fbpx
ترجماتمجتمع

واشنطن بوست: الدمار المفجع لحدائق القاهرة الشهيرة

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية في الأول من أغسطس 2023 مقالاً لياسمين الرشيدي، الكاتبة والروائية والصحفية المصرية، والزميلة السابقة في مركز دوروثي وليويس بي كولمان للكتاب والعلماء بمكتبة نيويورك العامة (2015-2016)، ومؤلفة رواية: “معركة من أجل مصر” (2011)، ورواية: “حدث ذات صيف في القاهرة” (2016)، حيث جاء المقال تحت عنوان: “شاهدوا الدمار المفجع الذي حلّ بحدائق القاهرة الشهيرة”، تناولت فيه التدمير الممنهج لحدائق القاهرة الشهيرة ووضعها تحت سيطرة الجيش “وفي كثير من الحالات، كان يتم بيعها بالمزاد للتطوير التجاري”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

تعتبر القاهرة، التي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة، واحدة من أكثر المدن كثافة سكانية على كوكب الأرض. إذ تتراكم المباني جنباً إلى جنب وتقريباً فوق بعضها البعض، حيث تبتلع المباني خط الأفق بالمدينة، التي تكتنفها الرمال المتساقطة من الصحاري المحيطة. وتوفر الحدائق العامة واحة خضراء في هذا الامتداد الجاف – حيث يستطيع للشباب التنزّه أو المشي أو الاستمتاع بالراحة فيها من الحياة المنزلية الضيقة. وفيها يجد العشّاق أيضاً الملجأ والخصوصية. وتُعد الحدائق بالنسبة للكثيرين، كباراً وصغاراً، هي المكان الوحيد للاستمتاع بالطبيعة والاسترخاء والتمدد والتنفس بعمق، بعيداً عن تلوث المدينة المدمّر للرئة. وتعتبر الحدائق أيضاً أماكن للمحادثة والنقاش في بلد قد يتم اعتبار مثل هذه الأعمال على أنها مثيرة للفتنة.

ومع كل ذلك، فإن حدائق القاهرة آخذة في الاختفاء. لقد شاهدتها واحدة تلو الأخرى وهي تتحول من مساحات خضراء مورِقة إلى مواقع بناء مدفونة في الخرسانة والفولاذ. وعلى طول الشارع الذي نشأت فيه، تم تجريف مساحة على امتداد كيلومتر واحد من ضفاف النيل الخضراء وفيها أشجار يبلغ عمرها 100 عام لإفساح المجال لإنشاء مركز تجاري يضم العشرات من المقاهي على الطراز الأمريكي. وعبر النهر، أصبحت الحدائق، حيث كنت أجمع الزهور للضغط عليها في طفولتي، سلسلة من مجمّعات البيع بالتجزئة متعددة المستويات جنباً إلى جنب مع محطة وقود تعلوها أضواء نيون وامضة.

لقد أصبح تعبيد الحدائق العامة والمتنزهات ومسحها بالأرض لإفساح المجال أمام إنشاء الجسور والطرق والمقاهي ومحطات الوقود سياسة الأمر الواقع في ظل حكومة الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي قاد انقلاباً عسكرياً أطاح فيه بسلفه (محمد مرسي) في عام 2013. وأصبح شعار نظامه الذي غالباً ما يوصف بأنه “جيش له دولة” (وليس دولة لها جيش) – أصبح شعار هذا النظام: “قم أنت بالبناء وسيأتي المال”. فالقوات المسلحة التي كانت مهمتها يوماً ما حماية حدود البلاد تضع يدها الثقيلة الآن على كل جانب من جوانب إدارة البلاد، بما في ذلك تراثها من المباني والأماكن الطبيعية. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تم نقل مئات الآلاف من الكيلومترات من الأراضي إلى ملكية الجيش، بما في ذلك المواقع التاريخية والحدائق العامة والمتنزهات، إلى جانب ضفاف النيل. والأساس المنطقي العام المعلن من وراء ذلك هو “التنمية” وتعظيم استخدام الأراضي لتحقيق مكاسب اقتصادية. فقد قال السيسي يوماً: “الفلوس، الفلوس، الفلوس”، “أهم حاجة في الدنيا”.

وحتى مع إعلان الحكومة عن “أجندة خضراء” في الأشهر التي سبقت استضافة البلاد لمؤتمر الأمم المتحدة للمناخ العام الماضي، فقد استمرت في إعادة تنظيم المتنزهات العامة والحدائق من أجل التنمية التجارية. وفي حي مصر الجديدة (هليوبوليس) شرقي القاهرة، حيث يعيش ملايين المصريين، يصف لي الأصدقاء حيَّهم الذي كان مليئاً بالأشجار بأنه أصبح متاهة من الجسور والطرق السريعة مع سلسلة المقاهي تحتها. وتقدّر جمعية حماية التراث المحلية أنه في الفترة من 2017 إلى 2020، تم فقد ما يقرب من 272,000 متر مربع – أي ما يقرب من 3 ملايين قدم مربع – من المساحات الخضراء في مصر الجديدة، واختفى المزيد منذ ذلك الحين. وقال لي أحد السكان القدامى للحي: “يبدو الأمر وكأنه تعدّي على حقنا في التنفس”.

في الحقيقة، هليوبوليس ليست وحدها في ذلك. حيث يتم هدم المباني التراثية، كما يتم تدمير الأحياء التاريخية والمقابر القديمة – بما في ذلك مدينة الموتى التي يبلغ عمرها 1400 عام، مما أدى إلى نزوح آلاف العائلات التي عاشت هناك لأجيال. وتختفي من الوجود أضرحة بارزة أيضاً، وأفدنة من الحدائق. لقد تم استبدال أكثر مشاهد الازدهار الساحرة في هذه المدينة القديمة بعلامات “ماصخة” للرأسمالية المعاصرة، بما في ذلك ما يحدث بالقرب من هضبة الجيزة التي لم تكن قد لمستها يد من قبل – حيث يتم الآن بناء العديد من منافذ البيع بالتجزئة ومحلات الطعام. ويدير الجيش معظم هذه المشاريع، ويتم توزيع العقود المربحة على رُعاته وأصدقائه. وعلى الرغم من أننا عرفنا منذ فترة طويلة أن هذه الحكومة تفضّل إنشاء المشاريع العملاقة على الناس، فإن تاريخنا الآن عُرضة للاستيلاء عليه أيضاً بنفس الطريقة.

خلال ذروة حكم الخديوي إسماعيل باشا، في القرن التاسع عشر، أصبحت القاهرة أكثر خضرة – ضمن العديد من الجهود التي كانت تُبذل لتصميم المدينة على غرار العواصم الأوروبية الكبيرة. فزُرعت حدائق واسعة حول القصور واصطفّت الأشجار على جانبي الطرقات. ومن أشهرها حديقة الأورمان الشبيهة بالغابات والمفروشة بحديقة ورود وبركة لوتس. (كان قد صممها مصممو المناظر الطبيعية الفرنسيون على طراز بوا دي بولوني في باريس). وفي مكان قريب، حيث حديقة حيوان الجيزة التي تبلغ مساحتها 52 فداناً ، ضمّت الحديقة نباتات مستوردة من الهند وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. وتابع إسماعيل ما بدأه جده محمد علي باشا: فقام بزرع ضفاف النيل بالنباتات والأشجار الكثيفة، بما في ذلك شجرة الكينا (الكافور) المهيبة التي اشتهرت بها القاهرة.

ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تمت حماية هذه الحدائق بموجب قوانين التراث، لكن الحكومة الحالية إزالتها تماماً بشكل ممنهج ووضعتها تحت سيطرة الجيش. وفي كثير من الحالات، تم بيعها بالمزاد لأغراض التطوير التجاري. وفي شهر يوليو، وعلى الرغم من شهور من الاحتجاج من دعاة حماية البيئة والسياسيين المحليين ونشطاء المجتمع المدني، أغلقت حديقة حيوان الجيزة أبوابها لإجراء إصلاح شامل، وكان الهدف المعلن هو: جعل المؤسسة “ذات مستوى عالمي”. ولا يزال مصير الحيوانات بالحديقة غير مؤكد، ويتوقع دعاة حماية البيئة تدمير مستودعات حديقة الحيوان الواسعة والتي تضم العديد من أنواع النباتات النادرة والقديمة. ومن المقرر أن تتبع حديقة الأورمان حديقة الحيوان في ذلك. وفي نفس الوقت، تم إزالة معظم حدائق المدينة التي كانت تمتد على جانبي الطريق، بل والطرق التي كانت الأشجار تصطف على جانبيها.

في الوقت الذي كان حكام مصر في القرن التاسع عشر يحلمون بحدائق كحدائق باريس، فإن زعيم اليوم يطمع في الوصول إلى أفق دبي. فكل اهتمام السيسي وحلمه هو عاصمة جديدة في وسط الصحراء، والتي بنيت بتكلفة تقدر بـ 59 مليار دولار حتى الآن، ومن المقرر أن يتم التباهي بهذه المدينة التي تضم الأكبر والأفضل من كل شيء – أطول ناطحة سحاب في العالم، وأكبر منبر مسجد، وأكبر نجفة (ثريا) وأطول خط مونوريل. ومن المفارقات، أن مئات الأفدنة من المساحات الخضراء قد تمت زراعتها هناك في جميع الأنحاء، مع خطط لإنشاء “حديقة كبيرة” مستوحاة من فرنسا و غابة عائمة ونهر اصطناعي. ويشير علماء المدن إلى أن المساحات الخضراء قد تمت زراعتها دون مراعاة المناخ الصحراوي القاسي في مصر، وبالتالي تتطلب كميات هائلة من المياه. وينطبق تجاهل مماثل لدراسات الجدوى على مساحات البيع بالتجزئة، والتي تواجه الحكومة مشكلة في ملئها. ويبقى السؤال لمن كل هذا – في بلد يعيش ربع سكانه في أحياء فقيرة في المدن. بينما “الإسكان الميسور” في العاصمة الجديدة لا يزال باهظ الثمن إلا بالنسبة للطبقة الوسطى الآخذة أصلاً في الانكماش.

وسط كل هذا الإنفاق على البنية التحتية، تواجه مصر أكبر أزمة ديون خارجية في تاريخها الحديث. وارتفعت أسعار المواد الغذائية (وازداد نقصها) هذا العام حيث بلغ التضخم 40%. وحذّر صندوق النقد الدولي الحكومة مراراً بضرورة تقليص الإنفاق العام. ومع ذلك، تستمر حملة تحديث السيسي تلك بسرعة فائقة. وفي حديث له تم بثه على التلفزيون الرسمي للبلاد، تفاخر السيسي بأنه بنى ما يقرب من 1000 جسر جديد و 7500 كيلومتر (حوالي 4700 ميل) من الطرق منذ توليه منصبه. ومع ذلك، فإن تلك الأرقام لا تروي القصة كاملة. فقد تم تصميم أحد تلك الطرق السريعة الجديدة التي تبلغ تكلفتها مليار دولار على طول الساحل الشمالي للبلاد على عجل مع وجود دورانات مرتفعة محفوفة بالمخاطر، مما تسبب في وقوع سلسلة من الحوادث المميتة.

ليس بمقدور أحد أن ينكر أن البنية التحتية العامة لمصر آخذة في التدهور منذ عقود. وأولئك منا الذين يحشدون الرأي العام لحماية تراث بلدنا يدركون تماماً أن الطرق السيئة التي لم تعد قادرة على خدمة هذا العدد الضخم من السكان. لكن من المعروف أيضاً أن توسيع الطرق لا يحد من الازدحام، ولن تجلب السياح عندما يتم بناؤها على حساب تاريخ مصر.

لقد اعتدت أن أقوم بجولات بشكل منتظم لتوثيق التغيرات الحضرية – الأشجار وهي تُقطع، والحدائق وهي تُدمّر، والمواقع التاريخية وهي تُجرَّف – لكني لا أكاد أتحمل أو أحمل نفسي على النظر إلى ذلك بعد الآن. فالصينية (الدوّار) الخضراء الشهيرة والنافورة حيث اعتاد الناس على التنزه فيها، حلّت محلها الآن مسلّة صمّاء يحرسها الأمن على مدار الساعة. ولم يتم إنقاذ الأشجار الضخمة ذات الأزهار الوردية التي كانت تظللنا خلال ثورة 2011: حيث تم قطع آخرها في وقت سابق من هذا العام، تاركين منها جذعاً وحيداً لتذكيرنا بما كان فيما مضى من الزمان.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close