية وهو ما أسماه البعض بالتحول من الديمقراطية الليبرالية إلى الليبرالية الديمقراطية بتقديم الاقتصادي على السياسي وغلبة المادية على الفكر الليبرالي. وما لبث الاقتصاد الليبرالي أن تحول من ليبرالية كلاسيكية تتحفظ على تدخل الدولة لليبرالية جديدة تؤكد على تدخل الدولة من أجل تحقيق الرفاهية في مجالات الأمن الاجتماعي. وهكذا صارت رابطة «المواطنة» منافع وحقوقا مادية محددة يطالب بها المواطن في مجالات الصحة والتعليم تهبط بالحقوق العامة السياسية لتفاصيل منافع مادية مباشرة، أي تم التركيز على الحقوق وليس الواجبات. ومن ناحية أخرى كان هذا يعني مزيدا من سلطة الدولة في الوقت الذي كانت تحولات الاتصال والعولمة ترشحها فيه للتآكل والذبول، فاستردت دورها في التوزيع السلطوي للقيم – المادية والمعنوية- وما لبثت أن بدلت هذا الدور شكلا في ظل تنامي الحديث عن الإدارة السياسية (Governance)عبر الحديث عن الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني ورجال الأعمال، على رغم أن سلطتها لا تقارن بالطرفين الآخرين، ونفوذها يخترقهما على شتى المستويات .

وعبر تفاعل هذه المعطيات تحول مفهوم المواطنة لدلالات نفعية وذاتية فردانية أعمق، كما صار مؤسسا على واقع معقد لا يثمر نتائجه المثالية الأصلية المنشودة بسبب وجود الدولة الطاغي، على رغم تحول هذا الوجود نوعيا وتغير وجهه وتجلياته بما أوحى للبعض بضعفها أو تراجع دورها لصالح آليات السوق العالمية، وهو ظن غير دقيق.

هذا التناقض توازى أيضا مع بروز تيارين متعارضين :

أولهما: واقعي، يرتبط بالتأكيد المتنامي على المصلحة المباشرة (الآن وهنا) ويهمش المثاليات الكبرى والمنافع الجماعية والمؤجلة (التي انبنت عليها نهضة الرأسمالية الأولى).

ثانيهما: تنويري، يتمثل في مناداة بعض الكتابات بإدخال البعد الأخلاقي في النظرية الاقتصادية، أي تجاوز الاقتراب الاقتصادي المادي النفعي لفهم السلوك الإنساني وتفسيره والتنبؤ به، واستعادة الأبعاد الإنسانية/الاجتماعية/ الأخلاقية في النظرية والتحليل الاقتصادي، وهو ما يستلزم ربط مفهوم المواطنة عند تحليله بالأسئلة الكلية في الفكر الليبرالي، وأبرزها تصورات الفرد وتعريف السياسة وما يترتب على ذلك من تصور لطبيعة المجتمع السياسي. كذلك فإنه على رغم تناول الكثير من الكتابات الليبرالية المعاصرة للتغيرات التي تتعرض لها المجتمعات الليبرالية في المجالات الاقتصادية والتقنية واستخدام مصطلحات جديدة تصف المجتمع والدولة في الواقع الليبرالي، مثل «مجتمع ما بعد الصناعة» أو «الدولة المتسعة» أو «الرأسمالية في شكلها الأخير» واختلاف مفهوم «القوة» في ظل التطور التكنولوجي والاتصالي وما لذلك من انعكاس على مفهوم السيادة – فإن الباحث نادرا ما يجد دراسة تقدم رؤية بانورامية للتحول الذي تم وتفسره بدلا من أن تكتفي بوصفه وحسب. ولعل من أبرز الكتابات باللغة العربية الرائدة في هذا الاتجاه كتابات الاقتصادي المصري الفقيد الراحل رمزي زكي .

مساحات جديدة ومسافات فكرية واسعة

مع تنامي عولمة الرأسمالية وهيمنة الرؤى الليبرالية الجديدة لم يعد ما نحن بصدده عند الحديث عن المواطَنَة هو المفهوم البسيط، ولا بقي السؤال هو: مواطنة أم لا مواطنة؟ على غرار:نهضة أم تخلف؟ حضارة أم ضد الحضارة؟ (أسئلة اللحظة التاريخية الأميركية الراهنة).الواقع أكثر تعقيدا من ذلك وهذه التصورات مضللة… ومضلّة .

أي مواطنة؟ هذا هو سؤال اللحظة الوجودية الإنسانية الحقيقي: مواطنة تنويرية تحترم الفرد وتؤسس مجتمعا يكتسب وجوده الجمعي من تجاوزه لقوى الطبيعة وتصوره الإنساني للإنسان، أم مواطنة رأسمالية مدينية مابعد حداثية؟

مواطنة قانونية شكلية متساوية ذات بعد واحد، أم مواطنة مركبة عادلة اجتماعية ديمقراطية ثقافية في ظل مشروع حضاري إنساني؟

مواطنة تتحدث عن الحرية والمساواة والجسد السياسي والعدل والشورى، أم مواطنة تتحدث عن اختزال القيم السياسية في حرية الجسد وتفكيك المجتمع لصالح نوع ضد نوع أو ثقافة ضد ثقافة ونفي التجاوز في الإنسان والتاريخ، وإعلاء سياسات الجسد واللذة على الجسد السياسي والخير العام والقيمة الإنسانية

مواطنة في أي سياق مكاني؟ مواطنة التنوير والليبرالية في المدن الاجتماعية ذات الطابع الثقافي والمسافات الإنسانية، أم مواطنة المدن الرأسمالية العالمية السرطانية المعادية للمجتمع والقائمة على «التجمع» الذي يحسب حسابات الاقتصاد وتدويله قبل حسابات الهوية والجماعة والثقافة؟

ثم أخيرا، مواطنة التدافع من أجل الغايات الإنسانية والنفع العام والسعي في دروب التطور الاجتماعي التاريخي، أم مواطنة اللحظة المتخيلة في تفاعل الشبكة الاتصالية الفردي التي تعيد تشكيل الوعي بالذات والهويات والأنا والآخر والـ «نحن»، وتعيد تشكيل مفاهيم الزمن والمكان من دون محتوى اجتماعي تفاعلي كما عرفته البشرية، وتعيد تشكيل حدود الخاص والعام وتهدد مفهوم المواطنة في كل تصوراته السابقة؟،هذه هي الأسئلة وتلك مساحات الاجتهاد والجهاد.

وهى مساحات للنقد ومسافات للمقارنة المنهجية الواجبة، مفهوم المواطنة وفق أصول النقد والمقارنة في حاجة لإعادة تشكيل ومداخل تعديل وتأويل ومقتضيات تفعيل ـتجعل هذا المفهوم ضمن مفاهيم الموقف حالة نموذجية لإعادة بناء المفهوم ضمن دواعٍ كثيرة، تفرضها عناصر اللياقة المنهجية والضرورات الواقعية والذاكرة الحضارية والاستنادات المرجعية وعناصر المفهوم في تحقيق مسالك الدافعية والشرعية والجامعية والتجديدية والفاعلية .

المواطنة -في أبسط معانيها- تشيع عدة معان: المساواة القانونية بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، والمشاركة السياسية دون قيود قانونية أو عرفية تفرض علي حركة المواطنين، وحياة كريمة تتمثل في وجود برامج عامة كفء تطور-دائما- من جودة الحياة التي يعيشها المواطنون. وسارت الخبرة الغربية- في مجملها- علي هذا التسلسل، بحيث حصل المواطن-أولا- علي المساواة القانونية، ثم –ثانيا- الحق في المشاركة السياسية، وأخيرا الحق في رفاهة اجتماعية، وأصبحت تلبية الحكومة لمطالب المواطن في الرفاهة الاجتماعية “دليل” علي الانجاز. ( 18)

عاشرا: المواطنة مفهوم منظومة في إطار الجماعة الوطنية:

موضوع المواطنة، والذي يعبر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها على أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزامًا بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه على أرض الواقع. المواطنة -وفق هذا التصور- بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات.

وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية. المفهوم بهذا الاعتبار “مفهوم منظومة” يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي).

المواطنة في دولة مسلمة الإشكالات والتحديات (2)-1

إنها أمور من الأهمية بمكان حينما ندرس خطاب السلطة والمجتمع كنص بصدد موضوع المواطنة، والذي يعبر عن الإطار القانوني والسياسي لممارسة حقوق المواطنة وتحمُّل واجباتها علي أرض الواقع.. ومفهوم المواطنة يتطلب وجوده إقرار مبادئ، والتزامًا بمؤسسات، وتوظيف أدوات وآليات تضمن تطبيقه علي أرض الواقع. المواطنة -وفق هذا التصور- بنية من المستلزمات والمقومات، وبنية فكرية وقيم، وبنية حقوقية ودستورية وقانونية، وبنية مؤسسية، وكذا بنية تتعلق بالسياسات والممارسات ( 19).

وهي من المفاهيم الشاملة، والتي تستدعي غيرها من مفاهيم حقوقية وسياسية. المفهوم بهذا الاعتبار “مفهوم منظومة” يشير إلى الحقوق الإنسانية الأساسية، والحقوق المدنية والسياسية، فضلاً عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وكذا الحقوق الجماعية، وهي تتعلق بكافة مجالات النشاط الإنساني (الشخصي والخاص والعام والسياسي).

حادي عشر: العقيدة والانسان والهوية:

تجديد العقيدة(الدينية) والانسان/ الفرد: الدافعية، الرافعية، الفعالية: فالعلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطنة والمرجعية يمكن أن تندرج ضمن إشكالية تتعلق بقابلية أى أمر من هذه الامور للانحراف سواء في تلقيه والتفكير به أو في تطبيقه وممارسته أو في مناسبته وملائمته (أخطاء التفكير والتأويل، أخطاء التدبير والتسيير، أخطاء التطبيق والملائمة)

وفي هذا السياق فإن اعتقادا تأسيسيا بأن المجتمع الفاضل المعافي هو المجتمع الذي يستغنى عن تدخل الدولة في شئونه بما يحويه من وعى وقيم ومؤسسات وسيطة، ويترك للدولة الفرصة للقيام بواجباتها الخارجية واالداخلية الخدمية، وفي هذا السياق يقول أحد المفكرين “إن المجتمع وليد فضائلنا وأن الدولة ـ السلطة ـ وليدة عيوبنا “، فالدولة تتضخم على مقدار فساد المجتمع.

وإن ذلك ربما يحيلنا إلى الأطراف التي تتشارك في انتاج جملة الظواهر العشوائية التي تعاني منها النظم والمجتمعات فالدولة أو بالأحرى السلطة تنتج جملة من الظواهر العشوائية حتى يمكن أن تغطى على عناصر استبدادها وفسادها وإفسادها، والجماعات العشوائية تعد مصنعا لتخريج الفرد والانسان العشوائى وحال التهميش الاجتماعى والاقتصادى والسياسي ينتج إنسانا مغتربا يمكن أن يسلك سلوكا يشوه تلك العلاقات بين هذه الابعاد المتنوعة فيراها متصارعة على امكانية الائتلاف الفعال فيما بينها.

يشير مفهوم الدافعية إلى ما يدفع الفرد إلى القيام بنمط سلوكي معين وإلى ما يوجه هذا السلوك توجيها يؤدى إلى تحقيق غاية ما وضمان استمرارية هذا السلوك حتى إنجاز هذا التحقيق وتشير الدافعية إلى تصورات الوجود الانسانى وغاياته وما يحتويه من جهد يحقق هذه الغايات دون أن يغفل الدينامية النشطة للكائن الانسانى وكذلك لا يغفل دور العوائق ومدى تأثيرها سلبا أو إيجابا في تحديد دور المثابرة كما تعنى دافعية الحياة بتهيئة السبيل للحياة الانسانية وصيانتها وعدم تبديدها، وتقوم دافعية الحياة على أساس حفظ ضرورات وتوفير الحاجيات وتيسير التحسينات وتنظيم الجهد المؤدى إلى تحقيق الغاية.

وترتبط الدافعية بمفهوم الجهد القاصد إلى العمل المؤثر الفعال وكأنه حالة من حالات الكدح ( ياأيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ).

إن الدوافع الايمانية الرافعة للهمم والحاملة على العمل قد غشاها الضعف واعتراها الوهن إذ تحلل الفرد من أى التزامات تخدم عملية التغيير وتسهم في مشاريع إنهاض الأمة.

وهناك تحديات كثيرة تحاصر الامة في هذا الواقع الجديد وأسباب مختلفة تقف عائقا أمام استرجاعها لفاعليتها بعد نزعها وخلعها للباس الغثائية الذى التصق بها منذ فترة من الزمن.

المواطن والجماعة الوطنية والهوية :الهوية ـ العقيدة ـ الفرد”الأنا” ـ الجماعة “النحن”: التربية والوعي بالهوية: تربية الهوية: إن “نزيف الحوار حول الهوية” بدا لي من الصعب إيقافه أو توقفه، في حوار استمر طيلة قرن أو يزيد. واستقر أمري على أن أتعرض لدرسين من دروس الهوية والبحث فيه، في هذا المقام تبرز فكرتان: إحداهما تتعلق بوعي الهوية، والأخرى تتعلق بالتربية على الهوية. أما الوعي بالهوية فهو يشمل عناصر ثلاثة:

الأول- منها يتعلق بأسئلة الهوية الحقيقية لا الزائفة، وقال الحكماء: إن السؤال الصحيح نصف الإجابة أو الاستجابة. من نحن؟، ماذا نملك؟، ماذا نأخذ أو نرفض: (الميزان)؟ على أي أرض نقف؟،أسئلة بعضها من بعض تشكل الإجابة الواعية الفاعلة لها.

الثاني- ضرورة توفير العناصر الأساسية لما أسماه الحكيم البشري “التيار الأساس” القادر على الإمساك بوعي بالنواة الصلبة لقضية الهوية، وتحديد الأصول الحوارية في القضايا المصيرية والحضارية الكبرى.

الثالث- ثقافة السفينة التي تقوم على قاعدة من الوطن المشترك والمصير المشترك والبحث في خروفات سفينة الهوية التي تكاثرت وتراكمت بما يؤدي إلى عاقبة الغرق والهلاك: إن أصغر خرق في سفينة الهوية لا يعني إلا أوسع قبر للجماعة بأسرها، فالأمر أمر جد لا هزل.

كل ذلك يوفر البيئة الأساسية الحافظة للهوية القاعدية، وهو مفضٍ لتأسيس عناصر الوعي بالهوية (وعي بالذات، وعي بالغير والآخر، وعي بالموقف)، في تفاعل بين منظومة الوعي وشبكته التي تسهم في بناء المجتمع والحفاظ على شبكة نسيجه الاجتماعي والحضاري ( 20 ).

لا ينظر الإسلام إلى المواطنة بمفهوم (إسلامية المسلم في مجتمعه الخاص ) على أنها حركة مغلقة، بل هي حركة منفتحة ؛ فإقامة المجتمع المسلم المتماسك يستهدف الانفتاح على ما وراءه انفتاحاً إيجابياً.(يأخذ في اعتباره معانى الغيرية واعتبارها والتعامل مع معانى التمايز بمقامها وشروطها نافية لكل استبعاد ناهضة بكل مسالك الاستيعاب وآليات التعارف بما يقتضيه من تشارك وعيش واحد مشترك).. إلى المجتمعات المسلمة للتوحد معها والإسهام في حمل همومها،… وإلى المجتمعات الأخرى للإسهام في إعلاء القيم الإنسانية التي تحقق للعالم تعايشاً سلمياً وتفاعلاً حضارياً نافعاً وتعارفا إنسانيا راسخا فياضا.

أن الإسلام لم يأت ليمنع ما فُطر عليه الناس، لكن ليهذب ذلك المعنى وذلك السلوك؛ فهو يعترف بعملية الانتماء الاجتماعي للأسرة (ادعوهم لآبائهم) والقبيلة (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) والدولة (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه) وجعلها أحد مقاصد الحياة الاجتماعية. ونسب القرآن الرجل لبلاده، ولكنه في الوقت ذاته أكد على لسان رسوله صلى الله عليه واله وسلم أنه “ليس منا من دعا إلى عصبية” أو جاهلية أو قومية وأحداث السيرة مليئة بشواهد كثيرة في هذا المعنى ( 21 ).

ضمن هذه الرؤى جميعا والتي تتكافل وتتساند مع بعضها البعض، يمكن رؤية هذه العلاقة بين الشريعة والمواطنة، فتعطي لكل منهما حقه الواجب في صياغة الجماعة الوطنية، و

تأصيل حقيقة علاقاتها التعاقدية القائمة على مرجعية الشريعة كقواعد نظام عام وجامعية المواطنة كقاعدة لتشكيل أهم عناصر وأواصر النسيج الاجتماعي، عبر الوطن والمواطنة ( 22 ).

ثاني عشر: منهج النظر:

كيف تشكل المواطنة مدخلا لحل إشكالات تتعلق بتحديات جامعية المواطنة؟

من الجدير بالذكر أنه قد يحتج البعض بحقوق الانسان على الشريعة فيؤكد أن حقوق الإنسان تمثل مرجعية في هذا المقام من غير حاجة للتأكيد على مرجعية الشريعة، ومن نافلة القول أن نؤكد على أن هذا الأمر قد يكون صادقا في حالة أن الشريعة لا تقدر حقوق الإنسان أو تقف في مواجهتها أو تتناقض معها، ذلك أن الشريعة تجعل من حقوق الإنسان من مرجعياتها الكلية الفرعية (المنظومة الإنسانية) (المنظومة الحقوقية) فيجعل من هذا قسيم للشريعة لا ينافيها ولا تنفيها.

ومن هنا تكون الحجة التي تتعلق بمرجعية الحقوق الإنسانية كحجة نافية للشريعة أمر لا يجد له أي سند ولا يستند إلى حجة فإن الحقوق سواء تلك التي تتعلق بالتأسيس أو بالحقوق السياسية والمدنية أو بالحقوق الفردية والاجتماعية او بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية او بالحقوق الجماعية أو الحقوق التي تتعلق بعمليات كلية التنمية /المعرفة / البيئة /.. إنما تجد مكانها اللائق ضمن مرجعية الشريعة وهي من أمور السياسة التي أشار إليها ابن القيم حينما نقل ذلك الحوار بين شافعي (من الشافعية) وأستاذه بن عقيل حينما دار ذلك الحوار حول السياسة وهو أمر يوضحه أكثر فأكثر قول الشاطبي باعتماد السياسة الشرعية ما حققت المصلحة وما أكدت عليها وقول العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام في مصالح الأنام ليؤكد هذه القواعد الكلية التي أرادها لم تكن لعالم المسلمين فحسب وإنما كانت لمجمل الخلق.

وأن المواطنة وكذا الديمقراطية هي مفاهيم علمانية بالأساس والتأسيس وتناسى هؤلاء أن الدين بما يمثله من حفز لقيم التماسك والجامعية إنما يشكل رؤية للمواطنة تحقق أصول هذه الرابطة السياسية وفق قواعد وسنن تحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتحكم هذه العلاقة بما يؤكد معاني الجامعية فيها، وإذا لم تتأكد العلمانية شرطا في هذا المقام فإن الدين لا يعد مناقضا للمواطنة عند الحديث عن تأسيس المجتمعات وتشكيل شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية.

نحن أمام علاقة شديدة التركيب لا نستطيع إلا ان نؤكد ان مفهوم المواطنة ظل اختراعا معرفيا مهما في شأن العلاقة في هذا السياق ونوع هذه المجالات بل وارتبط بها ارتباطا عضويا لا نستطيع الا ان نعتبره في هذا المقام مفهوما منظوميا وشبكيا في هذا السياق. هذا المفهوم اثار لغة تجميعية وجامعية من المهم ان نتوقف عنده وعليه. وهو أمر أثار ومن كل طريق مجموعة من التساؤلات يجب ان تقودنا الى حزمة ومنظومة من المعادلات.

في إطار التصنيف بين المجالات (الشخصي والخاص والعام والسياسي) من الضروري ضبط نسب العلاقات والتداخلات والتمايزات في إطار يسمح بإعمال ” علم الفروق ” وليس فقط ” علوم الاشباه والنظائر ” في إطار مقارن، فأي تلك المعايير التي يمكن ان نفيد منها في هذا المقام؟

هل الشكل الوحيد بين ” المدني ” و” الديني ” هي الحالة التناقضية ام من الممكن ان يضطلع المدني بما هو ديني وما هو ديني ان يضطلع بما هو مدني؟ تساؤل صارت تطرحه تطورات طرأت على الانشطة المؤسسية لحركات وتكوينات وأبنية؟

ماذا يمكن ان يتركه التطور الذي يطرأ على التفكير في ” السياسي ” من تأثيرات ليس فقط على كافة المجالات الاخرى والعلاقات فيما بينها، السياسي بدلالاته التي تتسع وتتمدد ربما صار أقرب الى دائرة الممارسات التي تتعلق بالعمران السياسي وحقائق المعاش اليومي وبنية السياسة التحتية ؟، تساؤلات صارت تفرض علينا ان نتعرض الى جملة من المعادلات تستبطنه في داخلها جملة من العلاقات؟ يجب ان تأخذ في اعتبارها تطورات لا يمكن إنكارها؟؟!! خاصة إذا ما تجمعت الخيوط بفعل جامعية المواطنة.

معادلات المجالات وحراك المواطنة:

معادلات المجالات وحراك المواطنة

وضمن رؤية هذه المعادلات المختلفة، نستطيع أن نقول أن المدني مثل مجالا ضمن تلك المجالات التي تتعلق بالمواطنة إلا أنه من بعد تعاظم مفهوم المدني زاحفا على دوائر مختلفة بمساعدة العولمي ونهج الحياة العلماني على حد سواء بحيث يروج لنموذج بعينه وجب التوقف على خبرته وتفحص مدلولاته والتعرف على مآلاته وتلك المعاني التي تتعلق بقدرات الملاءمة وكفاءة المفهوم أو الصفة في الفعل والتفعيل والفاعلية.

في هذا المقام نرى مفهوم المواطنة كمجموعة من البنيات المتكاملة والمتحاضنة، انظر الشكل التالي:

مفهوم المواطنة كمجموعة من البنيات المتكاملة والمتحاضنة

المواطنة: منظومة من البينات وعلاقات بين المجالات وتفاعلات بين البنيان والمجالات ((بنيات المواطنة وبيناتها))

أصول استطراق المواطنة في المجالات والعلاقات والبنيات ((بينات المواطنة))

1-انسداد الموصلات بين قنوات الاستطراق

2- اختلاف السوائل في الكثافة والضغط وعدم قابليتها للإمتزاج.

3- وعي القائم بالتجارب وإدراك العناصر المانعة من توفير الوسط المناسب لإجراء تجربة الاستطراق المواطنية في قنوات الوطن.

4- حالة السيولة المتناغمة كشرط تأسيسي لتحقيق الإمتزاج ومانعية الانفصال والتكلس الذي يصيب حالة المرونة في السوائل بحالة من التجمد والجمود.

المواطنة حال من التعاقدية تؤصل معاني التبادلية، وأصول ارتباط الحق بالواجب، وميزان التعاقد،

المواطنة قاعدة من قواعد منظومة الحكم الراشد التي تشكل إعمالا لقيمه ومقتضياته 23 ،وهى تدور مع العدل والظلم وليس الكفر والإيمان، وماأنفس ماأكده الإمام ابن تيمية في كلام دقيق في هذا الموضوع ( المثل الأعلى والتطبيق) ذكره في كتاب الحسبة في الا سلام قال فيه :

“وأهل الكتاب متفقون على الجزاء بعد الموت ولكن جزاء الدنيا متفق عليه من أهل الأرض، لا يتنازعون أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى (أن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة ) “24

وكلام ابن تيمية هذا في مستوى رفيع جداً في علم الاجتماع وفقهه وفهم الحضارة والثقافة والنهضة كما توضح أسس النجاح في الدنيا والآخرة معاً ولكل من المثل الأعلى والتطبيق شروط فمن حققها نجح، ومن لم يحققها أخفق (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) (النحل) ومن هنا يتبين لنا أن كل لحظة يبذل فيها الفرد-المواطن واجبه فإنه يسهم في بناء الحياة.

ثالث عشر: دوائر الانتماء ووحدات التحليل:

المواطنة ودوائر الانتماء المتحاضنة والمتفاعلة:

يحسن في هذا المقام أن نشير إلى أن البشري- الحكيم، جعل من المنهج معنى متسعًا يستغرق كل المعاني التي يؤديها الجذر اللغوي “نهج”، ومن أهم تعلقات ذلك أن يكون المنهج هو الطريق الموصل، ومن ثَمّ كان ارتباطه بالواقع والقصد معًا.

المنهج بهذا المعنى ليس مجرد عمل نظري أو تنظيري، ولكن المنهج تعبير عن رؤية كلية ووسائط بحثية وأدوات وأساليب، وهي في كل الأحوال توضح الطريق وكيفية سلوكه وبلوغ الغاية والهدف. ومن هنا كان من أهم معاني المنهج لدى المستشار البشري أن المنهج للواقع، ومن هنا كان حديثه عن وحدات الانتماء مدخلاً للحديث عن وحدات التحليل المنهجي في معظم دراساته وفي جل بحوثه.

فهو إن جعل من الأمة وحدة تحليله التأسيسية، ومن الجماعة الوطنية وحدة تحليله الواقعية، فإنما أراد أن يبحث عن معنى الأمة في الجماعة الوطنية، وهو عمل لا يفقد الأمة كوحدة تحليل مرجعية ولكنه في ذات الوقت لا يفقد الواق، ولا يتركه نهبًا لوحدات تحليل تضر بالظاهرة وإمكانات فهمها والتعامل معها وتقويمها.

وهو من أجل هذا يذكر أن علم السياسة وعلم الاجتماع لا يكتفي أحدهما بالنظر الذي يركز على وحدة الانتماء العامة أو وحدة الانتماء الاساسية التي تقوم عليها الدولة، ويتعلق بها نظام الحكم أو السلطات الثلاث، لا يكتفي بذلك لفهم أوضاع نظم الحكم وطبيعتها، وهو ينفتح على العديد من الهيئات والجماعات والتكوينات، ولا يرى المواطنين محض أفراد تجمعهم الأحزاب ومؤسسات الدولة فقط.

ذلك أن علوم السياسة والمجتمع لا تكتفي برسم الأطر وتحديد القنوات، إنما يتسع نظرها وبحثها ويصل إلى الجماعات الفرعية التي يتجمع فيها الأفراد، وكذلك إلى المؤسسات والأبنية التي تقوم على هذه الجماعات. إن أول الخطوات في طريق الخطأ تتمثل في نظرنا إلى المواطنين كأفراد، وفي عدم إدراكنا ما يجمعهم من الجماعات الفرعية ووحدات الانتماء الفرعية المتداخلة في المجتمع، وما تشخص به هذه الجماعات والوحدات من هيئات ومؤسسات.

إن المجتمع يتكون من وحدات انتماء لا حصر لها، وهي تتنوع من حيث معيار التصنيف: فيكون أساسها الدين أو المذهب أو الطريقة الصوفية أو الملة أو المشرب الثقافي أو الطائفية، أو يكون أساسها اللغة أو اللهجة، أو يكون أساسا نوع التعليم أو المهنة أو الحرفة، أو يكون أساسها وحدة العمل الوظيفي لجيش أو جامعة أو شركة كبرى أو وسط عمل معين، أو يكون أساسها الإقليم أو الحي أو القرية أو الحارة، أو يكون أساسها القبيلة أو العشيرة أو الأسرة، أو غير ذلك مما لا يقع تحت حصر من حيث العدد أو من حيث النوع أو من حيث معيار التصنيف. وبسبب تنوع معيار التصنيف فهي تعتبر وحدات انتماء جامعة ولمنها ليست بالضرورة وحدات مانعة، والفرد الذي ينتمي لإحداها قد يمتنع عليه الانتماء لغيرها من جنسها وبذات معيار التصنيف، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لغيرها وفقًا لمعيار آخر للتصنيف، فالمنتمي لأهل السُّنة يمتنع عليه الانتماء للشيعة لوحدة معيار التصنيف الفارق بين الوحدتين، ولكن لا يمتنع عليه الانتماء لأهل الطريق أو لقبيلة أو لإقليم أو غير ذلك لاختلاف معيار التصنيف، ومن هنا فالوحدات متداخلة ومتشابكة ودوائرها تشكل حلقات ليست منفصلبة، وبسبب تعدد هذه الوحدات، وتنوع معايير التصنيف لها فهي لا تقف على قدم المساواة في علاقاتها بعضها البعض، ولا تختلف اختلاف تعدد وتنوع فقط، إما أيضًا اختلاف عموم وخصوص، أو اختلاف أجناس وأنواع من كل جنس منها أو اختلاف أصل وفروع، وهكذا نرى بين وحدة الدين وحدة المذاهب الدينية، ووحدة السُّنة ووحدة مذاهبها، ووحدة الصوفية وأنواع الطرق، وهكذا نرى بين الوحدات الصلات الإقليمية أو الصلات المهنية أو روابط الدم وغير ذلك.

من هذه الوحدات تظهر في كل مرحلة تاريخية وحدة الانتماء العامة التي تعتبر الحلقة الكبرى والأساسية التي يتشكل المجتمع وفقًا لما تفيده، والتي تعتبر الحلقة الحاكمة لغيرها أو الوحدة الحاكمة لغيرها، وما بعدها يمكن الإشارة إليه بحسبانه وحدات الانتماء الفرعية. وتتبلور وحدة الانتماء العامة وفقًا لعاملين أساسيين:

الأوضاع التاريخية والاجتماعية ترشحها لأن تقوم بالوظيفة الأساسية، وأن تستجيب للتحديات الأساسية التي تواجه الجماعة بوحداتها كافة في مرحلة تاريخية معينة.

ومن الجلي أن وحدة الانتماء العامة يكون لها قدر من الثبات النسبي، ولكنها تقبل التأثر والتأثير من داخلها بواسطة الوحدات النوعية، ومن خارجها بواسطة الأوضاع العامة المحيطة. ومن الجلى أن كل مجتمع حي يتضمن صيغة ما من صيغ الوحدة مع التعدد، أي وحدة الانتماء العامة التي يكون لها الغلبة في المجتمع وفي وعي الناس في هذا المجتمع، وتستجيب لما يلاقي من تحديات، وتحقق الحد الأقصى من الصوالح، وترعى القاسم المشترك الأعظم منها بالنسبة للجماعات المختلفة في المجتمع، التي تتعدد بتعدد الجماعات وبتعدد معايير التصنيف القائمة في المجتمع؛ وهي بالضرورة متداخلة ومتشابكة، وهي تلتف حول الوحدة العامة بقدر إدراكها أن هذه الوحدة العامة تكفل لها الحد الأدنى من تحقيق الوجود ومن البقاء ومن المصالح المرجوة. وبكفالة هذا الحد الأدنى تقوم وعلاقات الدعم المتبادلة والتغذية المتبادلة بين العام والفرعي، فإذا لم ينكفل هذا الحد الأدنى قام نوع من الصراع ينحسم بالغلبة لصالح الوحدة العامة من أي من الوحدات الفرعية أو لصالح الوحدات الفرعية إذا تكاثرت واتحدت ضد ما يعتبر وحدة عامة في مرحلة معينة..

وأتصور أن حجم التحدي الذي يواجهه المجتمع ونوع هذا التحدي، إنما يؤثر في وجود الانتماء وفي غلبة وحدات بعضها على بعض في فترات تاريخية معينة، يحدث ذلك بالسلب أو بالإيجاب. وقد حدث في مثل بلادنا أن تناثرت أشلاء بسبب اقتسام القوى الغربية لها واحتلالها إياها وسقوط الخلافة كمشخص لواحدة الانتماء العامة بينها جميعًا.

وفي مثل هذه الأوضاع فإن القطر المجتزأ ينشئ من داخله ويهيئ من أشلائه التشكيلات التي يستطيع بها أن يسيطر على وضعه، إنه عضو حي، وحياته تكسبه هذه القدرة على التهيؤ والتشكيل، ومن ثم تنشأ له ذاتية خاصة على التعامل بمحيطه المضروب عليه كوحدة سياسية اجتماعية وكوحدة انتماء عام.

وهذه الوحدة المتخلقة تنشئ لذاتها الأهداف والرؤى والتصورات التي تستطيع أن تواجه أوضاع الحياة السياسية والاجتماعية.

وهي فيما تصنع تعيد ترتيب وحدات الانتماء الأخرى على أساس أن تلحق هذه الوحدات بها كوحدة حاكمة، وهذا ما جرى في مصر مثلاً منذ 1919 عندما علت الجامعة المصرية على غيرها وألحقت بها غيرها.

ومن جهة أخرى فإن الخطر الخارجي تحشد له قوى المواجهة وتنشيط معه وحدات الانتماء القادرة على مواجهته بحجم الشمول والعموم المطلوب، وفي الأزمات الداخلية مثلاً تحشد القوى القادرة على التصدي لهذه الأزمات بما هو خليق بمعالجة المخاطر الحادثة، وفي هذا الحشد تبدو بعض الوحدات بوصفها الخليقة بقيادة غيرها في ظروف الأزمات الراهنة لما تتصف به من عموم وشمول يتناسب حجمه مع خطورة المواجهة القائمة، كما اتحد المسلمون ضد الصليبين..

وكما يشير البشري فإنه يحاول توضيح الأهمية الاجتماعية والحضارية القصوى لوجود هذه الوحدات جميعًا، لأن وجود الوحدات الفرعية يغذي الوحدات العامة ويتغذى منها.

ونحن نخطئ إن تصورنا أن وجودها يشكل انتقاصًا من الوحدات الأعم، إن الإنسان مدني بطبعه، ولا يوجد فرد بغير جماعة. وإن وجوده بغير جماعة هو أقرب إلى التصورات الصورية الافتراضية.. إن الفرد دائمًا هو داخل في وحدة أو أكثر من هذه الوحدات الجمعية، والنظام يكتسب حيويته من قيام هذه الوحدات ونشاطها وتفاعلها.

إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه، كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، لو كانت المصرية ضعيفة لما استطاعت أن تقاوم الإنجليزية عندما انكسر الوعاء الإسلامي الأشمل، أي لما استطاعت أن تشكل وعاءً أخص يكون قادرًا على الحياة والمواجهة. ولو كانت الإسلامية والعروبة غائبتين لما استطعنا أن نستمد فيما نستهدفه الآن من مواجهات عالمية كبرى تثبت تجربتنا أننا نقدم مثالاً باقيًا من أمثلة الصمود والمقاومة على مدى عشرات السنين من التاريخ المعاصر، وأن ليونة التحول من وضع مواجهة إلى وضع آخر تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفاعليتها، وكل ما هو مطلوب ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتبيها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض، ويغذي بعضها البعض، ويدعم بعضها البعض.

الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة، ونحن نخطئ أيما خطأ –ولقد أخطأنا- عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصلا كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض.

إن القومية لا تضم أفرادًا، وإن الوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، وأن المصرية والعراقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا، إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها وبالمولدات الذاتية الخاصة بها.

ونحن نخطئ.. عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد لدينا عن مجتمعات الغرب عمومًا.

وفي إطار هذا الفقه من أستاذنا البشري لدوائر الانتماء كوحدات تحليل دراسية ضمن سياق ظواهرنا المختلفة التي نعيشها أكد على نقطتين:

الأولى: أن الكثير من مؤسسات وحدات الانتماء الفرعي قد دمرت، إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرنا، أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم لأننا نظرنا إليها من منظور التقلد للغرب. ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي. فرأينا في مؤسساتنا وحدات انتمائنا الفرعية لا كوتها موضوعًا للإصلاح والتجديد ولكنها عقبات في وجه الإصلاح والتجديد، فهدمنا “تجديدًا” ودمرنا “إصلاحًا”. ثم لما شيدنا على أنساق الغرب ما شيدنا لم نجد من هذه التكوينات الفرعية ما يمكن من الأعمال النافعة للمؤسسات الجديدة.

الثانية: أننا نظرنا في النظام الغربي المأخوذ عنه في صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلي العام، ولقد جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه، تحريره من ربقة القنانة وإطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات. فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى.

أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة وبالحزب، هكذا مباشرة، وهكذا ضربة لازب، دون اهتمام بالحلقات الوسيطة والوحدات المتداخلة المتشابكة في شتى المجالات.

ومتى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردا لزوال التكوينات الضاغطة، ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تشخص فيه بذاته منفردًا عما عداه.

التربية على المواطنة عبر تحديد هذا المفهوم كان هم الحكيم البشري واهتمامه، وهو مشروع يمكن أن تنبني قواعده وسننه فيما لو أرادنا أن نفعل حركة أنساقنا التربوية. التربية على المواطنة لدى البشري ليست مواطنة التربية المدنية التي تسعى تشكيل ما أسمي بـ”المواطن العالمى”، في محاولة فك ارتباطه بوطنه، المواطنة –لدى البشري- لا تتم إلا عبر الوطن، وهي صد العوادي والاستبداد، ومقاومة لكل صنوف العدوان من الخارج(25 ).

رابع عشر: المدخل الفقهي الجامع للجماعة السياسية:

من الأهمية بمكان القول بأن الفقه الإسلامي ظهر ونما في البيئة العربية، وظهرت مدارس في العراق والحجاز والشام ومصر وهو على هذا الأساس، الفقه المرشح لأن ينمو منه التشريع الحاكم للعرب. ومن المهم القول بأن السنهوري سبق القول بذلك الامر في مقالة له بعنوان ” القانون المدني العربي “. وهو الفقه التي درجت عليه الأقطار العربية وألفته مجتمعاتها قرونا، فصار من العناصر التي توفر التجميع العربي والاتصال التاريخي. ويذكر أستاذ القانون المدني د. شفيق شحاتة في سنة 1960 أن ” البلاد العربية في إبان حضارتها حكمها قانون ينبعث من صميم عقيدتها، يتمثل في الشريعة الإسلامية. والشريعة الإسلامية ظلت مطبقة تطبيقا شاملا لمختلف نواحي الحياة العربية، وذلك على مدى قرون طويلة. فإذا أردنا الآن الرجوع بالبلاد العربية إلى مقوماتها الأصيلة، تعين علينا الرجوع إلى هذا الينبوع لنغترف منه أنظمة تتسق وحاجات العصر”.

ثم إن المصادر القانونية لتشريعات البلاد العربية اليوم على قدر من التنوع يصعب معه إجراء التوحيد أو التفضيل، منها التشريعات الآخذة عن الفقه اللاتيني كمصر وسوريا ولبنان والتشريعات الآخذة عن الفقه الساكسوني كالسودان وبعض قوانين العراق، ومنها الآخذة عن الشريعة كالسعودية واليمن. ومنها ما مزج التشريع الإسلامي بالتشريعات الغربية كالقانون المدني العراقي.

ومن جهة أخرى، فالتشريع الإسلامي يصلح عنصرا جامعا بين العرب والأقليات غير العربية في الوطن العربي بجامع الإسلام لدى الأكراد والبربر مثلا26 .

“.. ورحم الله الشيخ عبد الوهاب خلاف الذي لاحظ ما معناه أن فقه المسلمين يدور في هذه المسألة مع المودة والصفاء فينفتح ويتسع، أو مع التعارض والبراء فينقبض ويضيق، لأنه فرع يرعى مصالح الجماعة ويدور معها في هذه الأمور..”. مع القابلية للتجدد والتنوع فإنه فإنه عند التفكير في إقرار تطبيق الشريعة يكون من حق الجميع ـ بموجب حقهم في المواطنة ـ أن تبسط أمامهم وجهات النظر الإسلامية، وأن يبين الفارق بين الأحكام القطعية الثابتة وبين الأراء والاجتهادات الفقهية التي يمكن أن يؤخذ منها ويترك، والتي يمكن أن تتعدل بمراعاة الزمان والمكان27 .

خامس عشر: المدخل المقاصدي وإعادة تعريف المواطنة:

الدين شبكة من المقاصد الكلية لحفظ أصوله وحفظ النفس والنسل والعقل والمال.

“يكون الدين إيمانًا بالله يعمر دنيا الناس، وعقيدة تخلق حضارة، وعبادة تربِّي مجتمعًا”. الدين: انطلاق للحياة والسلوك والتشريع، دون أن ينحصر في مجموعة من الكلمات والتقاليد والمظاهر الجامدة المتنافية التي تضمها الأوراق وتتناولها الشفاه..”.. دين الحياة، دين للواقع.

إن الصالح في ذاته، لا يمكن أن يحقق خلاصًا فرديًا، من دون الشروع في تحقيق الإصلاح الجماعي. إن صلاحه في إصلاحه، فيكون صالحًا في ذاته، مصلحًا لغيره ولجماعته ومجتمعه.

إن تحجيم الفاعليات الدينية أو تهميشها، تلوينها أو اختصارها، حرقها أو الاستيلاء عليها، هو قمة تحريك الدوائر من سلطان الدين إلى دين السلطان28 .

إذا كانت المقاصد الكلية العامة إنما تشكل كيانًا معرفيًا وبحثيًا ومنهجيًا، ومساحات للتعامل والتناول، فإن المقصد الديني (حفظ الدين) هو رأس المقاصد، والمقاصد الآخرى هي مقاصد مكونة لبنية “عمران الإنسان” أو بناء البشر من مقصد “حفظ النفس” و”النسل” و”العقل” و”المال”، وما تشير إليه تلك القواعد من “عمارة البيت الإنساني”، من أعمدة أربع تشكِّل ما يشد بنيانه، وما يقيم أسسه، ضمن عناصر ما يطلق عليه “التنمية البشرية” أو “التنمية الإنسانية” أو “العمران البشري” – علي حد تعبير ابن خلدون، أو “نوعية الحياة” علي حد تعبيرات تقارير التنمية الدولية.

مفهوم المواطنة وعشرية المقاصد العامة والكلية

هذه الرؤية المقاصدية الكلية للدين تجعل من هذه المساحات كلها، واقعة في فعل وتفعيل وفاعلية الدين: (دين متَّبَع، ونفس مكرَّمة، ونسل قوي فاعل ومؤثر، وعقل واعٍ ومدبِّر، ومال يشير إلى خصب الزمان وحركة العمران). هذه منظومة الرؤية المقاصدية الكلية العامة الشاملة للدين29 .

المواطنة من المنظور المقاصدي: فاعليات المواطنة من دون استبعاد الدين

المواطنة من المنظور المقاصدي

سادس عشر: المدخل السفني مواطنة السفينة وتأسيس شبكة العلاقات الاجتماعية: ميلاد مجتمع

في سياق العلاقة بين الفرد والمجتمع30 يمكن صياغة أشكال هذه العلاقة ضمن ذلك النموذج السفنى الذى يؤسس لعلاقات تحفظ على الفرد كيانه كما تحفظ للجماعة والجماعية مقامها وهى إذ تحدث التوازن المطلوب بين الفرد والجماعة في علاقات سوية إنما تشكل الجماعة الوطنية (القوم، السفينة، الوطن) عناصر غاية في الاهمية لتأسيس ذلك النموذج.

يعتبر مَثَلِ “السفينة” الذي تضمنه حديث السفينة للنبي (عليه الصلاة والسلام) منظومة معرفية وسلوكية متكاملة، ونص الحديث كالتالى:

“مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُواْ عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصاَبَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فيِ أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المْاَءِ مَرُّواْ عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا خَرْقًا فيِ نَصِيبِنَا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تًركُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْديِهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا” رواه البخاري.

الحديث إذن -بنصه ومشابهاته ومقايساته التي تشير إلى جملة من المعطيات والمفاهيم- يكون بحق منظومة رؤية متكاملة وشبكة من المواقف والأحكام والتقييمات لا يمكن التغاضى عنها أو التوقف عن استكناه إمكانات (التأصيل والتفعيل والتشغيل)؛ بلوغًا للمقصود البحثي، فضلاً عن بلوغ الغايات الاجتماعية والتربوية والحضارية.

سابع عشر: المدخل التربوي: العيش الواحد المشترك:

العيش الواحد في إطار يؤسس للاندراج في الجماعة الوطنية عبر المواطنة لتأصيل العيش الواحد والنسيج الاجتماعي الواحد عبر آلية الحوار لبلوغ هذا المقصد التأسيسي. في إطار يؤصل العيش المشترك والتعارف.

العيش المشترك ليس بعيدا عن أفكار مثل الفردية والجماعة، والفئة والطائفة، والاندماج والعزلة، وهو كذلك ليس بعيدا عن إمكانات تعظيم المشترك، وتنظيم المختلف، وتكامل التنوع، إذ يعد ذلك جميعه خروجا من الاختلاف الى جوهر الائتلاف31 .

ثامن عشر: أصول تأسيس الجماعة الوطنية

(بين المدخل الأقلوي وجامعية التعددية والمواطنة والوطن)

من الضروري التأكيد على جامعية المواطنة عبر الوطن، والتي تستدعي منا التعلم لأصول تأسيس الجماعة الوطنية، وقواعد الاندماج فيها، وتكثيف الفاعليات لهذه الجماعة ضمن قواعد وحدود ترتضيها هذه الجماعة تتعلمها من تاريخها وتتأكد من أعرافها وقواعد نظامها العام، وتحوط كل ذلك بعناصر بيئة ثقافية وتربوية تشكل بنى تأسيسية لعملية التسامح، ومثلما يؤكد الحكيم البشري (المستشار طارق البشري): إن كانت ثمة قاعدة يمكن استخلاصها من وقائع تاريخ مصر المعاصرـ من زاوية تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة في هذا الشكل فإن الجماعة الوطنية تتضام عناصرها وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع عن مخاطر الخارج عليها، والزود عن أراضها وثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية بعيدة المدى.

إن مخاطر الخارج عليها تعمل فيما تعمل على تفكيك هذا التماسك فنحن شعوب قامت جماعتها الوطنية وتماسكت في معارك الدفاع عن النفس وعن التراث الجماعي في مواجهة مخاطر الخارج، وأن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة الوطنية لهذا النفوذ الخارجي(32 ).

وفي هذا المقام يمكن التوقف عند عناصر أساسية يشير إليها ذلك القانون:

  1. تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة.
  2. تماسك الجماعة الوطنية في نهوضها للدفاع عن ذاتها في مواجهة مخاطر الخارج.
  3. أن هناك من القواعد العامة الحاكمة للجماعة الوطنية وقدرتها واستمرارها.
  4. أن الخارج قد يلعب دورا في تفكيك التماسك.
  5. أن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة والتماسك الوطني في مواجهة المخاطر والتحديات التي تحيق بالوطن.

في هذا المقام يمكن رؤية خيوط التماسك بين الأقباط والمسلمين. فمن المهم ألا يدفع المسلمون الأقباط لزاوية العزلة، ومن المهم ألا يمارس الأقباط مسار العزلة وعدم الاندماج، إنها المسئولية المشتركة للجماعة الوطنية بكليتها لأن عينها في ذلك على الوطن والمواطنة وهما جامع وجامعة مهمان يعصمان من كافة العناصر التي تهيئ لما يسمى بالفتنة الطائفية.

ومن الجدير بالذكر أنه لا يقاس غنى أي (مجتمع ـ تجمع ـ جماعة) بمقدار ما يملك من أشياء، بل بمقدار ما فيه من افكار فاعلة وإيجابية ومنتجة، وفاعلية الأفكار تخضع لشبكة العلاقات فلا يمكن تصور عمل متجانس من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية، وكلما كانت شبكة العلاقات أوثق كان العمل فعالا مؤثرا، والعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات أو التكوينات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك والتعايش صعبا أو مستحيلا، إذ يدور النقاش حينئذ لا لايجاد حلول للمشكلات بل لسجالات اقتتالية. في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح لتورم الذات وانتفاشها وحينئذ يكون حلها مستحيلا، لا لفقر في الأفكار أو في الأشياء ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجرى على طبيعتها.

أصول تأسيس الجماعة الوطنية

تاسع عشر: مدخل الولايات العامة والاجتهاد المؤسسي:

وضع غير المسلمين بالنسبة لأوضاع الولاية العامة:

يمكننا الحديث في هذا السياق بما آلت إليه أوضاع الولاية العامة في زماننا هذا 33. فكتب الفقه المتخصصة بالأحكام السلطانية عندما تكلمت عن الإمارة وعن الوزير إنما تكلمت عن فرد. ولذلك كانت تضع شروطا لتولي الولاية على اعتبار أن من يمارس هذه الولاية هو فرد. من الواضح أن في زماننا استبدلنا بولاية الفرد ولاية الهيئة وصارت الهيئات هي التي تقوم مقام الأفراد في إنفاذ الولاية.. وطالما أن الهيئة هي التي تملك الولاية فإن من الممكن أن يشارك فيها آخرون من غير المسلمين مع توافر ضوابط ثلاثة هي:

أولا: أن تكون الهيئة مسلمة وهذا يعني أن تكون مرجعيتها هي الشريعة الإسلامية.

ثانيا: أن تكون غالبية أعضاء الهيئة مسلمين.

ثالثا: أن تحقق الصالح الإسلامي العام ـ أي صالح الجماعة الوطنية ـ وفقا للضوابط المحددة لكلمة المصلحة عند الأصوليين.

عشرون: المدخل الشعائرى: علم اجتماع وسياسة الفتوى: مسألة بناء الكنائس:

يعتبر هذا المدخل مختبرا مهما لمفهوم المواطنة الذي أردنا أن نؤكد عليه في سياق التعامل في بناء الكنائس، ذلك أن هذه من القضايا المحورية التي اختلف فيها وعليها، وتحتاج منا تحديد المداخل التي تتعلق بضرورات الجماعة الوطنية والتي تجعل من أصول وضرورات العيش المشترك الواحد وكذلك الحاجات العبادية لكل صاحب دين والأصول التعاقدية للمواطنة وتضمين كافة العقود روحا وحكما، القديم منها والمستحدث في إطار عقد المواطنة المكين الأمين، ورؤية هذا الموقف بتفريعاته ضمن ضبط العلاقة بمؤسسات الكنيسة والمؤسسات الدينية بوجه عام بالدولة في هذا المقام، وتعد الحالة المصرية في هذا المقام معملا تجريبيا غاية في الأهمية 34 وهو ما يحدوا بنا أن نؤشر على تلك المداخل من خلال الفتوى التي أصدرتها دار الفتوى في شأن بناء الكنائس وهي فتوى مهمة وكذلك الذاكرة الفقهية المتعلقة بذلك خاصة تلك المنسوبة للإمام الليث بن سعد الفقيه الإسلامي في مصر يمكن تضمينها والبحث فيها وتحليل نصوصها (35 ).

خاتمة: عود على بدء: المواطنة في دولة مسلمة

في إطار يتعلق بمستقبل فكرة المواطنة في دولة مسلمة، وفي سياق عملية التفعيل والتشغيل فإنه من الواجب أن نؤكد ان بعض المداخل التي تعرضنا إليها إنما تشكل مفاصل مهمة في بناء رؤية المواطنة والإمكانات التي تتعلق بعالم تفعيلها وفاعليتها، إلا أن استكمال هذه الرؤية يتطلب التعرض لأكثر من مدخل يمكن مع تكافله مع تلك المداخل أن يؤسس لرؤية تتعامل مع الواقع المعاصر ومعطياته بما يحقق الوعي والسعي اللازمين للتعامل مع إشكالات المواطنة والتحديات التي تفرضها في المجتمعات المسلمة المعاصرة.

وفي هذا المقام فإن مداخل مثل اللغة، وكذلك الفطرة الإنسانية في الحنين إلى الأوطان، والقضايا التي تتعلق بالمرجعية، والشريعة، والشرعية، في ارتباطها بالمواطنة، إنما تشكل مقدمات مهمة يجب أن نؤكد على تكاملها مع بعضها في إطار من الجامعية والفاعلية، يمكن أن تؤصل لهذه الرؤية الاستراتيجية للمواطنة ونظن أن ذلك يستأهل مشروعا بحثيا متكاملا تتكامل فيه التخصصات المختلفة من القانون والسياسة والإدارة والاجتماع وعلوم النفس والتربية وكذلك الفلسفة، وعلوم التنظيم والتنمية المستدامة بمفهومها الشامل، إنما تشكل رؤية واضحة للإجابة على الإشكالات والتحديات التي تتعلق بموضوع المواطنة فضلا عن اقتراح آليات للتفعيل والتشغيل في هذا المقام، هذه الرؤية الاستراتيجية الشاملة إنما تمثل واحد من أهم واجبات الوقت في هذه الآونة بما تستدعيه وينضاف إلى مسار المواطنة من إشكالات أضافتها الثورات العربية والتي فجرت تحديات جديدة بصدد المواطنة، بل ومفهوم السياسة ذاته وكافة العمليات السياسية36 .

——————-

الهامش

 (1 ) ـ سيف عبد الفتاح، عواقب الدولة القومية، في حولية أمتي والعالم، تحرير وإشراف: د. نادية مصطفى، سيف عبد الفتاح، القاهرة(2 ) ـ سيف عبد الفتاح، هندسة الاجتهاد المقاصدي،

(3 ) ـ سامر مؤيد عبد اللطيف، المعالجة الإسلامية لإشكاليات المواطنة: رؤية تحليلية معاصرة، العراق : جامعة كربلاء، كلية القانون،2009.

(4 ) ـ نزيه نصيف الأيوبي، كتابَه “العرب ومشكلة الدولة”، نشرته دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 1992، سلسلة بحوث اجتماعية (10)

(5 ) ـ سيف الدين عبد الفتاح، “مقدمات أساسية حول عملية بناء المفاهيم”، فى د. على جمعة، د. سيف الدين عبد الفتاح (إشراف)، بناء المفاهيم دراسة معرفية ونماذج تطبيقية، الجزء الأول، المعهد العالمى للفكر الإسلامى، الطبعة الأولى 1998، ص 27 وما بعدها.

(6 ) ـسيف عبد الفتاح، هندسة الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق.

(7 ) ـ سيف عبد الفتاح، المدخل المقاصدي واعتبارات السياق،

(8 ) ـ قرب إلى هذا ورقة إطارية للشيخ عبد الله بن بيه، ورقة استرشادية أُرسلت للمؤتمرين.

( 9) ـ سيف الدين عبد الفتاح، تجديد الخطاب الديني من الحملة الفرنسية الى الحملة الأمريكية،

(10 ) ـ طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانية، 2005، ص 140 .

( 11) ـ طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانية، 1988، ص5 .

( 12 ) ـ عماد طارق عبد الفتاح البشري، فكرة النظام العام في التشريع الإسلامي النظرية والتطبيق “دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية “، رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القانون، كلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، 2002، ص1، 5 ـ يضا، أانظر وقارن في تقريب فكرة النظام العام في الشريعة الإسلامية للفكرة المبثوثة حول النظام العام في القانون الوضعي ص260، وما بعدها (الخصائص العامة للتشريع الإسلامي ـ أسس المرجعية العامة والكلية ـ المقاصد الكلية العامة) .

( 13 ) ـ د. محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الثانيةة، 2006،  ص237 ـ 239 .

( 14 ) سماحة آية الله الشيخ مهدي شمس الدين، في االاجتماع السياسي الاسلامي، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1999، ص 264 ـ 265

( 15 ) ـ المرجع السابق، ص 266.

( 16 ) ـ أحمد قائد الشعيبى، وثيقة المدينة المضمون والدلالة، كتاب الأمة، قطر: وزارة الأوقاف، عدد110، 2006.

( 17 ) ـ  سامر مؤيد،المعالجة الإسلامية لإشكالات المواطنة، مرجع سابق

( 18 ) ـ  علا أبوزيد، وهبة رؤوف (تحرير)، المواطنة المصرية ومستقبل الديمقراطية، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2005، وكذلك انظر هبة رؤوف عزت،

( 19 ) سيف عبد الفتاح، الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، القاهرة: مكتية الشروق الدولية، 2005، ص 92، وما بعدها.

( 20 ) سيف عبد الفتاح، الفرد والعقيدة والدولة

( 21 )   مرجع سابق، المعالجة الإسلامية للمواطنة

( 22 ) الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات
23 سيف عبد الفتاح، الحكم الراشد

24 ابن تيمية، الحسبة فى الإسلام

25 سيف عبد الفتاح، في إبراهيم البيومى غانم (محرر)، طارق البشرى: القاضى المفكر، الكلمات والبحوث التي ألقيت في الندوة العلمية الأهلية للاحتفاء بالمستشار طارق البشرى بمناسبة انتهاء ولايته القضائية بمجلس الدولة المصرى، القاهرة: دار الشروق، 1999

26 ـ طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة ..الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996، ص 38 .

27 ـ ـ طارق البشري، الوضع القانوني بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الاولى، 1996، 112.

28 ـ سيف عبد الفتاح، الزحف غير المقدس: تأميم الدولة للدين، مرجع سابق، ص 102.

29 ـ سيف الدين عبد الفتاح، نحو واقع سديد،

30 ـ مالك بن نبي،  ميلاد مجتمع ( شبكة العلاقات الاجتماعية)، ترجمة: عبد الصبور شاهين، القاهرة: مطبعة دار الجهاد، 1962م.

31 ـ سيف عبد الفتاح، التربية المدنية،

32 ـ طارق البشري، في المسألة الإسلامية المعاصرة ..الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة : دار الشروق، الطبعة الأولى، 1996، ص 38 .

33 ـ طارق البشري، الجماعة الوطنية :العزلة والاندماج، القاهرة : دار الهلال، 2005 652، ص ص 284 ـ 285 .

34 ـ  سيف الدبن عبد الفتاح، فتاوى الأمة وأصول الفقه الحضاري،  الأزمة ومقدمات الحل،

35 ـ يمكن أن نعكف على هذا الموضوع وتتبع ذاكرته الفقهية والتراثية والحضارية.

36 الآراء الواردة تعبر عن كتابها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المعهد المصري للدراسات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close