قلم وميدان

قبل أن يُصبحَ ربيعُ السودانِ دروساً وعبراً

ربيع أم ثورة مضادة مبكرة؟

إذا اتفقنا أن “الربيع العربي” هو مصطلح يعبر عن حالة ثورية لاسترداد الشعب سلطته، وامتلاكه زمام دولته يعيد بناءها وفق إرادته الحرة، ودون استقطاب داخلي أو إملاء خارجي، ودون انتقاص حق من حقوقه. فلا يمكن اعتبار ما يحدث فى السودان ربيعاً وثورة شعبية، بل عمل مضاد للثورة من بدايته. إلى أن تقتحم قوى الشعب الصامتة مجال التأثير في الأحداث.

إن المشهد الثوري توقف داخلياً عند تصدر فاعليّْن اثنين أساسييّْن، يديران التفاوض حول قسمة السلطة بفرض الأمر الواقع: مؤسسة الجيش باعتبارها أزاحت البشير وباعتبار مسؤوليتها عن حفظ الأمن، ومجموعة مدنية معارضة تصدرت الحديث باسم الشعب دون اختيار منه. وكان مقتضى الضمير الثوري أن تطرح الثقة عن نفسها وتترك الاختيار للشعب فى منافسة عادلة تكسبها شرعية غير منقوصة.

وخارجياً تبرز حركة محمومة للمتدخلين أعداء الربيع العربي في الشأن السوداني زيارات مشبوهة، وإغراءات مال، وشراء ولاءات، وعمالة لدول قاومت ومازالت ثورات مصر وسوريا وليبيا واليمن وغيرهم. وسعوا لاستلاب كل سلطة من يد الشعب، وتسليمها لحاكم تابعٍ للركب “الصهيوعربى”، يقدم الأرض والعرض والثروة، ويمسخ الدولة وهويتها، ويضمها إلى الحظيرة الإسرائيلية كما فعل السيسي لمصر.

وبعض الشعب السوداني للأسف توقفت ثورته عند لحظة إزاحة البشير، وجلس ينتظر الثمار، ويرقب الحراك التدخلي دون بأس أو قلق. شجعه على ذلك الخديعة بتهليل هذه الدول لإزاحة البشير باعتبار إزاحته كانت هدفاً مشتركاً بينهما مع اختلاف دوافع الإزاحة. إضافة -وللأسف- إلى ضغط الحاجة للمساعدات المالية. علما بأن خبرة المساعدات السعودية والإماراتية فى مصر واليمن وسوريا وليبيا، هي مساعدات الموت للشعب، ومد النفوذ، والسطو على المقدرات.

وإعلاميا يبدو أن حصر المشهد بين فاعليّن اثنين: طرف عسكري وآخر مدني، مقصود لعزل باقي قوى الشعب. فالدفع وراء شخصيتين عسكريتين والنفخ في شأنهما، واستضافتهما في مصر والسعودية والإمارات، فيه تضخيم لحالة “الزعامية العسكرية”، ربما للتشجيع على لعب دور مختلف في أجندة الدول ربما ضد المجلس العسكري ذاته، وربما ضد الشعب وخبرة الحالة المصرية في ذلك قريبة وحاضرة.

ومدنيا يتم تكريس وتضخيم رمزية “قوى الحرية والتغيير” إعلامياً كمعبر   وحيد عن الثورة، لتستبدل الأخيرة الشرعية الشعبية بالشرعية الإعلامية. يبدو ذلك من احتفاء قنوات السعودية والإمارات، الأمر الذي يلقى بظلال الشك على تلك القوى وأجندتها.

وقد ظهر جلياً الإغراق والتركيز الإعلامي السعودي والإماراتي حول هذين الطرفين العسكري والمدني للعب دور مرتبط بأجندة تلك الدول في مشهد لم يكتمل. في وقت توجد قوى شعبية أخرى يتم تغييبها إعلاميا وفى ساحة التفاوض، أو مغيبة ذاتياً باعتبارات غير مقبولة كثقة بعضها الواسعة في المؤسسة العسكرية كما حدث في مصر.

وثيقة التغيير: الشعب للصور.. والحكم لنا

وفى هذا المقال أكتفى بإشارات من وثيقة الحرية والتغيير كدليل على حالة التغييب الشعبي أو الإنكار لقواه المشاركة في الثورة. فكأن ما حدث هو حركة احتجاجية سياسية معارضة، استغلت انقلاب الجيش على الرئيس وليس ثورة شعبية. وكأنه لا توجد قوى مدنية سوى مجموعة اليسار المعارضين في البرلمان، وكأن الإسلاميين والمؤسسة العسكرية التي بناها البشير على مدار 30 عاماً، لم يتحولوا ضد البشير ويثوروا عليه ضمن من ثاروا، ويطرحوا رؤى أخرى للتغيير.

وخلاصة وثيقة التغيير المتفاوض عليها أنها عزلت الشعب عن عملية التغيير، واستبعدته من بسط يده على مؤسسات الحكم، واختيار نواب البرلمان، وواضعي الدستور، وأعضاء الحكومة والسفراء، حيث منحت كل هذه الصلاحيات وأكثر لثلة غير منتخبة تدعى “المجلس السيادي”، وركزت كل السلطات في يده. فأي ثورة شعبية هذه؟!!! وهل خرج الشعب السوداني ليستبدل ديكتاتورية بديكتاتورية؟

فالطبيعي فى الثورات الشعبية أن مجلساً يدير البلاد بشكل استثنائي لمدة قصيرة تُعد بالشهور، كفترة انتقالية لإدارة الملفات اليومية العاجلة للأمن، وتسيير حياة المواطنين. والإشراف النزيه على إنجاز استحقاقات شعبية يشارك فيها كل الشعب، لاختيار البرلمان والرئاسة والدستور.  ولا يتم البت في المراحل الانتقالية بشأن قضايا نظام الحكم والدولة وهويتها ودستورها ولا يتم الإفتئات على حق الشعب في اختيار أي منها، ولا يؤجل أربع سنوات كما جاء في الوثيقة.

فالثورات تقوم ضد نظام الحكم والمعارضة جزء منه لتمكين الشعب، لا لتمكين فئة معارضة من الحكم. وإن ركوب فئة معينة بخلفية أيديولوجية لهى صورة من صور الانتهازية السياسية المقيتة، تتخذ من الحالة الثورية مطية لبلوغ أغراضها.

إن أربع سنوات انتقالية لسلطة مفروضة، لا اختيار للشعب فيها، وبرلمان يأتي بالتعيين من قبلها، لفرصة كافية لتبسط منظومة ديكتاتورية جديدة سيطرتها على القضاء والشرطة الإعلام والثقافة والاقتصاد. وتمارس الثأر السياسي من الإسلاميين والتنكيل بالمخالفين.  وبعدها تعود السودان للانتخابات الصورية والاستفتاءات الديكوريه التي ثارت عليه، ولا عزاء للشعب وثورته، لنتحدث عن حقوق الشعب بعد ثلاثين عاما أُخَر.

هنا ترد السلطة أو تسرق الثورة

وخبرة الربيع العربي ومآلاته أكدت ما قاله المسيري رحمه الله من.. “أن الثورات تقوم بها الشعوب وتفوز بها القوى المنظمة”. والرهان على الشعب السودانى أن يقدم نموذجاً مغايراً، ويتصدى لمحاولات عزله؟؟ أتصور أن قوى الشعب الواعي المتماسك المتفاعل، والمنظم بقدر يستعصي على الفوضى والفرقة، قادر على إنجاز ثورة ناجحة وعلى فرض إرادته الحرة. ولا أتصور أن شعب السودان يقبل أن تكون ثورته “مطية”، ينتقل خطامها من ديكتاتور إلى ديكتاتور.

والمشهد السودانى الآن يتوزع بين قوى منظمة في الخارج تعمل قفازا لليد الصهيونية تتواصل مع الداخل السودانى للتأثير فيه، وقوى مدنية سودانية كبيرة ترقب الموقف ولا تدلوا بدلوها لدفع شراع الثورة بعيداً عن المحور الصهيوعربى.  ومتحدثون باسم الثورة حتى تاريخه لا يعبرون عن ضميرها، وأثبتوا بوثيقتهم “النخبوية السلطوية” أنهم سلطة فوق سلطة الشعب، وهو سقوط في أول اختبار للتغيير. فهل يدخل الشعب بفاعلية ليحافظ على الثورة ويكمل عملية تغيير تنتمي للضمير الوطني.

ان إسقاط الحاكم، ما هو إلا خطوة أولى تتبعها خطوات يجب أن تفرض فرضاً على من يدير المرحلة الانتقالية. وهي المطالبة باستحقاقات “رد السلطة” إلى الشعب: فى “برلمان” يختاره الشعب، و”رئيس مدني” يختاره الشعب، ولجنة وضع دستور يختارها من ينوب عن الشعب، ودستور يُستفتى الشعب عليه، ليبني الشعب مؤسسات دولته على عينه. بعيد عن هوى الداخل وإملاءات الخارج.. هذه خارطة الطريق قبل أن تصبح الثورة السودانية دروس وعبر.

الوسوم

خالد عاشور

إعلامى مصرى ورئيس تحرير المرصد بالمعهد المصري للدراسات.. حاصل على دبلوم الاتصال والتسويق السياسي ودبلوم العلاقات الدولية ومؤسس شبكة مراسلون وعضو سابق لمجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى بمصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى