تقاريرمجتمع

التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر: المشكلة والحل

تمهيد

في الرابع من فبراير 2021، أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى بعدم جواز المتاجرة بالآثار التي يجدها المواطنون في الأراضي المملوكة لهم، وأثارت هذه الفتوى جدالا طويلا، ما بين مؤيد لها ومعترض عليها. حيث نصت الفتوى على أنه: “لا يجوز المتاجرة بالآثار، وإذا وجدها الإنسان في أرضٍ يمتلكها فلا يصح أن يتصرف فيها إلا في حدود ما يسمح به ولي الأمر وينظمه القانون مما يحقق المصلحة العامة؛ لأن تلك الآثار تعتبر من الأموال العامة لما لها من قيم تاريخية وحضارية تصب جميعها في مصلحة المجتمع ونمائه وتقدمه”[1].

وقد دعانا هذا الجدال بين الفريقين لكتابة هذا التقرير الذي يتناول التنقيب غير الشرعي عن الآثار؛ علّه يكون كاشفا عن العديد من الخبايا التي ما تزال بعيدة عن نظر المتجادلين. فالتنقيب غير الشرعي عن الآثار بمصر يمثل تحديا كبيرا، ويعتبر من أطول المشكلات استمرارا. كما أنه وبالرغم من التشريعات التي تضعها الحكومات المتتالية بين الحين والآخر؛ إلا أن الواقع يدل على أن المشكلة لم تتوقف؛ بل هي في ازدياد مطرد.

فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن قضايا حفر تتم خلسة من أجل البحث عن الآثار. يتم فيها القبض على بعض المواطنين وبحوزتهم قطع أثرية أصلية أو مقلدة، غير إنهم سرعان ما يعودون إلى منازلهم بعد المرافعات القضائية التي يُثبت من خلالها المدافعون عنهم أن موكليهم لم يخالفوا القانون. هذا غير العشرات وربما المئات من الضحايا التي تخبرنا عنهم الصحف بشكل دائم.

وقد جاء تقريرنا هذا ليبين المشكلة وأسبابها وآلية حلها، وذلك من خلال محاور ثلاثة؛ جاءت كالتالي: المحور الأول، ودار حول ماهية التنقيب عن الآثار وأهدافه وجذوره وأنواعه. في حين اهتم المحور الثاني بالتعرف على واقع التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر ومخاطره. أما المحور الثالث، فقد وضّحنا فيه أسباب المشكلة، ووضعنا الآليات المقترحة لحلها.

المحور الأول: التنقيب عن الآثار ـ ماهيته وأهدافه وجذوره

التنقيب عن الآثار بشكل عام، علم وفن: علم؛ لأنه يعتمد على كثير من العلوم في تحقيق أهدافه وغاياته، ومن هذه العلوم ما يستعين بها المنقب في اختياره للمكان الذي سيجري فيه الحفر، وفي تحديده لموقع أبحاثه، فهو يستخدم؛ علم الطبيعة (الفيزياء)، والتصوير من الجو، وأجهزة الغوص، وعلم المساحة، وما إلى ذلك. ولذا فإن المنقب يقوم منذ اختياره للموقع وحتى نهاية الحفر باستخدام أجهزة علمية معقدة، وطرقا علمية تحتاج للدراسة. أما اعتبار التنقيب فن؛ فهذا لأنه يعتمد على كثير من الفنون كالرسم والتصوير، كما أن معرفة المنقب بتاريخ الفن وتطوره ضرورية لقدرته على تأريخ المكتشفات الأثرية[2].

أما أهداف التنقيب، فمن أهمها: استخلاص الآثار وتسجيل أوصافها وأوضاعها بالنسبة لغيرها، والمحافظة عليها وترميمها، واستخدام الآثار المكتشفة في إلقاء أضواء جديدة على الحضارة الإنسانية الماضية وتطورها، واستنباط التاريخ منها[3]. كما يهدف التنقيب إلى الكشف عن تلك القيم والمعاني التي تقدمها لنا الآثار ذاتها، فبالإضافة إلى القيم المادية والفنية للمكتشفات الأثرية، فإن الآثار تجسد لنا صورة الإنسان في الأزمنة القديمة، فهي تكشف عن أفكاره ومعتقداته، وتعبر لنا عن إمكانياته المادية وقدرته على تنظيمها، وتحدد لنا ذوقه وفنونه، كما ترسم لنا علاقاته بالبيئة المحيطة وبالناس الذين من حوله[4].

بل إن ما تنتجه أعمال التنقيب من كشوفات اليوم ازدادت أهميته عما قبل. فإن كانت الآثار في الماضي قُدرت بقيمتها المادية وضخامتها ومستواها الفني الرفيع، فإن هذا المفهوم قد تغير اليوم، حيث أصبحت الـ (شقفة) الصغيرة من الفخار القديم قد تضارع في أهميتها تمثالا جميلا، وبل وقد تزيد عنه في الأهمية، إذ ربما تُلقي هذه الشقفة الضوء على حضارة ذلك العصر الذي تنتمي إليه[5].

وتعود جذور التنقيب عن الآثار في مصر إلى عقود طويلة، لكنها ظهرت بوضوح بداية من عصر محمد على وأسرته، حيث بدأ الاهتمام بالآثار يجد صدى واضحا، وترتب على هذا الاهتمام ظهور عملية التنقيب عن الآثار. ولم يكن التنقيب في البداية محظورا على الأفراد بل كانت تجارة الآثار أمرا مقننا. وكانت عمليات التنقيب تتم من خلال تجار الآثار والدبلوماسيين الأجانب. وبعد أن ازدادت تلك العمليات بدأ الأمر يتخذ منحى جديدا نحو تقييد تلك السرقات. ففي 15 أغسطس من عام 1835، قام محمد علي بإصدار مرسوم يحظر تماما تصدير جميع الآثار المصرية الناتجة عن الحفائر أو الاتجار بها، وأصدر مرسوما بإنشاء متحف للآثار الناتجة عن تلك الحفائر[6]. وفي عهد الخديو سعيد، تبين له أن القناصل وكبار التجار الأجانب يستغلون صلتهم به كي يحصلوا منه على تراخيص لإجراء حفائر على حسابهم الخاص، ثم يقوموا بإرسال ما يستخرجونه من التماثيل والمومياوات والتوابيت إلى بلادهم، وعلى إثر ذلك قام بإصدار أمر في أوائل يناير 1855 بعدم الترخيص لأي شخص بالتنقيب عن الآثار سوى الحكومة. أما في عهد الخديو إسماعيل، وفي مارس عام 1869، صدرت لائحة “الأشياء الأثرية” وضمت 7 مواد تحظر إجراء أي حفائر إلا بترخيص رسمي من وزارة الأشغال العامة، وتمنع تصديرها.[7]

وفي 17 نوفمبر 1891 صدر قرار ينص على أنه لا يجوز للأفراد الحفر والتنقيب عن الآثار إلا بموجب ترخيص من مدير عام التحف والحفر معتمدا من وزير الأشغال، على أن يكون ناتج الحفر ملكا للحكومة. وفي أغسطس 1897 صدر قرار من الخديو عباس حلمي الثاني؛ ينص على معاقبة من يحفر في أرض الحكومة دون ترخيص[8].

أما في 1912 فصدر القانون رقم 14، وجاء به أن كل أثر في جميع أنحاء القطر المصري سواء كان على سطح الأرض أو في باطنها يعد من أملاك الحكومة العامة، ونص على ألا يُسمح للأشخاص بالتنقيب، وأن يقتصر التنقيب فقط على البعثات العلمية[9].

والتنقيب عن الآثار، نوعان؛ الأول: هو الرسمي الذي تقوم به الدولة من خلال وزارة الآثار أو من خلال البعثات الأجنبية التي تعمل بالمجال تحت إشراف الوزارة. والثاني، هو التنقيب غير المسموح به قانونا؛ ويُعرف بالتنقيب غير الشرعي، أو الحفر خلسة.

المحور الثاني: التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر: الواقع والمخاطر

بالرغم من أن عمليات الحفر والتنقيب عن الآثار بشكل غير شرعي، موجودة بمصر منذ عقود طويلة كما عرفنا في المحور السابق؛ إلا أن الواقع يؤكد على أن الأمر قد ازداد سوءا منذ ثورة يناير 2011 وما تلاها من أحداث؛ فوزير الآثار الأسبق محمد إبراهيم أعلن في 21 سبتمبر 2013 أن عدد القطع الأثرية التي سرقت منذ ثورة يناير بلغ نحو 2000 قطعة، بل إن هناك تقريرا نشرته مجلة “سبكتاتور” البريطانية – أشارت إليه جريدة الأهرام في عددها الصادر يوم التاسع من نوفمبر 2013 – أظهر أن هناك نموا ملحوظا في أعمال النهب في الآثار المصرية، وذكر اللصوص يبيعون ما يعثرون عليه من كنوز أثرية لهواة جمع التحف من الأجانب في لندن والإمارات[10].

في حين نقل موقع “البوابة نيوز” في أغسطس 2017 على لسان أحد مواطني مركز أخميم بسوهاج، قوله: “إن البحث عن الآثار لم يعد هواية أو وظيفة مؤقتة يؤديها من يعتقد أن أسفل منزله مقبرة أو قطعا أثرية، بل تجاوز الأمر ذلك ليصبح عملا منظما أشبه بعصابات المافيا، بعضها متخصص في الكشف عن الأماكن التي من الممكن أن يكون بها آثار، وآخرون يعملون في ترويج ما يُكتشف من مقابر أو قطع مقابر”[11]

والآن؛ تحدث عمليات التنقيب غير الشرعي، بشكل يومي وبطول البلاد وعرضها من أسوان حتى الإسكندرية ومن سيناء حتى سيوة، فنادرا ما تجد محافظة لا تتعرض لعمليات الحفر والتنقيب غير الشرعي بعد أن كانت قاصرة على محافظات الصعيد سابقا. وقد ذكر أحد المسؤولين عن الآثار، أن: “جميع المواقع الأثرية في دلتا مصر مهددة بالتعدي عليها، وأن وزارة الآثار تسير في الاتجاه الخطأ”[12]

والأرقام المرصودة في هذا الاتجاه خلال الأسابيع والشهور الأخيرة؛ تدل على أن الأمر بدأ يتخذ منحى خطيرا؛ فخلال الأسبوع الأخير من فبراير 2021 تم ضبط 2452 قضية ومخالفة متنوعة، أبرزها: حيازة آثار، وحفر وتنقيب عن الآثار[13]. بينما تمكنت أجهزة الأمن من ضبط 2690 قضية ومخالفة متنوعة، أبرزها: حيازة آثار، وحفر وتنقيب عن الآثار، خلال الأسبوع الأول من الشهر نفسه[14]. أما خلال الأسبوع الثالث من يناير 2021 فقد تم ضبط 2715 قضية ومخالفة متنوعة، أبرزها: حيازة آثار، وحفر وتنقيب عن الآثار[15]. أما الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر 2020؛ فقد نجحت خلاله أجهزة الأمن في ضبط 2792 قضية ومخالفة متنوعة، أبرزها: حيازة آثار، وحفر وتنقيب عن الآثار[16].

ومما يدلل على أن المشكلة متفاقمة؛ هو أن ما يتم الإعلان عنه، أو ضبطه من قبل الجهات المختصة، هو في حد ذاته لا يمثل نسبة 10% من الواقع الفعلي؛ وهذا طبقا لما ذكرته العديد من المصادر المطلعة. وكان الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، الدكتور محمد عبد المقصود، قد ذكر أن معظم الضبطيات التي تتم هي عبارة عن آثار مزيفة، وأن الآثار الحقيقية نسبتها لا تتعدى 10%.[17]

ويترتب على التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر؛ مخاطر عديدة تتمثل في إتلاف الآثار وتهريبها للخارج بشكل لا نستطيع من خلاله العمل على عودتها مرة أخرى طبقا للمواثيق والمعاهدات الدولية. هذا فضلا عن تسببه في سقوط العديد من الضحايا ما بين متوفين ومصابين بأماكن الحفر التي كثيرا ما تنهار عليهم. بل ومن هؤلاء الضحايا من لا يتم العثور على جثمانه إلا بعد سنوات كما حدث عام 2015 حين اختفى الشاب “محمود” البالغ من العمر 27 عاما في ظروف غامضة، وظلت أسرته تبحث عنه دون كلل أو ملل لمدة ثلاث سنوات حتى تمكنت في عام 2018 من العثور على رفاته بصحراء مركز “فقط” بمحافظة قنا من خلال أجهزة الأمن، هو ورفقاء آخرين معه، وتبين أنهم خرجوا في رحلة للبحث والتنقيب عن الأثار اعتقادا منهم بوجود كنز هناك، فانهارت أعمال الحفر عليهم فتوفوا جميعا[18].

أما الغريب في الأمر؛ فإن التنقيب غير الشرعي عن الآثار، يصبح في الكثير من الأوقات سببا في العثور على اكتشافات أثرية، ففي شهر يناير الماضي فقط، على سبيل، المثال تم الكشف من خلال تلك العمليات على العثور على 3 كنوز أثرية في الصعيد[19].

المحور الثالث: دوافع التنقيب غير الشرعي عن الآثار وآليات الحل

أولا: الدوافع والأسباب

تتعدد الدوافع والأسباب التي تدعو المواطنين للقيام بعمليات التنقيب غير الشرعي عن الآثار في مصر، وبإمكاننا أن نوجزها كالتالي:

  • ضعف الوعي لدى المواطنين بأهمية هذا التراث التاريخي والحضاري، وضرورة الحفاظ عليهم من أجلهم وأجل مستقبل أبنائهم.
  • الواقع المعيشي المتأزم الذي يحياه المواطنون، في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تدفع بالبعض نحو البحث عن مصدر سهل يستطيعون من خلاله العمل على سد احتياجاتهم واحتياجات عوائلهم الضرورية.
  • البحث عن الثراء السريع الذي يطمح إليه بعض الحالمين، وهؤلاء يعتبرون أن التنقيب عن الآثار وبيعها هو أسهل طريق لتحقيق تلك الطموحات الآثمة.
  • انتشار بعض الفتاوى الدينية، التي تحلل عملية التنقيب والبحث عن الآثار، وتعتبر أن الآثار ركاز يحل بيعه؛ بشرط التصدق بالنسبة الشرعية منه وهي الخمس. بل إن الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، عندما أكد على حرمة تجارة الآثار – في بيان سابق له – وضع استثناء، قد يفتح الباب واسعا أمام تجارة الآثار وليس العكس، حيث قال: “لا يجوز شرعا المتاجرة بالآثار، أو التصرف فيها بالبيع أو الهبة، أو غير ذلك من التصرفات، إلا في حدود ما يسمح به ولي الأمر، وينظِّمه القانون؛ مما يحقق المصلحة العام”[20]، فترك الأمر لولي الأمر يبين أن الموضوع لا يزال غير واضح أمام أهل الفتوى الشرعيين. وبعيدا عن التأصيلات الشرعية عن كونه ركاز من عدمه؛ فالآثار تمثل تاريخا وحضارة ووطنا، وفيها مصلحة عامة تعمل على رفعة البلاد وازدهارها، ولذا فمن الضروري أن تكون الفتاوى الشرعية متفهمة هذا الأمر جيدا.
  • ضعف التشريعات التي تمنع من الاعتداء على الآثار والتنقيب غير الشرعي عنها، هذا بالرغم من وجود قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 وتعديلاته المتتالية. فالتعديلات لم تعمل بجدية على تجريم التنقيب بشكل يمنع وقوعه.
  • البطء الشديد والإجراءات الروتينية المملة التي تتبناها مؤسسات الدولة المنوط بها العمل على ضم وتسجيل المناطق والأراضي الأثرية لتكون في حوزة وزارة الآثار مما يعينها في العمل على تأمينها ومراقبتها.
  • ضعف وقلة عدد الحراسة التابعة لوزارة الآثار والمخول بهم تأمين المواقع الأثرية، والمناطق الواقعة تحت إشراف الوزارة.
  • ضعف وقلة عدد أفراد الشرطة والمخبرين السريين المخول بهم مراقبة مثل تلك الأعمال الإجرامية والإبلاغ عنها، هذا فضلا عن انشغال جهاز الشرطة بشكل عام في السنوات الأخيرة بأمور ابتعدت كثيرا عن مهامه الأساسية في تأمين الأفراد والحفاظ على مدخرات الوطن وممتلكاته.

ثانيا: آليات حل المشكلة

وبالرغم من وجود هذا الواقع المؤلم لعمليات الحفر والتنقيب غير الشرعي عن الآثار المصرية، وبالرغم من أن الأسباب التي أدت إلى ذلك واضحة وضوح العين؛ إلا أن الإجراءات التي تقوم بها الحكومات المتتالية من أجل القضاء على تلك المشكلة، تكاد تكون منعدمة أو على أقل تقدير نستطيع أن نقول؛ إنها ضعيفة لا ترتقي أن تكون حلولا حقيقية.

ولذا فنحن هنا، نضع بعض الآليات والحلول الواقعية التي نرى ضرورة الإسراع نحو مناقشتها والعمل على تنفيذها، وهي تتضمن الآتي:

  • العمل على توعية المواطنين بأهمية الآثار المصرية، وقيمتها التاريخية والحضارية، بكل حقبها المختلفة، مع ضرورة التركيز على أن التنقيب غير الشرعي عنها يُعد جريمة أخلاقية وقانونية؛ تضر بالوطن وتاريخه وأمنه.
  • الإسراع في تسجيل الأماكن الأثرية بالكامل، فتسجيلها يعمل على حمايتها. وهذا التسجيل ليس أمرا هينا فهو يحتاج جهدا كبيرا؛ يجب أن تتبناه الدولة، لأنه يتطلب دعما ماديا كبيرا وكوادر بشرية عديدة.
  • كما يجب العمل وسريعا نحو تسجيل كل القطع الأثرية التي يثبت أثريتها؛ والتي يتم ضبطها من خلال عمليات التنقيب غير الشرعي. فتسجيل وزارة الآثار لها يمنع أو يقلل من فرص تهريبها خارج مصر.
  • زيادة الحراسة المشددة على المواقع والمناطق الأثرية، وعمل دوريات أمنية للحد من انتشار هذه الظاهرة، التي انتشرت في ربوع مصر بشكل مفزع.

ضرورة إصدار فتوى واضحة من الأزهر الشريف، ودار الإفتاء للتفريق بين الركاز والآثار. ويمكن الوصول لفتوى صريحة؛ من خلال الاستفادة من البيان الأخير لدار الإفتاء المصرية[21]، بيان شيخ الأزهر الذي جاء بمؤتمر “التجديد في الفكر الإسلامي” الذي انعقد في الفـترة من 2-3 جمادى الآخرة 1441هـ الموافق 27-28يناير2020م، والذي ذكر في البند الـ 25 منه، أن: “الآثارُ موروثٌ ثقافيٌّ يُعرِّف بتاريخ الأمم والحضارات، ولا تُعدُّ أصناما ولا أوثانا -كما يَزعمُ أصحاب الفكر الضالّ- فلا يجوز الاعتِداء عليها ولا فعل ما يغيِّر من طبيعتها الأصلية، وهي ملك للأجيال كافة، تُدِيرها الدولةُ لصالحها، حتى لو عُثِر عليها في أرض مملوكة للأشخاص أو الهيئات، ويجب تشديد العقوبات الرادعة عن بيعِها أو تهريبِها خارج البلاد”[22]. كما يمكن الاستفادة أيضا بما ذكره الدكتور أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف، من أن الاستيلاء على الآثار بطرق غير مشروعة حرام شرعا، ويعد سرقة ومخالفة لولي الأمر والمؤسسات المعنية للدولة، وبالتالي فكل من يبحث عن الآثار خلسة ارتكب جرما[23]. كما يمكن أيضا تبنّ فتاوى سابقة في هذا الجانب؛ كفتوى الإمام الأكبر الشيخ، جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، حول الحفاظ على الآثار وحرمة الاعتداء عليها الصادرة عام 1980، حين كان مفتيا للجمهورية، والتي وضّح من خلالها أن الحفاظ على الآثار ضرورة[24]. وواجب[25].

  • ضرورة العمل على تشجيع المواطنين الذين يعثرون على الآثار بطريق الصدفة، نحو الإبلاغ عنها، من خلال رصد مكافأة مناسبة تحفزهم على ذلك. وعلى الرغم من أن قانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983 نص على وجود مكافأة لمن يسلم الآثار، في المادة الـ 24 منه؛ حيث نص على أن: “كل من يعثر مصادفة على أثر منقول، أو يعثر على جزء أو أجزاء من أثر ثابت فيما يتواجد به من مكان، أن يُخطِر بذلك أقرب سلطة إدارية خلال ثمانٍ وأربعين ساعة من العثور عليه، وأن يحافظ عليه حتى تتسلمه السلطة المختصة، وإلا اعْتُبر حائزا لأثر بدون ترخيص، وعلى السلطة المذكورة إخطار الهيئة بذلك فورا، ويصبح الأثر ملكا للدولة، وللهيئة إذا قدرت أهمية الأثر أن تمنح من عثر عليه وأبلغ عنه مكافأة تحددها اللجنة الدائمة المختصة”[26]، بالرغم من ذلك فإن المواطنين لا يثقون في الحكومة وخاصة أنه ليست هناك أية سوابق شهيرة تثبت صدق الحكومة في تطبيق هذه المادة.
  • ضرورة العمل على تعديل قانون حماية الآثار بشكل يمنع القيام بعمليات التنقيب غير المشروع. فإنه وبالرغم من التعديلات المتتالية التي تعرض لها القانون والتي كان آخرها في 2020، إلا أن الاقتراب من مواد بعينها لازال صعب المنال. فالتعديل قبل الأخير للقانون والذي حمل رقم 91 لسنة 2018، جاء بالفقرة (2) بالمادة الـ 42 منه، ما نصه: “وتكون العقوبة السجن المشدد لكل من قام بالحفر خلسة أو بإخفاء الأثر أو جزء منه بقصد التهريب، ويحكم في جميع الأحوال بمصادرة الأثر والأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة في الجريمة لصالح المجلس”. كما جاء بالفقرة (3) بنفس المادة؛ بأن: “يعاقب بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه كل من قام بأعمال حفر بقصد الحصول على الآثار دون ترخيص أو اشتراك في ذلك، ويعاقب بالسجن المؤبد والغرامة التي لا تقل عن خمسين ألف جنيه، ولا تزيد على مائة ألف جنيه، إذا كان الفاعل من العاملين بالمجلس الأعلى للآثار أو من مسؤولي أو موظفي أو عمال بعثات الحفائر أو من المقاولين المتعاقدين مع المجلس أو من أعمالهم”[27]. فهذه كلها ما تزال عقوبات غير رادعة، وخاصة أن بها ثغرات عديدة، كقول المشّرع بالفقرتين سالفتي الذكر: “بقصد التهريب”، ” بقصد الحصول على الآثار” على الترتيب، فهي كلها استثناءات لن تكون سببا في إيقاف عمليات الحفر والتنقيب غير الشرعي، بل إنها استثناءات تمكن المتهمين بتلك القضايا بالخروج منها بكل يسر وبساطة.
  • ضرورة العمل على تشريع يساعد في تقنين إنشاء المتاحف والمجموعات الخاصة، بحيث يستطيع كل من يمتلك قطعا أثرية الحق في إنشاء متحف أو مجموعة خاصة للانتفاع بها، بعد تسجيلها في عداد الآثار، وإخضاع هذه المتاحف والمجموعات الخاصة لإشراف الآثار، وخاصة أن هذا التشريع موجود بكل الدول الأوربية ويتم الاستناد إليه في إقامة المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة.

خاتمة:

بعد أن تناولنا واقع المشكلة وأسبابها والآليات المقترحة لحلها، أختم تقريري هذا بكلمات للدكتور يوسف حامد خليفة الخبير في ضبطيات قضايا التنقيب عن الآثار، حين يصف الأمر بقوله: إن عملية البحث والتنقيب غير المشروعة عن الآثار والاتجار فيها وتهريبها إلى خارج البلاد أصبح للأسف أمرا متكررا، نقرأه على صفحات الصحف والمجلات ونسمعه في وسائل الإعلام بصفة تكاد تكون يومية. والقائمون بها إما من الطبقة العليا الغنية؛ مستغلة ما لديها من نفوذ وسلطة طمعا في المزيد من الأرصدة والممتلكات أو من الطبقة الفقيرة المعدمة التي تحاول أن تخرج من غيابة الفقر وترضى بالقليل، بل أحيانا يكون من نصيبهم الموت دفنا في إحدى الحفر بعد أن ينهال عليهم التراب. وظهر حديثا النصابون الذين استغلوا طمع الأغنياء وحاجة الفقراء فقاموا بحبك خيوط شباكهم حولهم ودائما هم الفائزون[28].


الهامش

[1]-رابط الفتوى بحساب دار الإفتاء المصرية على تويتر، https://tinyurl.com/uyf7fwzx

[2] – فوزي عبد الرحمن الفخراني، الرائد في التنقيب عن الآثار، منشورات جامعة قار يونس، بتعازي، ليبيا، الطبعة الثانية، 1993م، ص 9

[3] – علي حسن، الموجز في علم الآثار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993، ص 40

[4] – فوزي عبد الرحمن الفخراني، مرجع سابق، ص 24

[5] – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حركة التنقيب عن الآثار في الوطن العربي، المؤتمر الثامن للآثار، مراكش، المملكة المغربية، تونس 1989، ص41

[6] – أشرف العشماوي، سرقات مشروعة: حكايات عن سرقة آثار مصر وتهريبها ومحاولات استردادها، الدار المصرية اللبنانية، 2012

[7] – يونان لبيب رزق، مصر في عهدي عباس وسعيد، سلسلة التاريخ الجانب الآخر: إعادة قراءة للتاريخ المصري، دار الشروق، الطبعة الأولى 2007

[8] – يوسف حامد خليفة، الآثار المصرية (قضايا ومضبوطات)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012، ص 27

[9] – أنطون صفير بك، محيط الشرائع -1856 -1952، المجلد الأول من أ إلى ت -صـ 5 قانون رقم 14 لسنة 1912

[10] – حسين دقيل، تداعيات انقلاب 2013 على الآثار المصرية، المعهد المصري للدراسات، 13 أبريل 201

[11] – البوابة نيوز، سرقة الآثار.. بما لا يخالف شرع الله، 21 أغسطس 2017

[12] – البوابة نيوز، سرقة الآثار.. بما لا يخالف شرع الله، 21 أغسطس 2017

[13] – مصراوي، الداخلية X أسبوع.. ضبط 2452 قضية آثار و972 قطعة سلاح ناري، 27 فبراير 2021

[14] – مستقبل وطن نيوز، حيازة آثار وحفر وتنقيب.. ضبط 2690 قضية في مجال الأمن السياحي خلال أسبوع، 6 فبراير 2021

[15] – الوطن، جهود أجهزة وزارة الداخلية على مستوى الجمهورية خلال أسبوع.. 422 قضية، 23 يناير 2021

[16] – الوفد، ضبط 2792 قضية آثار في أسبوع، 12 سبتمبر 2020

[17] – عربي 21، هوس التنقيب عن الآثار في مصر.. رحلة الهروب من الفقر، 23 فبراير 2020

[18] – اليوم السابع، رحلة البحث عن المجهول.. العثور على رفات عامل بعد سنوات من اختفائه بحثا عن الآثار بصحراء قفط.. “إبراهيم” حفر قبره أثناء تنقيبه داخل منزله.. وخبير أمنى: الدجالون ينصبون على المواطنين بادعاء تسخير جن لفتح المقبرة، 30 نوفمبر 2018

[19] – الوطن، في شهر واحد.. العثور على 3 كنوز أثرية في الصعيد، 5 فبراير 2020

[20] – الأهرام، رأي المفتي في تجارة الآثار المدفونة بأرض الأفراد، 25 فبراير 2018

[21] – رابط الفتوى بحساب دار الإفتاء المصرية على تويتر، https://tinyurl.com/uyf7fwzx

[22] – مصراوي، ننشر توصيات مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية، 28 يناير 2020

[23] – جريدة الأهرام، التنقيب عن الآثار يستبيح الحضارة.. العقل المدبر “شيخ منصر” والمتهم مهووس بالثراء.. وخبراء: المؤبد لا يكفي، 6 فبراير 2019

[24] – أوضحت الفتوي أن الآثار وسيلة لدراسة التاريخ كالمصريين القدماء والفرس والرومان، وغير أولئك وهؤلاء ممن ملأوا جنبات الأرض صناعة وعمران، قد لجئوا إلى تسجيل تاريخهم اجتماعيّا وسياسيّا وحربيّا نقوشا ورسوما ونحتا على الحجارة، وكانت دراسة تاريخ أولئك السابقين والتعرف على ما وصلوا إليه من علوم وفنون أمرا يدفع الإنسانية إلى المزيد من التقدم العلمي والحضاري النافع

[25] – الوطن، تعرف على حكم الدين في تنقيب الأشخاص عن الآثار، 20 أكتوبر 2019

[26] – الجريدة الرسمية، العدد 32، في 11 أغسطس 1983، قانون رقم 117 لسنة 1983، مادة 24

[27] – الجريدة الرسمية، العدد 23 مكرر أ في 11 يونية 2018، قانون رقم 91 لسنة 2018، المادة 44

[28] – يوسف حامد خليفة، مرجع سابق، ص 13

الوسوم

د. حسين دقيل

أكاديمي مصري،باحث ومتخصص في الآثار حاصل على الدكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية حاصل على الدراسات العليا في التربية قسم اللغة العربية من جامعة جنوب الوادي

اعمال اخرى للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى