أزمة الأسمدة الزراعية في مصر: بين إفقار الفلاحين وسياسات المواجهة
تمهيد
في 18 نوفمبر 2021، قرر مجلس الوزراء المصري زيادة سعر الأسمدة الآزوتية من 3,290 إلى 4,500 جنيه للطن، بنسبة زيادة حوالي 37%، ما يعني رفع سعر العبوة زنة 50 كيلو غرام من 165 جنيه إلى 225 جنيهاً. الزيادة التي تقررت كبيرة وستقلل بلا شك من إنتاجية ونوعية الإنتاج الزراعي وما يتبعه من تأثير على الناتج القومي للدولة، وستزيد من أعباء المزارعين الفقراء وتقلل أرباحهم وقد تكبدهم الخسائر في غياب من يتحدث بلسانهم ويرفع شكواهم ويطالب بحقوقهم.
توقيت صدور القرار بعد أسبوع واحد فقط من الزيادة المتواضعة في سعر شراء القمح من الفلاحين يوحي بأن الحكومة رفعت سعر أردب القمح 95 جنيه لدعم وتشجيع المزارعين، ثم رفعت سعر الأسمدة 1,200 جنيه للطن لإبطال مفعول قرار التشجيع، وما تعطيه باليمين تأخذه باليمين وبالشمال. فضلا عن أن المادة 29 من الدستور المصري تلزم الحكومة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى وحماية الفلاح من الاستغلال، ما يعني أن زيادة أسعار الأسمدة يقتل روح الدستور ويقلل الإنتاجية الزراعية ويلتهم دخول الفلاحين.
يوجد في مصر 8 مصانع للأسمدة تنتج 22.5 مليون طن 15% آزوت تمثل 8% من الإنتاج العالمي من الأسمدة، بينما يصل الفائض في الإنتاج إلى حوالي 12.5 مليون طن، مقابل 10 ملايين طن يتم توجيهها لاحتياجات الاستهلاك المحلي، أي أن 60% من الإنتاج يتم استهلاكه محلياً ويتم تصدير 40%. تمثل تكلفة الأسمدة الكيماوية من 12- 15% من تكلفة إنتاج المحصول. استخدام الأسمدة بالمعدلات المقررة لكل محصول ترفع الإنتاجية الزراعية بمعدل 35%.
حاجة الأراضي الزراعية المصرية إلى الأسمدة الكيماوية أكبر من غيرها من الأراضي في العالم، نظرا لحرمان التربة المصرية من طمى النيل بعد إنشاء السد العالي وتأثيره على تراجع خصوبة الأرض، وبعد إلغاء الدورة الزراعية وتأثيره المباشر في إجهاد الأرض وحرمانها من التجديد الذاتي لخصوبتها.
أولاً: أسباب الأزمة
ترجع أزمة الأسمدة المتكررة لعدة أسباب، من بينها:
(1) رفع الحكومة أسعار الغاز المورد لشركات إنتاج الأسمدة، والذي يشكل 65% من تكلفة إنتاج الأسمدة الآزوتية، فتقوم بدورها بتحميله على سعر السماد الذي يتحمله الفلاحون في نهاية المطاف. في السابق كان سعر الغاز المورد للشركات 4.5 مليون طن للمليون وحدة حرارية، تم زيادته مع الزيادة الأخيرة إلى 5.5 دولار، أما السعر العالمي فيتراوح بين 1.7 إلى 3.5 دولار للمليون وحدة حرارية. ويوجد شكاوى متكررة من رجال الصناعة بسبب زيادة سعر الغاز الطبيعي في مصر عن السعر العالمي. وفي الغالب تبيع الحكومة الغاز الطبيعي للشركات بضعف السعر العالمي.
(2) تفضيل الشركات تصدير الإنتاج عن البيع في السوق المحلي عندما تزيد أسعار الأسمدة في السوق الدولية، للإستفادة من العملة الخضراء اللازمة لشراء قطع غيار خطوط الإنتاج، والإستفادة من فروق الأسعار لتحقيق مصلحة المستثمرين الذين اشتروا نسبة من أسهم شركات القطاع العام بعد الخصخصة.
(3) عدم التزام الشركات بتوريد الحصة المتفق عليها مع الحكومة، والتي تمثل 55% من الإنتاج، لتوزيعها على الفلاحين من خلال الجمعيات التعاونية وبنك التنمية والإئتمان الزراعي، الذي تحول في عهد السيسي إلى البنك الزراعي المصري. نسبة ال55% كافية لتغطية الاحتياجات المحلية. ولكن الشركات تفضل البيع في السوق الحر. وفي معظم المواسم الزراعية لا تُسلم الشركات سوى نصف حصة الأسمدة المقررة بالسعر “المدعم”، وإن كان الدعم منه براء، لإجبار الفاحين على شراء باقي الإحتياجات من السوق السوداء بضعف السعر الرسمي. وفي كل الأحوال تكون الأسعار في السوق المحلي أعلى من السعر العالمي. والاحتكام للسعر العالمي لا يحلو إلا عندما يكون أعلى من السعر في السوق المحلي.
(4) تهالك وتقادم شركات القطاع العام وإهمال تطويرها ما يؤدي إلى زيادة تكلفة الإنتاج، لاستهلاك كميات اضافية من الغاز. بالإضافة إلى فرض ضريبة دمغة ونولون نقل الأسمدة وكارتة بقيمة كبيرة للجيش ويتحمل الفلاح كل التكاليف.
(5) كثافة الإنتاج الزراعي في مصر بتكرار زراعة الأرض مرتين إلى ثلاثة خلال السنة الواحد، وهو ما يندر حدوثه في معظم دول العالم التي لا تزرع الأرض أكثر من مرة في العام الواحد، ولا تصرف الدولة الأسمدة للمحصول الثالث.
(6) الفساد في منظومة التوزيع بتسريب نسبة من الحصة المخصصة للجمعيات التعاونية والبنك إلى السوق السوداء وبعض تجار القطاع الخاص.
(7) أن وزارة الزراعة تُسلم حصة الأسمدة لمالك الأرض، وليس للمستأجر الذي يزرعها بالفعل، وفي كثير من الحالات يبيع مالك الأرض الحصة بالسعر الحر ويضطر المستأجر إلى الشراء من السوق السوداء مرة أخرى.
ثانياً: زيادات متكررة
الزيادة الأخيرة في أسعار الأسمدة هي الخامسة منذ يونيو 2014، ورغم اختلاف أسباب الزيادة في كل مرة، لكن المحصلة هي زيادة الأسعار بنسب مبالغ فيها. الأولى في 13 أكتوبر سنة 2014، حيث رفع مجلس الوزراء الأسعار من 1400 جنيه للطن إلى 2000 جنيه، بزيادة قدرها 600 جنيه في الطن. وهي المرة الأولى التي تزيد فيها أسعار الأسمدة الزراعية في مصر بنسبة تقارب 43%، دفعة واحدة. وقالت وزارة الزراعة أن السبب في زيادة الأسعار هو لتوفير الأسمدة والقضاء على السوق السوداء حيث وصل سعر الطن فعليا إلى 3500 جنيه.
الزيادة الثانية كانت في 15 يناير سنة 2017، حيث رفع مجلس الوزراء أسعار الأسمدة للمرة الثانية من 2000 جنيه إلى 2959 جنيهاً للطن، بزيادة قدرها 959 جنيه في الطن، وبنسبة قدرها 50% تقريبا، مع فرض ضريبة مبيعات جديدة 5%. وقالت الحكومة أن السبب في زيادة الأسعار هو تغير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار إلى 16.3 جنيه.
الزيادة الثالثة كانت في الاول من شهر أكتوبر سنة 2017، حيث رفع مجلس الوزراء الأسعار من 2959 جنيه للطن إلى 3,200 جنيه، بزيادة قدرها 241 جنيه في الطن، وبنسبة قدرها 8.1%. وقالت وزارة الزراعة أن السبب في زيادة الأسعار هو زيادة تكلفة الغاز الطبيعي والأيدي العاملة. رغم أن تكلفة الغاز في هذا التوقيت كانت أقل من النصف في سنة 2013.
الزيادة الرابعة في شهر يوليو سنة 2018، حيث رفع مجلس الوزراء الأسعار من 3200 جنيه للطن إلى 3,290 جنيه، بزيادة قدرها 90 جنيه في الطن، وبنسبة قدرها 2.8%. وقالت وزارة الزراعة أن السبب في زيادة الأسعار هو تغير سعر صرف الدولار من 16.5 جنيه إلى 17.6 جنيه. وكانت الحكومة تبيع الغاز الطبيعي للشركات بسعر 4.5 دولار للمليون وحدة حرارية، رغم أن سعره في السوق الدولية كان في حدود 2.9 دولار للمليون وحدة حرارية.
الزيادة الخامسة في شهر نوفمبر سنة 2021، حيث رفع مجلس الوزراء الأسعار من 3,290 جنيه للطن إلى 4,500 جنيه، بزيادة قدرها 1210 جنيه في الطن، وبنسبة قدرها 36.8%. وقال وزير الزراعة، السيد القصير، أن السبب في زيادة أسعار الأسمدة المدعمة في مصر هو الزيادة العالمية في أسعار الغاز والمستلزمات الزراعية، وأن مصر ليست في معزل عن العالم لذلك لابد من مواكبة الأسعار العالمية حتى لا يكون هناك فجوة بين السوق المحلي والعالمي، حيث وصل السعر العالمي للأسمدة إلى 14,000 جنيه للطن، بالإضافة إلى أعباء التصنيع وارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وأن الخسائر وإفلاس مصانع الأسمدة لأنهم مستثمرين أمر غير هين.
وهي ادعاءات غير حقيقية وتبني لمصلحة أصحاب الشركات على حساب الفلاحين الذين يفترض أن يدافع عن مصالحهم، لدرجة أنه قال أن ارتفاع سعر طن الأسمدة لـ 4.5 آلاف جنيه في صالح الفلاحين!
ثالثاً: التربح على حساب الفلاحين
بعد الزيادة الأخيرة تكون الحكومة قد رفعت أسعار الأسمدة من 1400 جنيه للطن في سنة 2013، إلى 4500 جنيه للطن في 2021، بزيادة قدرها 3100 جنيه للطن، وبنسبة 220%. في المقابل، لم ترفع الحكومة أسعار المحاصيل الغذائية التي تشتريها من الفلاحين بنفس النسبة. على سبيل المثال، رفعت أسعار القمح، من 420 جنيه في سنة 2013، إلى 820 جنيه في 2021، بنسبة 95%. ولو زاد سعر القمح بنفس نسبة الزيادة في سعر الأسمدة لوصل السعر إلى 1,350 جنيه للأردب، وهو سعر القمح المشابه لجودة القمح المصري في السوق الأمريكي بعد إضافة قيمة الدعم الذي تقدمه الحكومة لمزارعي القمح هناك.
أيضا، رفعت الحكومة أسعار قصب السكر الذي تشتريه الحكومة من المزارعين في محافظات الصعيد من 360 جنيه في سنة 2013، إلى 720 جنيه في 2021، بنسبة 100%. لكن لو زاد السعر بنفس نسبة الزيادة في سعر الأسمدة لوصل سعر قصب السكر إلى 1,350 جنيه للطن، وهو السعر الذي يطالب به الفلاحون الحكومة هذا العام، ولكنها لا تستجيب، ولم ترفع سعر القصب منذ سنة 2018، رغم أنها رفعت سعر الأسمدة مرتين خلال نفس المدة، والمزارعون يشترون الأمدة من السوق السوداء بضعف السعر الرسمي.
قبل الزيادة الثالثة التي وقعت في أكتوبر سنة 2017 بيوم واحد فقط، أعلن رئيس مجلس إدارة والعضو المنتدب لشركة أبو قير للأسمدة، الكيميائي سعد أبو المعاطي، خلال الجمعية العمومية أن الشركة، المملوكة لقطاع الأعمال العام، نجحت فى تحقيق أرباح قدرها 2,830 مليون جنيه قبل الضرائب وبزيادة 141% عن المستهدف، وبزيادة قدرها 128% عن العام السابق، ودفعت الشركة 601 مليون جنيه ضرائب، وارتفع سهم الشركة من 103 جنيه إلى 245 جنيه، وارتفعت القيمة السوقية للشركة بالبورصة من 8.5 مليار جنيه إلى 21 مليار جنيه، كل ذلك من جيوب الفلاحين الفقراء الذين يشترون الأسمدة بأسعار مبالغ فيها!
بعد الزيادة الخامسة بأسبوعين فقط باعت الحكومة حصة 10% من شركة أبو قير للأسمدة، مقابل نحو 2.2 مليار جنيه. وكان سعر الطرح 17.8 جنيه للسهم الواحد، ووصل سعر السهم خلال التداول إلى 21 جنيهاً في يوم واحد. طرح 10% من أسهم الشركة يعد بيعاً للحصة وليس زيادة رأس المال. ولكن هل يعقل أن تبيع الحكومة حصة من الشركة المملوكة للدولة وهي تحقق أرباح؟! ذلك أن الشركة قالت إنها نجحت في مضاعفة صافي أرباحها خلال العام الحالي في ظل ارتفاع الأسعار واستمرار نمو الطلب على الأسمدة عالمياً.
شركات الأسمدة المملوكة للدولة بناها عبد الناصر والسادات بأموال الفلاحين من فارق الأسعار الكبير بين السعر المتدني الذي كانت تشتري به الحكومة القطن المصري وتبعه بأسعار مضاعفة في الأسواق العالمية، ثم طرحت أسهمها في البورصة ليجني المستثمرون خيراتها ويحرم الفلاحون، أصحابها الحقيقيون، من خيراتها، ثم تكويهم الحكومة بنيران أسعار الأسمدة التي تنتجها مصانعهم!
فقد دأبت الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 1952 على بيع الأسمدة للفلاحين بأسعار فاحشة ثم تدعي كذباً أنها تدعم تلك الأسمدة. وفي ستينيات القرن الماضي كان عبد الناصر يبيع طن السماد للمزارعين بمبلغ 25 جنيه للطن، في الوقت الذي كان فيه السعر العالمي 15 جنيها للطن، بزيادة قدرها 66%، وهذا ما وثقه مركز الدراسات الاشتراكية في كتابه “تحولات الاقتصاد المصري”[1].
وأصبحت الجمعيات التعاونية وسيلة نهب الفائض الزراعي من قبل الدولة. ومن خلال التسويق الإجباري للمحاصيل الرئيسية التي تشتريها الحكومة بأسعار بخسة، وبيع المدخلات بأسعار مرتفعة يتم فرض ضرائب كبيرة وإجبارية على الفلاحين. وكان الحكومة تشتري القطن من الفلاحين بسعر 14.5 جنيه للقنطار في عام 1970 ثم يتم تصديره بعد ذلك يسعر 20.5 جنيه للقنطار.
وكان الفرق بين أثمان شراء المحاصيل في الداخل وأثمان بيعها في الخارج من جانب الحكومة يساوي 60 مليون جنبه مصري في عام 1960، الجنيه يساوي 3.3 دولار في هذا التوقيت، وهو ما يشكل 20% من الميزانية العامة للدولة. وقد وصلت التحويلات من الزراعة 5.5 مليار جنيه في عام 1975، وهو ما يشكل 30% من الميزانية لذلك العام. كان الهدف من نهب الفلاحين هو تحويل الفائض الزراعي نحو التراكم الرأسمالي في الصناعة. وفي الثمانينات وحتى عام 1992، كانت الدولة تُحصل 58% من قيمة محصول القطن من خلال الفارق بين سعر التوريد وسعر التصدير. وقبل تحرير تجارة القطن كانت الدولة تحصل على 44% من قيمة السعر العالمي للقطن. المصدر السابق
وفي بداية التسعينيات، اخترع مبارك ووزير زراعته يوسف والي برنامج “إصلاح السياسات الزراعية” وكان أحد أهدافه “تحرير مستلزمات الإنتاج”، وبسبب قرارات هذا “الإصلاح” ولأول مرة يسمح للقطاع الخاص بحصة من تجارة الأسمدة على حساب بنك التنمية والجمعيات الزراعية وزادت أسعار الأسمدة الكيماوية بمختلف أنواعها وبنسب متفاوتة وكاﻥ ﺃﻗﻠﻬﺎ ﺍﻟﻴوريا بنسبة 64%، ﻭﺃﻋﻼﻫﺎ سلفات ﺍﻟﺒﻭتاسيوم بنسبة 547%.
وفي عهد الدكتور محمد مرسي زادت حصة البنك والجمعيات الزراعية وتراجعت حصة القطاع الخاص وتصاعدت حدة الخلافات بين وزارة الزراعة وتجار وموزعي الاسمدة، حيث رفعت 385 شركة توزيع مذكرة عاجلة إلى رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي، تتهم فيها وزير الزراعة المهندس رضا إسماعيل بوقف نشاطها تماما وعن عمد وقصر توزيع الأسمدة على الجمعيات الزراعية والبنك الزراعي (الأهرام في 2 يوليو 2012).
وبعد انقلاب يوليو 2013، دأب نظام الجنرال السيسي على تخفيض نسبة الأسمدة الموزعة على المزارعين بالسعر الرسمي، من خلال بنك التنمية الزراعية إلى 25%، والنسبة الباقية يسلمها إلى تجار القطاع الخاص أو ما يعرف بالسوق السوداء والتي يشتري منها المزارع باقي الكمية بأسعار تصل إلى 5 آلاف جنيه للطن!
رابعاً: تسعير إجباري
الغاز الطبيعي يمثل نحو 60% من تكلفة إنتاج الأسمدة الأزوتية، وتزيد النسبة في مصر إلى 70% بسبب إهمال صيانة خطوط الإنتاج في مصانع القطاع العام المملوكة للدولة. في بعض مصانع القطاع العام القديمة يستهلك كل طن أمونيا 40 مليون وحدة حرارية من الغاز، بسبب إهمال الحكومة تجديد الخطوط، رغم أن المعدل العالمي هو 28 مليون وحدة حرارية لكل طن أمونيا، وهو سبب مباشر لزيادة تكلفة الإنتاج بمعدل 1200 جنيه يتم تحميلها على الفلاحين دون ذنب منهم.
وترفع الحكومة أسعار الغاز الطبيعي لمصانع إنتاج الأسمدة الأزوتية باعتبارها من المصانع كثيفة استهلاك الغاز حتى وصل إلى 5.75 دولار لكل مليون وحدة حرارية. ودائما ما تعلل الحكومة المصرية زيادة سعر الأسمدة بزيادة سعر الغاز الطبيعي في السوق الدولية، رغم أن سعر الغاز في دول أوروبا، وهي مستورد كامل للغاز، لم يتجاوز سقف 2 دولار للمليون وحدة حرارية، حتى أثناء الأزمة مع روسيا عندما قطعت الغاز عن أوروبا وصل السعر إلى 5.5 دولار لكل مليون وحدة حرارية ثم تراجعت إلى 1.8 دولار.
تدعي الشركات أنها تدعم الفلاحين بالنيابة عن الدولة عندما تبيع الأسمدة للمزارعين بسعر أقل من السعر العالمي، والواقع أن الحكومة تبالغ في سعر الغاز المقدم للشركات، رغم أن مصر مصدرة له، وتقوم الشركات بتقليص الحصة المخصصة للجمعيات الزراعية وتبيعها في السوق الحرة. وفي الحالتين يتم تحميل الزيادة على الفلاح الذي يشتري الأسمدة من السوق السوداء بضعف ثمنها أو من الجمعيات الزراعية كأنها مدعمة، وهي ليست كذلك.
المثير في الأمر أن الشركات المنتجة للأسمدة طالبت وزارة الزراعة برفع السعر الطن المدعم، المورد للفلاحين بنسبة 20% بسبب زيادة الحكومة سعر الغاز من 4.5 دولارات مليون وحدة حرارية إلى 5.75 دولارات، لكن الحكومة تكرمت على شركات الأسمدة بزيادة السعر بنسبة 37% على حساب الفلاحين الفقراء!
في يناير سنة 2017، أصدرت وزارة الزراعة بياناً يبرر زيادة أسعار الأسمدة الآزوتية على أساس تحديد المعادلة السمادية. وجاء في البيان أن كل طن من السماد الآزوتي يستهلك 28 مليون وحدة حرارية بريطانية مضروبة في 4.5 دولار، على أساس متوسط سعر صرف 16.3 جنيه، بالإضافة إلى 595 جنيها تكلفة أساسية، علاوة على 5% قيمة ضريبة مبيعات، ومصروفات تسويقية الخاصة بالتعتيق والتخزين والتسليم، وكذلك مصاريف النقل وتشمل الناولون والكارتة، ليصل سعر السماد إلى المزارع بإجمالي مبلغ 2959.6 جنيه للطن.
في هذا التوقيت كان السعر العالمي للغاز الطبيعي 2.7 دولار لكل مليون وحدة حرارية، ما يعني أن الحكومة تبيع الغاز للشركات بزيادة 60% عن السعر العالمي، ما يعادل زيادة 1,232 جنيه في كل طن يتم تحميله للمزارع.
ثم تتقاضى 5% ضريبة مبيعات، ما يعادل 132 جنيه في كل طن. بإجمالي 1364 جنيه في الطن، دون حساب تكلفة الكارتة التي تدفعها سيارات النقل للجيش على الطرق، ودون احتساب ربح الجمعيات والبنك، ثم تدعي الحكومة أنها تبيع الأسمدة للفلاحين بالسعر المدعم.
ونظرا لانخفاض أسعار الصرف اليوم عن 2017، وتقارب سعر الغاز اليوم مع السعر في الماضي، فإن بيان الوزارة يكشف عن أن زيادة سعر الأسمدة عن أسعار 2017 غير مبرر، فماذا نقول في زيادتها إلى 4,500 جنيه. سيما أن سعر الغاز يزيد عن ضعف السعر في الدول الأوروبية المستوردة للغاز، ومن المفترض أن تسفيد الصناعات المصرية القائمة على الغاز الطبيعي من الميزة النسبية لوفرة الغاز المصري والقريب من المصانع والذي لا يوفر تكاليف النقل والإسالة. ولا داعي لضريبة المبيعات و “كارتة” نقل الأسمدة، وهذه التكاليف يدفعها الفلاحون الذين ينتجون غذاء الشعب وغالبيتهم العظمى، 80% منهم فقراء، وفق إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء.
الشركات لا تعترض على تسعيرة الحكومة للغاز الطبيعي المرتفعة عن الأسعار العالمية طالما أن الحكومة لا تلزمها بالبيع بالتسعيرة جبرية للفلاحين، ولا تجبرها على تسليم الحصة المخصصة للفلاحين كاملة. والشركات تحمل تكلفة الغاز على المنتج وتبيع في السوق الحر أو تصدر للخارج إذا كان السعر العالمي أعلى من المحلي.
خامساً: التصدير ضد التنمية
في منتصف سنة 2016 وحتى منتصف 2020، انخفض السعر العالمي للأسمدة بنسبة 35%، ووصل في بعض الأوقات إلى 142 دولاراً للطن تقريبا، وتوقفت الشركات المصرية عن التصدير وفضلت البيع في السوق المحلي، ورغم ذلك لم تنخفض الأسعار في السوق المحلية ولم يحصل الفلاح على أي فائدة من وفرة الإنتاج المحلي ولا انخفاض السعر العالمي.
في الأزمة الحالية، تفضل الشركات المنتجة تصدير الأسمدة، عن البيع في السوق المحلي، لارتفاع الأسعار العالمية إلى 615 دولار للطن شحن البحر الأسود، وذلك بسبب نقص المعروض وزيادة الطلب، وليس بسبب زيادة أسعار الغاز كما تدعي الحكومة. من جهة أخرى تغض الحكومة الطرف عن رغبة الشركات في التصدير طمعا في تحصيل رسوم تصدير قدرها 2500 جنيه عن كل طن تقوم الشركات المنتجة بتصديره للخارج.
حيث أصدرت وزيرة التجارة، نيفين جامع، قرارا في 3 يونيو 2021 باستمرار فرض رسم صادر على صادرات الأسمدة الآزوتية المنصوص عليه بالقرار الوزاري رقم 59 لسنة 2021 على أن تعدل فئة الرسم لتكون بواقع 2500 جنيه للطن. وقالت الوزيرة، إن القرار والذي يعمل به لمدة عام ينظم عمليات تصديرها ويوفر الحصة الشهرية المقررة لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي لتلبية احتياجات السوق المحلي وتسهيل حصول الفلاح على الكميات اللازمة للزراعة.
رسوم تصدير الأسمدة لا تظهر في الموازنة للعامة للدولة، وهو مبلغ كبير كان يجب دعم المزارعين به ويخصم من سعر الأسمدة المخصصة للسوق المحلي، وهو ما لم يحدث، ما يعتبر فساد وعدم شفافية. في وقت تتجه فيه كبرى الدول المصدرة للأسمدة لوقف التصدير لتلبية احتياجات المزارعين المحليين ولزيادة الإنتاج الزراعي من المحاصيل الغذائية الأساسية، وخاصة القمح والذرة، وهي المحاصيل التي تعاني فيه الدولة المصرية من فجوة كبيرة تصل إلى 65% على أقل تقدير.
فرغم أن الأسمدة الآزوتية هي منتج نهائي من الغاز الطبيعي، لكنها في الواقع مواد خام أو وسيطة وهي واحدة من أهم مدخلات الزراعة الرابحة. والقاعدة الاقتصادية تقول إن تصدير المواد الخام يقلل الناتج القومي ويقضي على توليد فرص عمل جديدة.
روسيا والصين والولايات المتحدة، وهي من الدول المصدرة للأسمدة، منعت تصدير الأسمدة النيتروجينية لتوفيرها بكميات كافية وبسعر منخفض لدعم المزارعين المحليين وتشجيعهم على الزراعة وزيادة الانتاجية وبالتالي الأرباح، حيث ارتفعت أسعار القمح والذرة في الأسواق الدولية بنسبة 50% تقريبا مقارنة بالعام الماضي. وقدمت الصين وهي أكبر مصدر للأسمدة، ورغم أنها تستورد الغاز الطبيعي والطاقة، دعما للمزارعين بقيمة 20 مليار يوان، 3.1 مليار دولار، لمواجهة زيادة الأسمدة.
الهند، وهي من الدول المستوردة للأسمدة، كان السعر الفعلي 1700 روبية للكيس الواحد من سماد فوسفات الأمونيوم العام الماضي، وتقدم الحكومة دعم للمزارعين قدره 500 روبية للكيس، بنسبة 30%، ليحصل المزارع عليه بسعر 1200 روبية. ومع ارتفاع الأسعار العالمية، وصل السعر إلى 2400 روبية لكل كيس. ولضمان حصول المزارعين على السماد بالسعر القديم، قررت الحكومة زيادة الدعم إلى 1200 روبية، و900 روبية لليوريا. والنتيجة أن انتاجية الهند من المحاصيل الأساسية، القمح والأرز والذرة، تزيد وتفيض وتصدر الفائض بالأسعار العالمية وتعوض تكلفة دعم الأسمدة.
في المقابل، تصدر مصر أسمدة بقيمة 1.4 مليار دولار، والنتيجة نشوء فجوة في الغذاء تكلفها واردات غذائية سنوية بقيمة 15 مليار دولار وأصبحت تستورد 65% من غذائها، وهي المستورد الأول في العالم للقمح بمعدل 12 مليون طن، والثاني للذرة بمعدل 10 ملايين طن، وتستورد 95% من احتياجاتها من زيوت الطعام. وهو وضع هش للأمن الغذائي، ومهدد لأحد مكونات الأمن القومي المصري.
سادساً: الحلول المقترحة للأزمة
1: إنشاء مصانع حكومية لإنتاج الأسمدة الأزوتية تكون قريبة من حقول الغاز وبعيدة عن التجمعات السكنية، حيث تمتلك مصر ميزة نسبية في تصدير الأسمدة الأزوتية لتوفر الغاز اللازم لمكونات الصناعة، وبعد اكتشاف حقل ظهر وهو ثروة عامة يجب أن يستفيد الشعب منها بعدالة ولا يخصص لشركات خاصة. وكذلك تمتلك مصر الخبرة الفنية التي أثبتت نجاحها بنقل الصناعة إلى السعودية وقطر والجزائر والعراق. فضلاً عن موقع مصر الإستراتيجي بين دول استهلاك الأسمدة في العالم.
2: تطوير شركات القطاع العام المنتجة للأسمدة، ووقف بيعها في البورصة، فهي ثروة قومية أقامتها الحكومات المختلفة منذ قرون بأموال الفلاحين التي تكونت من وفورات وأرباح تصدير المحاصيل الزراعية وعلى رأسها القطن والأرز والبصل. لذا فهي ملك لهم.
3: تغيير منظومة دعم الأسمدة إلى الدعم النقدي وتفعيل كارت الفلاح ليصل الدعم لمزارع الأرض وليس لمالكها. وتحرير تجارة وتوزيع الأسمدة، ولا مانع من إشراك القطاع الخاص في التوزيع لمنع الفساد وتسريب حصص المزارعين مع تحديد هامش الربح دون مغالاة، ويفضل ربط الدعم بتطبيق الدورة الزراعية وإنتاج المحاصيل الاستراتيجية.
4: بيع الغاز الطبيعي للشركات بالسعر العالمي دون مغالاة، وفرض رسوم على تصدير المنتجات الآزوتية جميعها، وتوجيه الرسوم لدعم المزارعين والبحوث الزراعية. مع ضرورة إلغاء ضريبة القيمة المضافة على الأسمدة في السوق المحلية أسوة بمشروعات الجيش، وكذلك الكارتة والإتاوات التي يتقاضاها الجيش على نقل الأسمدة.
[1] تحولات الاقتصاد المصري: ملاحظات أولية، مركز الدراسات الاشتراكية، 1999