fbpx
ورش ومحاضرات

بعد 9 سنوات من الانقلاب: مصر ـ واقع مأزوم ومستقبل غامض

نظم المعهد المصري للدراسات في 14 يونيو 2022 ورشة عمل في إطار “منتدى الحوار الاستراتيجي”، حضرتها مجموعة متميزة من المحللين والخبراء في الشأن المصري، في مسعى لمحاولة فهم ما يحدث في مصر حالياً، من حيث التحولات والمسارات، حيث شهدت مصر خلال الأشهر القليلة الماضية العديد من الأحداث والتحولات السياسية والاقتصادية الداخلية، التي ارتبطت في جانب منها بتحولات إقليمية ودولية، كان لها تأثيراتها وتداعياتها على النظام الحاكم في مصر، وإداراته للملفات المختلفة، وكان من بين هذه الأحداث وتلك التحولات:

  1. الأزمة الاقتصادية الحادة التي يتعرض لها النظام، والتي تعددت مؤشراتها ومظاهرها وكانت محلاً لعدد من الأوراق البحثية والتقارير وأوراق السياسات التي نشرها المعهد المصري للدراسات، وكذلك عدد من الجهات الدولية، خلال الفترة الماضية، والتي من غير المنتظر أن تشهد أي انفراجة في المستقبل المنظور، بل من المتوقع أن تزداد تفاقما، في ضوء الأزمة الاقتصادية العالمية المتصاعدة وتداعيات الحرب في أوكرانيا وكذلك عدم قدرة النظام المصري على التعامل مع هذه المتغيرات بعد استفحال الأزمة بشكل كبير.
  2. خروج بعض الشخصيات من داخل بنية النظام أو خارجه تتحدث عن صور لفساد مالي وإداري وأخلاقي، وتنشر العديد من الفيديوهات والحوارات، وما تقول إنه وثائق ومستندات تدين بعضا من أهم الشخصيات الفاعلة في النظام.
  3. الاهتمام الإعلامي والسياسي المكثف بمسلسل (الاختيار – 3)، وخروج رأس النظام بنفسه في أكثر من مناسبة للإشادة به، وبالتأكيد على ما جاء فيه، ووصل الأمر لدرجة الربط بين المسلسل وأحداثه وتسريباته وسيناريوهاته بل وإخراجه، برأس النظام مباشرة.
  4. تعدد الأحداث الأمنية الغامضة التي شهدتها شبه جزيرة سيناء وسقوط العشرات بين قتيل ومصاب، سواء من الأجهزة الأمنية والعسكرية، أو أبناء القبائل المحسوبين على النظام، أو ممن يقول عنهم النظام إنهم “إرهابيون” يهاجمون معسكراته الأمنية والعسكرية.
  5. إعلان رأس النظام عن مبادرة للحوار السياسي لأول مرة منذ انقلاب 2013، وتكليف “الإدارة الوطنية للتدريب” بالإشراف الإداري والتنظيمي على عملية الحوار، ثم لاحقاً تكليف ضياء رشوان، نقيب الصحفيين السابق، منسقاً عاما للحوار، وما ارتبط بهذه المبادرة من مناقشات وجدالات وردود أفعال بين السياسيين المصريين في الداخل والخارج.
  6. إعلان رأس النظام عن تشكيل ما أسماه “لجنة العفو السياسي”، للنظر في أمر المعتقلين السياسيين، وما ارتبط بهذا الإعلان من إفراجات عن عدد محدود من الشخصيات العامة، ولكن في المقابل شهدت نفس الفترة عددا من الاعتقالات الجديدة، وصدور أحكام مشددة ضد عدد من الشخصيات، كان أبرزها المرشح الرئاسي السابق د . عبد المنعم أبو الفتوح، والإعلامي أحمد طه، والشيخ محمود شعبان، وغيرهم .
  7. خروج عدد من الاحتجاجات الرافضة لسياسات النظام، في عدد من القطاعات وعدد من المناطق، مثل ماسبيرو والوراق، وأسوان والإسكندرية، ترافق معها نوع من التحدي الواضح من المواطنين للأجهزة الأمنية.
  8. انخفاض قيمة العملة المصرية أمام الدولار، وارتفاع نسبة التضخم، وما ارتبط بذلك من ارتفاعات كبيرة في الأسعار، لكثير من السلع والمنتجات والخدمات.
  9. اتجاه النظام لعرض الكثير من الأصول الاقتصادية للبيع في محاولة للخروج من أزمته الاقتصادية المتفاقمة كبديل وحيد لتوفير العملة الأجنبية اللازمة لتوفير الاحتياجات الأساسية وسداد المستحق من الديون الخارجية ذات الحجم غير المسبوق.

محاور الندوة:

في ظل الاعتبارات السابقة، وبجانب العديد من الأحداث الأخرى، التي تصب في المجرى العام لفشل النظام سياسياً واقتصادياً وأمنياً، برزت عدة تساؤلات شديدة الأهمية في هذه المرحلة، من بينها:

أولاً: كيف يمكن فهم ما يحدث في مصر الآن؟

ثانياً:إلى أي مدى يمكن أن تؤثر هذه الأحداث وتلك التحولات على حالة الاحتقان والغضب الداخلي ضد قوى النظام من ناحية، أو على المستوى الشعبي العام من ناحية أخرى؟

ثالثاً:ما مدى قدرة النظام على احتواء هذه الأزمة وإدارة تلك التحولات؟

رابعاً: ما هي سيناريوهات تطور هذه الأحداث وكيف يمكن للقوى السياسية في الداخل والخارج التعاطي مع هذه السيناريوهات وتلك التحولات؟

أهداف الندوة:

في أعقاب الندوات السابقة اللتي نظمهما منتدى الحوار الاستراتيجي بالمعهد المصري للدراسات ، وتم نشرهما على ثلاث أجزاء، الأول والثاني والثالث، في مارس 2022 عن أزمة أوكرانيا وتداعياتها على منطقة الشرق الأوسط، بمشاركة مجموعة من المفكرين والخبراء والأكاديميين المتخصصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية، والدراسات الحضارية، اقترح بعض المشاركين اختيار أهم الموضوعات التي أثيرت آنذاك وتناولها بمزيد من التركيز والتحليل، بدءا بالملف المصري.

وجاءت التطورات الكبيرة والكثيرة التي حدثت خلال شهري أبريل ومايو 2022، داخلياً وإقليمياً ودولياً، من الأهمية بمكان بحيث يمكن أن يترتب عليها تغيرات وتحولات كبيرة في المنطقة بصفة عامة، وفي مصر على وجه الخصوص. لذلك جاء تنظيم هذه الندوة في هذا التوقيت، لاستعراض المتغيرات التي تحدث على الساحة من ناحية، ومحاولة استشراف مستقبل الأوضاع في مصر بشكل عام في ضوء هذه المتغيرات، من ناحية ثانية.

وهنا تجدر الإشارة، على سبيل المثال، أن في محور التحولات الاقتصادية المصرية، نشر المعهد المصري للدراسات 4 دراسات موسعة، الأولى بعنوان (الاقتصاد المصري 2022 ـ 2025: قراءة استشرافية)، والثانية بعنوان (الاقتصاد المصري وخطر الإفلاس: المؤشرات والمآلات)، والثالثة بعنوان (الديون المصرية في تقرير ستاندرد آند بورز: دلالات ومآلات)، والرابعة بعنوان (إفلاس سريلانكا والوضع الاقتصادي في مصر: دراسة مقارنة). ويمكن الوقوف عليها مباشرة عبر الموقع الرسمي للمعهد، لذلك لم يكن ضمن أهداف الورشة تحليل الوضع الاقتصادي في مصر بالتفصيل إلا بما يخدم أهداف الندوة. وكذلك الأمر في المحاور الأخرى.

مقدمة:

في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تشهدها مصر حالياً بشكل غير مسبوق، يكتسب المحور الاقتصادي أهمية كبيرة، في ظل تطورات تراكمت على مدى سنين طويلة لأسباب عديدة، سواء فيما يتعلق بحجم الديون أو عدم كفاية الإيرادات، وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي، وخفض قيمة العملة، وارتفاع نسبة التضخم، بالإضافة إلى تأثيرات وتداعيات جائحة كوفيد-19، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا. وبالإضافة إلى ذلك، فالبلاد تستورد معظم حاجياتها من الغذاء، وهذا يتطلب بالضرورة توفر عملة صعبة هي من الأساس ليست متوفرة، كل هذه العوامل مجتمعة وغيرها قد تدفع البلاد إلى حافة الإفلاس المحتمل التي يتحدث عنها كثير من المحللين.

ولم يقتصر الحديث عن هذا الوضع الاقتصادي المتردي، بالإضافة إلى الالتزامات المالية للبلاد، من ديون وخدمة ديون وغيرها، والحاجة إلى الوفاء بها، على القوى المعارضة للنظام، بل يتردد أيضاً في أروقة النظام نفسه، ويتناوله كثير من المحسوبين على النظام وأعمدته ومؤيديه. فعلى سبيل المثال، لا يفتأ وزير المالية يكشف عن الوضع الصعب الذي يعيشه الاقتصاد المصري، ومن بين تصريحاته، إن مجرد زيادة أسعار الوقود والقمح سيترتب عليها زيادة حوالي عشرة مليارات من الدولارات على الأقل كالتزامات إضافية في الميزانية، وأن أغلب الأموال الساخنة خرجت من مصر بالفعل، وأننا نستغيث بالعالم “قبل أن يموت الشعب من الجوع”. وكذلك ما تحدث عنه الإعلامي المقرب من النظام “عماد الدين أديب” عن الحاجة الشديدة إلى تلقي أموال ضخمة من الخليج، دون أن يخلو مقاله من تهديد مبطن وابتزاز لدول الخليج وأوروبا، مهددا بموجات من الهجرة عبر البحر المتوسط والبحر الأحمر، حيث تكفي الاحتياطات النقدية بالكاد عدة أشهر كما ذكر، وعليه فإذا لم تتلق مصر بشكل عاجل حوالي 25 مليار دولار – في حين يقدر البعض بأن البلاد بحاجة فعلية إلى ما لا يقل عن 150 مليار دولار، لا يعلم أحد كيف يمكن تدبيرها – فقد يحدث ما لا يحمد عقباه.  وقد تطرق السيسي نفسه إلى أغلب هذه المضامين وأشار إليها بوضوح.

وفي هذا السياق، هناك شيء مثير للاهتمام يجري في مصر لا تخطئه العين ويرصده الجميع منذ عدة أشهر وزادت كثافته بشكل كبير مؤخرا، هو تجرؤ الكثيرين على نشر فيديوهات تتكشف فيها بعض جوانب الفساد المستشري في مصر بشكل غير مسبوق في حقيقة الأمر، سواء من حيث المحتوى من ناحية حجم الفساد واتساعه، أو من حجم التشويه الذي يتعرض له رموز النظام وعلى رأسهم السيسي نفسه، بشكل لم يحدث من قبل، وهو ما يمكن اعتباره مسعى لاغتيال معنوي لشخصية السيسي ومن يحيطون به، وعلى رأسهم بالطبع محمود السيسي، نجله، وغيرهم.

من الواضح أن هناك تسريبات لمعلومات حساسة من أطراف معينة داخل جهات سيادية هامة، وأن هذه الجهات يبدو أنها قد حزمت أمرها بتكثيف الهجوم على النظام استغلالا للوضع الحرج الذي يمر به حاليا، أملا في أن يؤدي هذا بشكل أو بآخر إلى إسقاطه أو دفع قوى من داخل النظام لتقوم بذلك، أو على الأقل المساومة ببعض الملفات للحصول على بعض المزايا والمكتسبات، ولكن لا أحد يعلم شيئاً عن مدى قدرة هذه الجهات أو إمكانية نجاحها في هذا المسعى، ولكن الواقع أن الكثيرين بدأوا يتجرؤون على نشر فيديوهات من هذا القبيل، مما يستلزم ضرورة العمل على متابعة ومحاولة فهم مثل هذه الظاهرة ومن يقف وراءها.

أيضا، هناك موضوع الحوار الوطني الذي أثاره السيسي ومنظومته، والذي من الواضح أنه جاء نتيجة الضغوط المحيطة بالنظام على مختلف المحاور، حيث اضطر اضطراراً إلى الإعلان عن مثل هذا الحوار، أو نُصح بأن يلجأ إليه، بصرف النظر عن جدية الحوار من عدمها. وهو موضوع هام يستوجب أيضاً التحليل، باعتباره خطوة لم يكن النظام يلجأ إليها من قبل.

هناك أيضا موضوع العفو الرئاسي وما يحيط به من ملابسات، مع اعتبار أن لجنة العفو الرئاسي موجودة منذ سنوات طويلة وكان بترتب عليها إخلاء سبيل بعض الأفراد، ولا يزال حتى الآن يتم الإفراج عن أعداد قليلة جدا من المعتقلين، مع إمكانية القبض على آخرين، وقد يكونون بأعداد أكبر، ليحلوا محلهم. لكن إلقاء الضوء عليها بقوة الآن يؤكد أن هناك ما يستدعي إعطاء انطباع عام بأن هناك نوع من حلحلة الموقف الحقوقي الداخلي.

لذلك، يمكن القول إن هناك متغيرات كثيرة في المشهد المصري، سواء على المستوى الاقتصادي، أو المستوى السياسي، أو على المستوى الأمني، أو على المستوى المجتمعي، أو على المستوى الإعلامي، جميعها تحتاج إلى الفهم والتحليل، في إطار الصورة الكلية، دون الاستغراق في كثير من التفاصيل لكل عنصر، لتوضيح انعكاسات ذلك على أرض الواقع للمشهد المصري.

وفي إطار هذه السياقات تبرز مجموعة من التساؤلات، منها: هل يمكن أن يؤدي الوضع الاقتصادي الحالي بالفعل إلى اضطرابات اجتماعية أو سياسية يمكن أن يحدث نتيجة لها نوع ما من أنواع التغيير؟ أم أن النظام يمكنه استيعاب هذا الأمر؟ هل يمكن أن تؤدي المساعدات التي تأتي من الدول الداعمة للنظام والمستمرة كما يبدو حتى الآن، إلى إحداث توازن بين المتطلبات الاقتصادية الضخمة جدا التي ينبغي توفيرها وبين المتاح بالفعل على أرض الواقع، بحيث يمكن إنقاذ النظام من مصيره؟ وهل المشكلة الاقتصادية وحدها كافية لأن تؤدي في النهاية إلى إحداث تغيير؟ هل تستطيع القوى التي تحاول استهداف النظام – والتي لا يعرف أحد مدى قوتها أو قدرتها – على إحداث تغيير ما؟ هل تستطيع تلك القوى – التي من الواضح أنها أطراف داخل النظام أو ارتبطت به في وقت من الأوقات – من خلال ما تقدمه من معلومات، سواء ثبتت صحتها كلياً أو جزئيا، أن تغير المشهد؟ هل يمكن أن يصل الحوار الوطني، الذي اقترحه السيسي، إلى شيء ما ملموس؟ هل يمكن حدوث إصلاح حقيقي للمنظومة الداخلية لتجنب مصير قد يكون محتوماً للسيسي ومنظومته، عن طريق إيجاد بديل ولو حتى شكلي؟

ولذلك، تحاول هذه الندوة تناول هذه الموضوعات من منطلق كلي، مع التركيز على المآلات المحتملة لهذه المتغيرات، والسيناريوهات المتوقع حدوثها، وما المطلوب أن تقوم به القوى المعارضة للنظام الحالي في مصر، للاستفادة من الفرص المتاحة، إن كان هناك أي منها، لإحداث تغيرات إيجابية مطلوبة بدرجة أو بأخرى.

تحليل المشهد المصري:

يرتبط تحليل المشهد المصري الحالي ومآلات مستجداته الأخيرة ومدى تأثير ذلك على مصير النظام الحاكم بعدة عوامل يمكن النظر فيها من خلال سياقين منفصلين كما يرى محللون: أحدهما هو السياق المحلي والذي يشمل مجموعة من التحولات المهمة أو مجموعة من الأحداث والتي لا يمكن الفصل فيما بينها سواء كانت على الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك، ولكنها شبكة من التفاعلات اللي برزت في المشهد المصري خلال الشهور الماضية. وعلى الجانب الآخر، هناك السياق الإقليمي الذي يتحرك فيه النظام المصري، حيث يعتبر جزءا من كتلة أو تحالف غير مرئي وغير مسمى لكنه فعلي وقائم بالفعل بين مجموعة من النظم والدول العربية والإقليمية، ثم السياق الدولي المحيط بكل هذه التفاعلات.

أولاً: المشهد المصري في السياق الداخلي

في إطار متغيرات المشهد المصري والتي حدثت في الفترة القليلة الماضية وتأثيرها على الصعيد المحلي، فإن المحور الاقتصادي هو محور في غاية الأهمية، حيث يتحدد مستقبل النظام بما يحققه من نتائج على الجدارة الاقتصادية المتحققة على مستوى معيشة الأفراد، بينما تشهد مصر حالياً وبشكل غير مسبوق أزمة اقتصادية طاحنة. وقد كان الجانب الاقتصادي هو صاحب أبرز المتغيرات وصاحب التأثير الأكبر على بقية الجوانب الأخرى وإن تداخل معها وارتبط بها ارتباطا وثيقا.

حيث يرى محللون للمشهد المصري أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة غير المسبوقة والتي تفاقمت بفعل تراكمات سنوات طويلة وتأثرت أيضا بوباء كوفيد-19 ثم تلاه تأثير الحرب الروسية-الأوكرانية، في ظل عوامل تدل على وضع اقتصادي غير مسبوق وله شواهد غير مسبوقة أيضا سواء كانت متعلقة بحجم الديون أو عدم كفاية الإيرادات للإنفاق على خدمة الديون، أو ما وصل إليه الاحتياطي الأجنبي فعليا، بعيدا عن الأرقام الرسمية، ليصبح بالسالب إذا ما تم خصم الالتزامات منه. وهناك أيضا الاضطرار إلى استيراد أغلب المواد الغذائية، في ظل حاجة البلاد إلى العملة الصعبة، حيث معظم ما يستهلك محليا هو مستورد بالأساس من الخارج بالعملة الصعبة.

وفي نظرة تحليلية متعمقة تحاول تحديد أصل المشكلة الاقتصادية في مصر يرى خبراء في الاقتصاد أن الاقتصاد المصري منذ السبعينات وحتى الآن يعاني من مشاكل جوهرية، ثم تأتي بعد ذلك أعراض هذه المشاكل أو هذه الأمراض، فيتفاوت أداء الحكومات في مواجهتها من وقت إلى آخر؛ حيث لا تعدو أن تكون مجرد مسكنات تأتي للتعامل مع تلك المشاكل الاقتصادية في مصر، قد تستطيع أن تمرر بها النظام بعض الوقت، ولكنها لا تعالج تلك المعضلات من الأساس.

وفي هذا السياق، فهناك ثمة اتفاق بين فريق من الاقتصاديين، سواء كانوا أصحاب توجه اشتراكي أو رأسمالي، على أن المشكلة الاقتصادية الرئيسية في مصر تكمن في حقيقة أن مصر دولة غير منتجة. فحينما يُنظر إلى بيانات الناتج المحلي الإجمالي في مصر يلاحظ أن الاستهلاك يشكل 95% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، بغض النظر عن الرقم الذي يعكسه الناتج من سنة إلى أخرى، وتبقى الـ 5% المتبقية في أداء صافي العلاقة مع العالم الخارجي في الصادرات والواردات الخدمية والسلعية وكذلك الاستثمار.

قد يذهب البعض للقول إن ارتفاع نسبة الاستهلاك شيء إيجابي، حيث إن الاستهلاك يؤدي إلى عمليات التشغيل والإنتاج وزيادة الاستثمار. قد يكون هذا صحيحاً في الوضع الطبيعي، لكن في حالة مصر فإنها تعتمد في هذا الاستهلاك المرتفع على الاستيراد من الخارج بنسبة كبيرة، بما يُمثل حوالي ثلثي احتياجات مصر الاستهلاكية. فاذا نظرنا إلى الصناعة مثلا، فكل العدد والآلات وقطع الغيار يتم استيرادها من الخارج، وجزء كبير من مستلزمات الإنتاج يأتي من الخارج، فضلا عن أن مصر لا تنتج التكنولوجيا.

وإذا نظرنا إلى مصدر ريعي رئيسي، وهو تحويلات المصريين العاملين في الخارج، فالمصريون المهاجرون في الخارج حسب آخر إحصائية يبلغ عددهم نحو عشرة ملايين شخص؛ وآخر رقم للتحويلات التي تمت إلى مصر من خلالهم هو ثلاثون مليار دولار. مع العلم أن هذه التحويلات تخص حوالي خمسة ملايين أسرة مصرية بمتوسط عدد أفراد (خمسة أفراد) في كل أسرة. فنحن نتحدث إذن عن قرابة الثلاثين مليون شخصاً يتم تدبير أمور معاشهم من الخارج بشكل كبير.

وهذه مشكلة رئيسية طرحت في معالجات عديدة منذ مؤتمر الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع في عام 1989، في مسألة ضرورة توجيه السياسة الإنتاجية للإحلال محل الواردات ولكن لم يؤخذ بهذا، بل على العكس تم التخلص من العديد من الصناعات وإنتاج الخدمات في مصر عبر برنامج ممنهج للخصخصة في كثير من الصناعات وإنتاج الخدمات في مصر، ليتم التركيز على الاستيراد من الخارج.

وتتفاقم الأعراض الناتجة عن هذه الظاهرة، كما يرى خبراء في الاقتصاد، من خلال العجز الموجود في الموازنة العامة بسبب ارتفاع نسبة الديون للدخول في حلقات مفرغة أو حائط سد، في انتظار أن يأتي العلاج من الخارج، حيث اعتمدت مصر على المعونات الخارجية باختلاف مصادرها منذ بداية السبعينيات حيث كانت مصر تعتمد على المعونة العربية بشكل كبير بما يقدر بحوالي ستة وثلاثين مليار دولار في السنوات الخمس التالية لانتصار أكتوبر 1973،  ثم حلت محلها المعونة الأمريكية بمبلغ مماثل حتى نهاية الثمانينات، لتأتي الحلول لاحقا عبر المسار الخليجي، من خلال أزمتي الخليج الثانية والثالثة حينما شارك الجيش المصري في تحرير الكويت، وأيضا حينما سمحت مصر في 2003 باستخدام قناة السويس وأشياء أخرى إبان احتلال أراضي العراق في عام 2003.

وتتكرر الآن محاولة النظام للعودة لهذه الحلول المسكنة جزئيا والتي قدرها الإعلامي عماد الدين أديب بخمسة وعشرين مليار دولار يجب الحصول عليها فورا من دول الخليج، وذلك على الرغم من المساعدات الخليجية التي حصل عليها النظام المصري منذ انقلاب يوليو 2013 وحتى الآن، وكذلك القروض الخارجية المتكررة.

رغم كل هذه المساعدات والقروض التي تحصّل عليها النظام، بقيت المشكلة قائمة كنتيجة حتمية لسوء إدارة الموارد الاقتصادية، سواء كانت الموارد الطبيعية، أو الموارد المالية، أو الموارد البشرية بمكوناتها جميعا، في ظل هجرة الكفاءات، على سبيل المثال ما يتم تداوله عن نزوح الأطباء، أو في مسألة استيراد التكنولوجيا. وهناك أيضاً حالة من الإهدار للقروض الخارجية في مشروعات بنية أساسية غير ضرورية في العاصمة الإدارية الجديدة مثلا، بالإضافة إلى الفساد في توظيف هذه الأموال؛ ويمكن أن يكون نموذج “الحاج سعيد” كاشفا، في إسناد كوبري تكلفته 2.5 مليار جنيه  بالأمر الشفهي في مؤتمر صحفي دون اعتبار لقانون المناقصات والمزايدات أو حتى أي قانون.

وعلى مثل هذا النهج صارت الأمور فيما يتعلق بالتسليح وبالمشروعات الكبرى. وهذه محطات الكهرباء التي تم التعاقد عليها مع شركةSiemens   بعد انقلاب 2013 بنحو عشرة مليارات دولار، ثم أصبحت عبئاً على النظام الآن، في ظل وجود فائض في إنتاج الكهرباء يعجز عن تسويقه؛ وفي نفس الوقت عليه التزامات لشركة Siemens واجبة السداد وهو يعجز عن سدادها بالفعل ثم يتجه للعديد من التعاقدات الخارجية سواء كان في المجالات العسكرية أو في مجالات البنية التحتية غير الضرورية في الوقت الحالي.

وفي ظل شكواه المتكررة من الأعباء المالية وعدم توافر الموارد وحالة الركود الموجودة في الاقتصاد، لجأ النظام المصري مجددا إلى التعاقد مع ذات الشركة من أجل تنفيذ القطار الكهربائي. لتتأكد مرة أخرى حقيقة أن المشكلة الرئيسية هي أن مصر لا تنتج وليس لديها إرادة سياسية حقيقية لتحقيق مشروع التنمية على الرغم من الخبرات المتوفرة لديها، في ظل الإصرار على استخدام النموذج الذي يعتمد على المباهاة لبعض المؤشرات النقدية والمالية دون الدخول في المهمة الرئيسية، وهي الإنتاج.

النظام وخياراته في مواجهة الأزمة

إن النظام المصري، وفق ما يراه محللون للمشهد القائم، يعاني حالياً من أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة، هذه الأزمة قد تؤدي إلى تبعات سياسية خطيرة ما لم يستطع النظام أن يستوعبها بشكل أو بآخر. وقد استدعى ذلك محاولة بعض المراقبين للمشهد حصر الخيارات الناتجة عن ذلك، ودراسة ما إذا كان هذا النظام قادرا على استيعاب هذه الأزمات بشكل حقيقي. وحتى إذا ما أراد بالفعل ذلك، فهل يتطلب ذلك أن يتم من خلال دفع ثمن ما؟ وهل يمكن إن يكون جزء من هذا الثمن سياسيا؟ وهل للثمن السياسي هذا سقف مرتفع أو منخفض؟

وقد ذهب بعض المراقبين إلى أنه حتى لو قام النظام بعمل بعض التغييرات الشكلية السياسية من أجل امتصاص حالة الاحتقان والرفض الاقتصادي والاجتماعي الموجودة، وهو ما يستبعد كثيرون حدوثه، فستظل الأزمة موجودة، حيث يرون أن النظام المصري لا يفكر بطريقة استراتيجية لإنهاء الأزمة الحالية.

وعلى الرغم من أن هذه الأزمة قد تبدو اقتصادية اجتماعية إلا أن جذورها سياسية، حيث إن هذا النظام يحكم بطريقة سلطوية تجعل الأصل في هذه الأزمة سياسي بحت، حتى وإن كان ما يظهر للوهلة الأولى يبدو بخلاف ذلك. فجزء رئيسي من الأزمة الحالية كما وصفه محللون – حتى مع الأُخذ بالاعتبار الشق الاقتصادي – هو متعلق بفشل السياسة الاقتصادية للنظام الحالي، والذي يعتمد بالأساس على الاقتراض الشره ولا يستمع إلا لصوته، ولا يرى إلا نفسه، وبالتالي فإنه هو أصل الأزمة السياسية.

وهو ما اضطر النظام لاحقا بعد تفاقم هذه الأزمات إلى البدء بالدعوة إلى الحوار الوطني، مما اعتبره محللون مؤشرا على احتمالية كون هذه الأزمة الاقتصادية مدخلا للتغيير السياسي، كما حدث في حالات أخرى من قبل، مثلما حدث في الربيع العربي، حيث ارتكزت مطالبه على الحرية والتغيير، لكن أصل الموضوع كان اقتصاديا اجتماعيا سواء كان في مصر أو في تونس أو في حتى ما يطلق عليه الموجة الثانية للربيع العربي. فدائما ما كان المدخل اقتصاديا بالأساس وذلك لأن الثقافة السياسية العربية من الممكن اعتبارها محدودة نوعا ما، حيث ينتبه المواطن العادي بشكل أكبر إلى لقمة العيش أكثر من اهتمامه بوجود انتخابات حرة نزيهة. مما يلقي عبئا على عاتق القوى السياسية في كيفية التعاطي مع هذه الأزمة، أي تحويل هذه الأزمة الاقتصادية إلى فرصة تغيير سياسي، وهذا يُعتبر تحديا يجب مواجهته.

وهنا ذهب البعض إلى القول إنه لا مانع من أن يتم التحول بهذه الطريقة، بحيث تنتقل هذه الأزمة من بعد اقتصادي إلى بعد سياسي، شريطة أن تبدأ بعض التشققات داخل النظام نفسه، أو أن تكون هناك حالة قلق أو انقسام داخل بيئة النظام نفسه. وحينها كيف سيتم التعاطي مع هذه الأزمة؟ هل التعاطي معها سيكون بالشكل التقليدي عن طريق المسكنات، سواء مسكنات مالية أو اقتصادية؟ أم انه في حاجة إلى إعادة تفكير كامل في طبيعة تعاطي النظام مع هذه الأزمة من خلال فتح مساحة حقيقية أوسع للتعاطي مع هذه الأزمة وإشراك القوى الأخرى بشكل حقيقي؛ أو تحول هذه الأزمة الاقتصادية إلى فرصة سياسية؟ وهذا هو التحدي الحقيقي الذي تواجهه القوى السياسية. لكن هذا يعني أنه لابد أن يأتي الدفع من أطراف داخل النظام المصري نفسه، حيث يمكن أن تكون هناك حاجة إلى وجود قوى أو اطراف معينة لديها قدرة على عملية التعبئة السياسية بدوافع اقتصادية، وهذا ما تفتقده الساحة السياسية المصرية.

وهذا الوضع قد يكون متاحا، وفق ما يرى بعض المراقبين، إذا ما بدأت بعض التشققات تحدث داخل النظام نفسه حول اختيار طريقة التعاطي الأمثل مع هذه الأزمة؛ فإما أن يتم ذلك بالشكل التقليدي باستخدام المسكنات كما ذكر سابقا، سواء مسكنات مالية أو اقتصادية، أو غيرها؛ أو أنه قد يلجأ إلى إعادة تفكير كامل في طبيعة تعاطيه مع هذه الأزمة، من خلال فتح مساحة حقيقية أوسع للتعاطي مع هذه الأزمة، وذلك من خلال إشراك القوى الأخرى بشكل حقيقي.

ففي هذه الحالة، إذا أحسنت المعارضة استغلال هذه التشققات بشكل جيد من أجل توسيع الهامش والضغط على النظام، خاصة مع ما يبدو من خلاف بين عدة أطراف أو تيارات داخل النظام، والتي كانت جلية خلال الفترة الماضية – من خلال تجرؤ الكثيرين على النظام سواء من خلال الفيديوهات التي تقدم محتوى عن حجم الفساد واتساعه، أو من كمية التشويه التي يتعرض لها رموز النظام وعلى رأسهم السيسي نفسه، أو ما أمكن استنتاجه من وجود خلاف داخل الأجهزة حول مستوى الحوار وأجندته ونطاقه. وهذا التشقق البسيط في حد ذاته يعكس أن النظام نفسه بحالة ارتباك سياسي تعكس تخوفه من فتح المساحة السياسية خلال سعيه للتعاطي مع الأزمة الاقتصادية.

لذلك يرى محللون أن مثل هذا الوضع قد يؤدي في النهاية إلى حدوث انقسام حقيقي داخلي في جسم النظام، عندما تصل بعض مكوناته إلى استنتاج أنه أصبح عبئا على المنظومة في إطارها الأوسع، لتتجه على إثر ذلك إلى محاولة تغيير النظام بوجه أو بآخر من داخل نفس المنظومة، في محاولة لإنقاذ الوضع ولو لسنوات قليلة، قبل أن تهوي المنظومة بشكل كامل ويهدد للوضع المترتب بأن يحل محلها بديل من خارجها. 

المشهد المصري في السياق الإقليمي

يرى محللون للمشهد المصري، في سياقه الإقليمي، أن النظام المصري يجب اعتباره جزءا من كتلة أو تحالف غير مرئي وغير مسمى لكنه فعلي وقائم بالفعل ما بين مجموعة من النظم والدول العربية والإقليمية القومية والتي كما وصفها محللون بـ “الدول الوليدة”، نتاجا لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى؛ تلك الدول التي استشعرت الخطر الذي بات يداهمها منذ عام 2011 حيث استوعبت أن ما حدث لم يكن لحظة انفجار عادية، أو لحظة انفجار جاءت نتيجة ظروف مرحلية، وإنما هي إرهاصات اقتراب نهاية طريقها اقتصاديا وسياسيا من حيث قدرتها على التنمية وحماية المصالح الوطنية وقدرتها على حراسة كرامة المواطن على كافة المستويات، لتقوم بردة فعل مضادة بدأت في عام 2013 من مصر، لتصل أخيرا إلى تونس، في محاولة حثيثة لتفادي مصيرها “المحتوم”، وفق ما يراه محللون، عبر إيجاد بدائل وتشكيل تحالفات إقليمية لدعم هذه البدائل لتستوعب حركة الثورة العربية. غير أنها لم تستطع أن تقوم بهذه المهمة، ولم تستطع أن تستفيد بالفرصة لإعادة بناء شرعيتها لدى الشعوب، وتحقيق إنجازات حقيقية تدعم موقفها لدى المواطن العربي، حتى لو تنازل عن جزء من حريته في مقابل ذلك، كما هو الحال عند النظام المصري، وهو وضع من الممكن أخذه كـ “نموذج” لحالة الفشل والتخبط في الأزمات منذ سيطرته على مقاليد الحكم في عام 2013. هذا النموذج الذي يحاول هذا التحالف دعمه وإبقائه على قيد الحياة، أملا في استكمال ما بدأه من قبل.

ولذلك كان من الصعب الحكم على أبعاد المشهد المصري أو مصير النظام فيه دون تناول الديناميات الأساسية الخاصة بذلك التحالف الإقليمي الذي يتموضع داخله النظام، والذي ناصب الثورات العربية العداء عبر مجموعة من الخيارات الاستراتيجية لهيمنة النخب على الشعوب، وهيمنة الدول على الشعوب، والتي تتم بشكل حاد وعنيف، دون اعتبار لأي شيء، من منطلق اعتبارها إياها مسألة بقاء، حيث إن هذه الأنظمة لديها أزمتان دائمتان بحكم خياراتهم  وبنيتهم؛ إحداها أزمة الشرعية من الناحية السياسية، والثانية هي أزمة سوء الأداء.

هذه الأنظمة تعاني باستمرار من أزمة الشرعية، حيث إنها قامت دون تفويض من الشعوب بأي طريقة قد تكتسب بها شرعية حقيقية، وهي أزمة مهيمنة على الوعي الكامل للحكام والمحكومين والمنظومة السياسية ومسيطرة أيضا على سلوكها. أما الأزمة الثانية فهي أزمة سوء إدارة، حيث إنها لا يمكن أن تقدم أداء جيدا على أي مستوى لعدم وجود مبررات أو مقومات لذلك.

هذه المنظومة، كما وصفها المحللون، مرتبطة بشكل رئيسي بمنظومة الحالة الاستعمارية التي كانت قائمة في وقت سابق، وهي تمثل امتدادا ووجها آخر من هذا الاستعمار الخارجي، حيث يُعتبر دورها الوظيفي هذا امتداداً للاستعمار، وهو مُعرف أساسي لمكانتها. هذه  الكتلة أو التحالف تدرك أن هناك تغيرا في توازنات القوى في هذه البنية الاستعمارية الأوسع، مما يحفزها على إعادة التموضع وفقا للمعطيات الجديدة، بما يخدم مصالحها.

لكن حالة الفوضى العالمية وعدم هيمنة إحدى القوى العالمية أوجد نوعا من الاضطراب في التموضع فقط دون تغيير في طريقة تعاطيهم مع واقعهم كامتداد لجهة استعمارية ما. هذا الواقع وهذه الخصائص المشتركة والدعم المقدم من هذا التحالف إلى بعضه البعض هو ما يتحكم بشكل كبير ويؤثر على طبيعة المشهد المصري، حيث يفسر توجه النظام في التعاطي مع أزماته الداخلية وخاصة الاقتصادية من خلال البحث عن  الإغداقات المالية والتي كانت تتدفق عليه من المانحين أو المقرضين، أو من خلال ادعاء مجموعة من المشروعات التي تعطيها طابعا وطنيا أو تنمويا كبيرا مثل قناة السويس أو العاصمة الجديدة أو تطوير العشوائيات، في محاولة منهم لتسكين الشعب باستخدام هذه الوعود التنموية التي استهلكت كافة هذه المنح والقروض.

ويرى محللون أن النظام المصري أصبحت لديه خيارات قليلة للتعامل مع الوضع الراهن متمثلة في البحث عن المزيد من الدعم بكافة صوره، على النحو الذي طرحه الإعلامي عماد الدين أديب، من مانحيه وداعميه الدوليين والإقليميين بما مقداره 25 مليار دولار تكون كفيلة بتسكين هذه الأزمة لعام قادم. الخيار الآخر الذي يلجأ له هذا النظام كما رصد متابعون للمشهد المصري، هو التوجه إلى تسييل وبيع الأصول بعد ضمها تحت الصندوق السيادي، لكن هذه الخطوة لن تنجح في تأمين احتياجاته لحل أزمته الاقتصادية، حتى إذا حققت مستهدفاتها المعلنة بخصصة أصول مصرية تصل قيمتها لنحو 40 مليار دولار خلال 4 سنوات.

لذلك يتوقع محللون أن تكون السنة القادمة هي الأصعب على النظام في ظل هذه الأزمة الاقتصادية وما قد ينتج عنها من مردود شعبي خاصة في إطار وجود أزمة إضافية تتفاقم سريعاً، وهي أزمة سد النهضة الإثيوبي وما قد ينتج عنه من آثار خلال الفترة القليلة المقبلة ما قد يعجل بإحداث تغيير في النظام سواء عن طريق بديل من داخله، أو من خلال القوى المعارضة، إذا ما كانت مهيأة للظهور كبديل في حال انهيار كامل للمنظومة الحالية.

المشهد المصري في السياق الدولي

كان لتسارع الأحداث الدولية وتطورها خلال الفترة القليلة الماضية تأثير على الأنظمة السلطوية في المنطقة، بما فيها النظام المصري وتفاعله مع باقي العناصر المكونة للمشهد الداخلي المصري. هذا التطور المتسارع في الأحداث والذي كان جليا في تصاعد وتيرة الصراع الأمريكي-الصيني وإن لم يأخذ شكل المواجهة المباشرة بعد، ولكنه برز إلى الواجهة بصورة كانت لها تبعات وارتدادات تعاكس مصالح الشعوب وقوى التغيير وتصب في صالح قوى الاستبداد في المنطقة بشكل عام وفي المشهد المصري كجزء من هذه المنطقة، بشكل خاص، حيث تخطى الصراع القائم بين أمريكا والصين في منطقة المحيط الهادي المساحة الدبلوماسية والتنافس التجاري والاقتصادي لينتقل إلى مستوى أعلى وأكثر خطورة ويشمل اتفاقات عسكرية تخص بعض جزر المحيط الهادي مثل جزر سلمان وغيرها. هذا التطور الحاد وغير المسبوق في مستوى التنافس والصراع كان له انعكاساته على المنطقة حيث منح الأنظمة الاستبدادية فيها موقفا قويا في موقعها من مسائل حقوق الإنسان والحريات والممارسة السياسية، خاصة مع تخوفات الولايات المتحدة من مسالة الضغط على هذه الأنظمة والتي قد تدفعها إلى اللجوء لمزيد من الشراكات مع الصين أو روسيا.

هذه التخوفات الأمريكية، كما رصدها محللون، تجلت في إيجاد مساحة للتقارب من خلال الإعلان عن زيارة مرتقبة من بايدن إلى السعودية في موقف مناقض تماما لما انتهجته الإدارة الأمريكية في هذه المسألة من عدم التعاطي أو التواصل مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن، فأصبحت الإدارة الأمريكية في موقف مكشوف تماما، كما في الحالة السعودية والحالة الإماراتية، حيث أدت إلى تعرية إدارة بايدن لحد بعيد وبيّنت ضعف موقفها في التعاطي مع المنطقة، خاصة فيما يتعلق بالصراع مع روسيا والصراع مع الصين. وعلى الرغم من الهدف المعلن جزئيا لهذه الزيارة، متمثلا في مسألة النفط وزيادة إنتاجه وتقليل أسعاره، إلا أنه شكل من أشكال هذه التداعيات الناتجة عن الصراع او التنافس الدولي المحموم بين الولايات المتحدة والصين، وتدشن لتحالف أمني وسياسي معلن تحت قيادة الولايات المتحدة وإسرائيل ويضم مصر ودول الخليج والأردن والعراق. هذه السياسة الجديدة المتحفظة والتي تنتهجها مؤخرا الإدارة الأمريكية لا تخدم بأي حال من الأحوال قوى المعارضة لهذه الأنظمة السلطوية.

وعلى الرغم من وجود تحديات اقتصادية، أو بالأحرى أزمات اقتصادية واضحة، تحدث عنها النظام المصري نفسه، وتمثل له تحديا كبيرا، إلا أن الوضع العالمي يمثل للنظام المصري فرصة سياسية، حيث يوفر النظام الدولي له فرصة في الحركة والمناورة والمفاضلة في التحالفات، سواء كانت هذه التحالفات مع أمريكا أو روسيا أو الصين بما يحقق له المصالح الشخصية. الأمر نفسه مشابه بالنسبة لدول الخليج في نفس الاطار الإقليمي حيث إنها وعلى الرغم من أنها في تحالفات تشمل مصر من ضمنها وفي إطار تموضع معين، إلا إن هذا الاطار الاقليمي يختلف في فرصه من هذه الأزمة العالمية عن حالة النظام المصري.

فعلى سبيل المثال، استفادت السعودية، على وجه الخصوص، وباقي دول الخليج، على وجه العموم -وذلك من منظور اقتصادي- استفادت هذه الدول بمعدل أرباح ومكاسب ضخمة ومهولة، حيث تخطت عائدات النفط اليومية في خلال شهر، تقريبا حاجز المليار دولار. وهذا يعكس اختلاف الفرص التي تتاح لكل دولة وإن كانت في نفس الإطار والإقليم مع دول أخرى، حيث يُعتبر هذا الوضع مناقضا تماما للوضع المصري نتيجة لهذا الصراع الذي شكّل نقطة تحول إيجابي اقتصاديا للدول المصدرة للطاقة مثل السعودية ودول الخليج، فيما مثّل تحولا سلبيا ومسببا لأزمة اقتصادية في مصر (إلا أنه قد يكون إيجابيا من جهة أخرى حيث يعطي المجال للدول النفطية لتخصيص قدر أكبر من الأموال لدعم الأنظمة المستبدة الدائرة في فلكها، ومن بينها النظام المصري)، مع اشتراك هذه الدول جميعها في نقطة إيجابية واحدة، وهي الفرصة السياسية المتاحة أمام هذه الدول للتحرك والمناورة بين القوى العالمية الكبرى والتحالفات المختلفة.

وعلى الجانب الآخر يرى محللون آخرون أنه وعلى الرغم من أن الظرف الدولي ليس ظرفاً إيجابياً في اتجاه التغيير باتجاه تداول حقوق الانسان، إلا أن أي جبهة قد تتحالف مع الصين تتطلب وجود نوع من الديموقراطية والالتزام النسبي ببعض حقوق الإنسان، لأنه في النهاية، يؤكد نموذج الصراع الروسي-الأوكراني الذي يحدث الآن أن الخطر يأتي من الأنظمة السلطوية أكثر من الأنظمة الديموقراطية، حيث إن الأنظمة السلطوية من الصعب تأمين سلوكها الخارجي، حتى وإن كانت في نفس التحالف، فمن الممكن أن يكون لها أفعال غير مرغوبة في حال مناقشتها في ملف مثل ملف حقوق الإنسان. لذلك سيكون هناك دائما ضغوط على النظام أن يستجيب لمطالب الداعمين له داخليا وخارجيا.

ومن ناحية أخرى شكك خبراء مختصون في هذا الشأن فيما قد تؤول إليه الأمور فعليا في الوضع الدولي، حيث إن هذا الوضع القائم ليس بالضرورة أن يكون مبررا كافيا من أجل إحداث تغييرات كبيرة أو ملحوظة كثيرا في علاقات هذه الأنظمة بالقوى الكبرى في العالم، وهو ما أعزاه هؤلاء الخبراء لعدة أسباب أهمها وجود مشاكل اقتصادية عالمية ضخمة رغم الدخل الهائل، فروسيا لديها مشكلة تراجع نمو كبير، وهناك مشكلة نمو في الصين، وتعاني الولايات المتحدة أيضا من مشاكل اقتصادية، بمعني أن هذه القوى الدولية لن تستطيع تقديم إغراءات كافية لدول مثل مصر أو تونس، وستكون هذه الإغراءات إن وجدت محدودة إلى حد كبير، حيث إن دولا مثل مصر تونس تعاني من مشكلات اقتصادية تجعل الاقتصاد إما منهارا بالفعل أو في طريقه للانهيار؛ وعلى الرغم من ذلك لم تتوجه أي من هذه الدول إلى تقديم ما يمكن أن يوقف هذا الانهيار. لذلك فإن افتراض ما قد يؤثر عليه المشهد الدولي الحالي لا يزال مبكرا وسابقا لأوانه ويستلزم المزيد من الانتظار لتحديد ما قد تتبلور عليه العلاقات الدولية وعلاقات دول العالم الثالث بالدول الكبرى.

كما أن من يتبنون هذا الرأي يقولون بانطباقه أيضا على القوى الإقليمية، فهذه الدول، رغم انتعاشها اقتصاديا، تواجه مشكلات سياسية وتهديدات أمنية كبيرة، مما يجعل قدرتها على الاستمرار في تقديم الدعم للأنظمة السلطوية على المحك.

وعلى هذا الأساس يرى هؤلاء أن استمرار الدعم الدولي والإقليمي هو بالأساس لغياب الطرف السياسي المصري الذي لديه القدرة في التأثير على المشهد، بما يتيح استمرار سيطرة قبضة السيسي، أما إذا ضعفت هذه السيطرة فسيتقلص هذا الدعم حتى يتلاشى.

خيارات النظام المصري للتعامل مع الأزمة الاقتصادية

مع تزايد المشكلات والأزمات التي تواجهها المنظومة الحاكمة لمصر، قد تلجأ إلى إعادة التموضع مرة اخرى في المشهد المصري من خلال مسارين: أولهما هو مسار إعادة تدوير النخبة السياسية وفتح مساحات أوسع لها وضم لاعبين جدد لها في النظام من خلال إطلاق ما أسماه السيسي بـ “الحوار الوطني”، وهو ما يراه متابعون للمشهد المصري نوعا من المناورة للخروج من الأزمات المتزايدة مؤخرا، حيث إن هذا الحوار أتى بعد ما يقارب التسع سنوات تقريبا، مما ينفي إمكانية وجود قناعة حقيقية لديه في أهمية مسألة الممارسة السياسية أو الحريات والديمقراطية.

هذا الحوار استدعى له النظام عددا من القوى والأحزاب التي يمكنه السيطرة عليها من باب خلفي وحصرها وإعادة لتدوير نخبة 30 يونيو، وإغلاق المجال أمام كل من هو غير ذلك، لضمان السيطرة على هذا الحوار؛ مما اعتبره العديد من المتابعين للمشهد المصري حوارا شكليا لن تنتج عنه المخرجات المنتظرة أو المتوقعة من حوار وطني حقيقي وشامل، والسبب في ذلك أن بنية النظام الأساسية هي بنية سلطوية وشعبوية مرتكزة على فكرة شيطنة الخصوم السياسيين بكافة أشكالهم وتوجهاتهم من قبل الأجهزة الداخلية المكونة لهذا النظام، والتي وإن تنافست فيما بينها لفرض رؤيتها على المشهد، فإن البنية الأساسية لها قائمة على فكرة رفض الآخر وإقصائه بل والقضاء عليه.

هذه الفكرة ستكون سببا في خروج حوار صوري لا ينتج عنه أي انفراجة سياسية حقيقية أو خلق مناخ تتحرك من خلاله أي قوى تتعارض مع توجهات هذه الأجهزة. وكما يرى بعض المراقبين، فإن هذا الحوار الذي أطلقه النظام لم يكن موجها للخارج، وإن كان فيه البعض من تبييض الوجه، وإنما للداخل كمناورة لتخفيف الضغط عليه، في ظل الأزمة الاقتصادية القائمة، من خلال استدعاء الآخرين لحمل جزء من المسئولية نتيجة الفشل الواقع أو لإشغال الناس في أمر قد يظنون أن فيه بعض الأمل، وبالتالي فالحوار في الداخل هو حوار يعاني من صعوبات شديدة. 

هناك أيضا مسار آخر قد يلجأ له النظام كمخرج له من هذه الأزمة، وذلك من خلال إعادة التفاوض على السياسات العامة للدولة، حيث إن التغيير الحقيقي الذي يمكن حدوثه في مصر، كما يراه متابعون للمشهد، لن تكون بوابته هي النخب السياسية، حيث إن تلك النخب، وإن حاولت أخذ مواقف مستقلة، فإن حدود هذه المواقف ستظل ضيقة إلى حد كبير؛ ولذلك كانت البوابة الأمثل لهذا التغيير، إن تم، هي بوابة السياسات العامة، حيث يمكن للنظام في مثل هذه الحالة، التي أصبح يعيش فيها أزمات على مستويات مختلفة، كنتيجة متوقعة لسياساته العامة منذ توليه السلطة في البلاد – في حال أراد الخروج من هذا الوضع – أن يلجأ لمن قد يقدم له الحلول، كأن يتلقى المقترحات التي تساهم في حل مشاكل الملف الاقتصادي، والذي تتفاقم مشكلته بشكل متسارع، وبنفس هذه الطريقة، مع الملفات الأخرى، ليتمكن من خلالها إصلاح سياساته العامة والخروج من الأزمات الراهنة. فإذا وُجد هذا الشخص أو ذلك التيار أو تلك المجموعة التي قد تقوم بحل هذه الأزمة، فإنه قد يعطي لها المساحة من أجل التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مع احتفاظه بمكاسبه ودون التأثير أو الإضرار بهذه المكاسب والمصالح بشكل أو بآخر.

هذا الطرح لاقى معارضة من بعض المتخصصين والمحللين، حيث يرون أن هذا الطرح تجريبي فيما يتعلق بمسألة ان المنظومة الحاكمة، والتي لم تتغير منذ عام 1952، قد تبحث عمن يقدم لها حلول وإدارة للملف الاقتصادي وما فيه من مشكلات، حيث إن ذلك قد حدث بالفعل منذ سنين طويلة وأن الاقتصاد المصري تم تشخيص كل مشكلاته ووضع حلولها وما بقي إلا التنفيذ. فالنظام أعرف بالخبراء المتخصصين القادرين على حلول اقتصادية تحقق مشروعا تنمويا، لكن هل تتواجد الإرادة السياسية؟

أما عن كيفية تصرف النظام فعليا مع هذه المشكلة الاقتصادية القائمة، فهي، كما ذهب البعض، أن النظام دوما ما يسمح لمساحتين اثنتين: المساحة الأولى، هي الاقتصاد غير الرسمي، ويتركه ليتمدد، باعتبار أنه قادر على استيعاب قدر من الداخلين، لابد منهم، إلى سوق العمل. المساحة الثانية وهي الأكثر سلبية ولها أثر كبير جدا على المجتمع وعلى الدولة، وهي التوسع أو السماح او غض النظر عن الاقتصاد الأسود. هذه المساحة التي جعلت من يتابع الحياة الاجتماعية المصرية اليومية أن يلحظ وبسهولة وجود مساحات كبيرة من التجارة في المخدرات، والتجارة في السلاح، وحتى التجارة في الجنس؛ وهناك مساحات مفتوحة للرشاوى والفساد وللهجرة غير الشرعية.  كل هذه الأمور تصب بكل تأكيد في الاقتصاد الأسود.

لذلك يؤكد مختصون أن الاقتصاد المصري في ظل هذه المنظومة حتى وإن أتيحت له 150 مليار دولار،   فإنه قد يحسن من أدائه قليلا، لكنه سرعان ما سيعود للمشكلات، حيث إنه لو تم حساب ما حصل عليه النظام من تمويل خارجي، سواء بالنسبة للقروض أو المساعدات بعد يوليو 2013، فهي تفوق الـ 150 مليار دولار، ومع ذلك لم تُحل مشكلته، وذلك لسوء توظيف الموارد، في ظل حالة بُعد حقيقي عن معالجة الاقتصاد في مصر.

هذه التداعيات الاقتصادية إذا لم يغير النظام من طريقة إدارتها، فمن الممكن أن تؤدي بشكل كبير إلى تغيير سياسي بشكل ما أو بآخر. وما حدث مع المقاول والفنان محمد علي في سبتمبر 2020 إلا نموذج لحالة الغليان التي قد تحدث في حال استمرار فشل النظام في إيجاد مخرج لهذه الأزمة، حيث تعالت الأصوات في وقتها ووصلت الاحتجاجات أن بعض هؤلاء المحتجين في دمياط قاموا بنزع صور السيسي ووطئها بأقدامهم، في مشهد يحمل نوعا من التكرارية لما حدث مع مبارك. لكن في هذه المرة كانت العصا الأمنية أغلظ، خاصة مع وجود المافيا اللي تسيطر على كثير من الأنشطة الرئيسة في الاقتصاد المصري، مما يجعل هذا التغيير السياسي إذا حدث فقد يكون مستندا على حالة الغليان هذه، لإحداث تغيير وتبديل من داخل نفس المنظومة يحفظ لها مصالحها.

لذلك يرى مختصون بالشأن المصري أن احتمالية التغيير الناتجة عن انفجار شعبي في وجه أزمة اقتصادية فقط، دون إرادة من داخل المنظومة، هي احتمالية ضئيلة للغاية، وذلك لغياب الطرف السياسي الفاعل من خارج هذه المنظومة، خاصة وأن لها سابقات حدثت، كما حدث في أزمة عام 1977، عندما وقعت بعض الانفجارات الشعبية بسبب الجانب الاقتصادي وتم قمعها؛ وأيضا في عام 1986 في حادثة الأمن المركزي، وكان الجيش لها بالمرصاد، وتم قمعها أيضا. وتكرر هذا أيضا مرات عديدة من خلال الحركات العمالية المتكررة، كما في إضراب قطارات في السكة الحديد، وفي غزل المحلة، وفي غيرها. هذه الإضرابات التي حتى وإن ساهمت في تأجيج احتجاجات عام 2011 إلا أنها أيضا لم تكن لتنجح في خلع نظام مبارك، إلا عن طريق نفس المنظومة التي تتحكم بشكل كامل في المشهد السياسي المصري. 

الفرص المتاحة أمام قوى المعارضة:

دائما ما كان السؤال المطروح بين قوى المعارضة في الفترات الأولى لوجود هذا النظام عما يمكن عمله لتغيير الوضع القائم، وهو ما أصبح الآن سؤالا صعباً، نتيجة الممارسات القمعية الشديدة التي انتهجها النظام وسده لكافة السبل الممكنة لأي محاولة لإحداث تغيير. ولكن وفقا لما يراه محللون للمشهد المصري الحالي، فإن أمام قوى المعارضة فرصة لمحاولة إظهار فشل النظام وتوجهه العبثي بشأن إجراء حوار وطني، وذلك عن طريق إجراء حوار وطني مواز، لتقديم صورة جديدة لقوى المعارضة تظهر فيها قادرة على إجراء حوار وطني حقيقي للأطياف السياسية المختلفة. مثل هذه الصورة ستعزز من الرصيد الداخلي والخارجي لهذه القوى، وستمهد لتحالفات سياسية أو لشكل من أشكال المشاركة السياسية.

ولكن اعتبر بعض المحللين أن هذه الفرصة أيضا سلاح ذو حدين، قد يؤثر سلبا في حال فشل هذا الحوار الموازي، ليضع قوى المعارضة أيضا في نفس الخانة التي وضع فيها النظام نفسه خارجيا وداخليا. وعلى المدى الطويل، فإن حالة الارتباكات والتغيرات الكبرى الحاصلة في المشهد الدولي والإقليمي وفق قراءات متخصصة من خبراء ومحللين تؤكد أن الصورة القائمة والتي استمرت لعقود طويلة لا يمكن التسليم بثباتها واستمراريتها خاصة فيما يتعلق بالصراع الأمريكي-الصيني، وأيضا على مستوى دول الخليج، حيث يُنتظر حدوث تغيرات كبرى في السنوات القليلة القادمة على المستويين الإقليمي والدولي. هذه التغيرات ستجعل من الصعب على النظام المصري إيجاد منظومة دولية أو إقليمية بنفس السمات الحالية الداعمة له تماما.

لذلك يرى بعض المحللين، أنه من الممكن لقوى المعارضة إحداث التغيير على مدى أطول على مستويين أو على مرحلتين: أحدهما هو المستوى الأصغر متمثلا في النظام نفسه من خلال الأزمات التي وضع نفسه فيها، فيما أسماه محللون بـ “أزمة النظام”، والذي خرج لأول مرة من خلال أذرعه الإعلامية المختلفة ليعلن صراحة عن وجود أزمة اقتصادية حقيقية يعايشها، بينما كان في السابق يتعامل معها باستخفاف، رغم تحذيرات الكثير من المتخصصين في المجال الاقتصادي من أن الوطن مقبل على أزمة اقتصادية طاحنة، ليخرج النظام بعد ذلك من حالة الإنكار إلى مرحلة الاعتراف بوجودها. هذا الاعتراف لم يأخذ المسار المتوقع له، من محاولة حل هذه الأزمة من جذورها، وفق ما يراه مراقبون، بل تلاه بتحميل هذه الأزمة على أسباب غير حقيقية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو دولية، مما يعيده مرة أخرى لخانة الإنكار، وإن كان في ثوب جديد، حتى لو أقر بوجود الأزمة.

هذه الأزمة التي يعايشها النظام تتنازعه فيها ثلاث مطالب رئيسية:

أول هذه المطالب: هي مطالب الناس اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وأخلاقيا، وخاصة المطالب الاقتصادية منها، حيث أحدثت هذه الأزمة الاقتصادية قدرا من المطالب تجعل درجة تحمل الناس على المحك، حيث هناك طبقة تتمتع بكل انواع الحياة الفارهة بما ينافس الحياة في الدول الأوروبية، وعلى النقيض هناك أغلبية لا تجد الحد الأدنى للحياة الكريمة في مصر، وهذا ما قد يكون نواة للانفجار وأحد أدوات الانفجار الاجتماعي المحتملة في أي لحظة، وعلى الرغم من أي محاولة للتعامل بأي مسكنات؛ ففي النهاية هناك حدود تحتم على النظام الاستجابة لهذه المطالب.

المطلب الثاني من هذه المطالب: والذي يتقاطع مع مطالب الناس، فهو مطالب الأجهزة والأطراف المشاركة في هذا الحكم وهي التي كان يتم التعامل معها من خلال إسناد المشاريع الكبرى التي تبتلع كافة القروض والمعونات إليهم من خلال ما يعرف بـ “الإدارة بالفساد”، أو ما يمكن تسميته بـ ” فساد السبّوبة”، هذه المشاريع التي يتم القيام بها ليكون المستفيد الأكبر منها الطبقة التي يعتمد عليها النظام في حكمه وإدارته سواء كانوا من الجيش، أو الأجهزة المختلفة في الدولة، أو رجال أعمال، أو صحفيين. وهذه المطالب أيضا أصبحت على المحك، حيث قدر محللون أن نسبة ما يصل إلى هذه الطبقة يمثل ما يزيد عن 60% من أي مساعدات أو معونات أو قروض يأخذها النظام، مما يجعل النظام في موقف صعب، مالم تتوفر هذه المساعدات، خاصة وأن النظام وصل إلى الحافة في مسألة الاقتراض، والذي أدى بالنظام إلى طلب هذه المساعدة بشكل صريح، وإن كان في صورة ودائع أو استثمارات، في نوع من التسول المخزي والفاضح.

ومهما حاول النظام تقديم تنازلات بخصوص هذه المطالب من الأجهزة والمؤسسات التي تدعمه بشكل او بآخر تضمن حماية بقائه، خاصة المؤسسات الأمنية والاستخباراتية، والقضاء، والاعلام، فإنه من الصعب توفر هذا الكم الرهيب لتلبية المتطلبات الناتجة عن هذا الفساد الداخلي والذي وصل لمرحلة تردد أقوال عن بعض المسئولين بصدور مقترحات لرهن بعض الأصول الاستراتيجية مثل قناة السويس او رهن مياه النيل، من اجل الحصول على اموال خارجية.  وفي ظل الأزمة الاقتصادية العالمية والتي قد تجعل من مسألة حصول النظام على قروض أو مساعدات أصعب، وبافتراض أن الدول الداعمة، مثل السعودية أو الإمارات ضخت أموالا أخرى، فإن لهذا الدعم حدودا يصعب معها الاستمرار مع بنية الفساد الموجودة، والتي تستهلك معظمها في منافع شخصية، بعيدا عن دعم الاقتصاد المتدهور. هذه المطالب ستكون سببا في إحداث تشققات إذا لم يستطع النظام التعامل معها لتتحرك تلك الأجهزة باحثة عن محاولة استبداله من أجل الوصول من خلال غيره على ما يسد هذه المتطلبات والتي لن تتوقف.

المطلب الثالث: يتمثل في الخارج، والذي يستمد منه هذا النظام شرعيته ووجوده من الأساس، من خلال تصدير صورة أن وجوده هو الضامن لاستقرار مصر واستقرار المنطقة، وهي الصورة التي باتت تواجه مشكلة كبيرة في الإبقاء عليها سواء أمام المنظومة الإقليمية أو الدولية.

لذلك من الممكن لقوى المعارضة العمل على هذا المستوى المتواضع، واستغلال هذه الأزمة في السعي لوجود بديل آخر وإن كان من نفس المنظومة، من خلال ضغوطات من داخل النظام نفسه كمصدر لانفراجة نسبية. حيث إن السيسي يختلف عن النظام العسكري في مصر، والذي يتكون من آراء متفاوتة في التعامل مع الأزمة الراهنة، وهي إما متشددة في مسألة الحوار ورافضة له تماماً، وإما أخرى تدعم إيجاد مساحة جدية تساهم في امتصاص الضغوط مما يدعم فرضية وجود تيار قد يلجأ لتغيير الواجهة لتكون هناك إمكانية للعودة إلى الصيغة القديمة المتمثلة في الإبقاء على النظام العسكري بواجهة مدنية أو عسكرية سابقة غير دموية، عن طريق استبدال السيسي والتضحية به، إذ هو الذي ورط المؤسسة العسكرية بشكل كبير، وذلك لحفظ ماء وجه العسكر وإعطائهم مخرجا آمنا من هذا المأزق، خاصة في ظل عدم سماح الظروف الدولية والإقليمية بغير ذلك في الوقت الراهن. 

هذا الأمر الأول القابل للتحقق في ضوء الرؤية طويلة المدى، والتي تنتظر التغيرات المتوقع حدوثها إقليميا وعالميا خلال السنوات القليلة القادمة. هذا التغيير المرحلي الأول قد يؤدي إلى توافر مجموعة من الظروف والتي تكون دائما مصاحبة لوجود منظومة جديدة مع بعض الانفتاح والفراغات الممكن استغلالها من أجل الاستعداد للتغيير الشامل الذي تطمح له المعارضة في المرحلة التالية من هذه الرؤية طويلة المدى، ليكون تغيرا تدريجيا لا يتسبب في انهيار كامل للمنظومة الموجودة، وقد يُدخل البلاد في حالة من الفوضى التي لا يمكن لأي نظام أيا كان تداركها أو علاجها.

هذا التغيير المحدود يؤكد محللون للمشهد المصري على حتمية أن يكون هو سقف الترتيبات والتوقعات الحالية لقوى المعارضة، مع الأخذ في الاعتبار إمكانية عدم حدوثه. هذا التغيير الذي ربما قد يحدث في حال كان هناك نزعة عقلانية داخل جسم الدولة المصرية تدرك خطورة ما يحدث وتدرك حجم الكارثة التي أوقعها فيها نظام السيسي والمجموعة التي حوله بالبلاد والعباد.

لكن هذا التغيير الذي إذا لم يحدث، فإن كل الاحتمالات تشير إلى تغيير من نوع آخر، وهو سيناريو الانهيار الكامل في بنية الدولة وبالتالي دخول البلاد في مرحلة من فراغ القوة وفراغ المؤسسات، وهذا يستدعي ضرورة وجود قوى بديلة معارضة لديها كيان موحد بعيدا عن النقاط الخلافية سواء كانت فكرية أو سياسية وإعادة تعريف وضبط لثنائيات تتعلق بالداخل والخارج والسياسي والاقتصادي والدولة والمجتمع والاستقرار والشرعية والأمني والسياسي، بما حدث من متغيرات في هذا الإطار وفي هذا السياق.

هذه القوى البديلة ينبغي أن يكون لديها تصور لمدخل استراتيجي أو فكر سياسي وتصور لعلاقة الدولة الجديدة بالمجتمع، ليكون بديلا عن هذا الموجود حاليا. هذا الكيان الذي لا يتواجد حاليا نظرا للتنوع والاختلاف الكبير بين قوى المعارضة والذي يجعل من الصعب إيجاد أرضية مشتركة لبنية فكرية أو تنظيمية متماسكة، وهو ما يجب أن يكون من أولويات هذه القوى إذا ما أرادت أن تكون بديلا جاهزا يحل محل المنظومة الحالية في حال انهيارها، مع أخذ وجود أرضية شعبية في الاعتبار، حيث إن التحرك الشعبي هو في حقيقة الأمر العنصر الفاعل في هذه المسألة، سواء كانت في حال التغيير من داخل المنظومة أو دعم وجود منظومة جديدة في حال انهيار المنظومة القديمة. حيث كان الحراك الشعبي دائما هو العنصر الثابت الوحيد في كافة التحولات السياسية التي شهدها العصر الحديث.

فعلى الرغم من أن الانقلاب دائما ما يكون من الداخل إلا أنه لم يكن كافيا وحده، ودائما ما احتاج إلى ظهير شعبي، حتى وإن كان ذلك فقط من اجل إضفاء الشرعية على تحركه. لذا، يجب أيضا على قوى المعارضة أيضا الأخذ في الاعتبار طبيعة حركة الجماهير في مثل تلك المواقف، خاصة بعد حالة التحطيم التي لحقت بالشعب المصري خلال الأعوام التسعة الماضية، وهو ما لم يحدث في ستين سنة، نتيجة لحجم كبير ومركّز وممنهج من الإفساد والتشويه في الأخلاق وفي العقائد وفي السلوك وفي الأداء وفي المفاهيم.

لذلك يرى مختصون في الشأن المصري أنه في حالة رغبة قوى المعارضة في أن تكون بديلا في التغيير الذي قد يحدث بشكل أو بآخر، سواء خلال مدى قصير، أو مدى متوسط، على عدة مراحل؛ فإن عليهم أن يعملوا على إعداد فكرة مشروع استراتيجي للتغيير. مثل هذا المشروع ينبغي أن تكون له متطلبات وله مداخل واليات تتعلق به، ويجب أن يشمل أيضا تهيئة الشارع المصري، بشكل ما أو بآخر، ليكون داعما لهم في حال تصدرهم للمشهد بعد التغيير الذي يعتقد كثيرون أنه حاصل وقادم لامحالة.

ومن ناحية أخرى، يرى مراقبون أن الأطراف كلها، سواء على مستوى المنظومة المصرية من الداخل، أو القوى المعارضة في الخارج، وكذلك النظام الإقليمي والنظام الدولي؛ كل هذه الأطراف تعيش حالة كاملة من الارتباك وعدم اليقين، مما قد تسفر عنه التطورات والأحداث التي بدأت تتسارع وتيرتها مؤخرا، خاصة وأنها تحدث في  اطار جديد غير ما اعتاده العالم منذ الحرب الباردة، وأيضا اعادة تموضع في النظام الدولي. وكذلك الأمر في الإطار الإقليمي. وهناك حركة مختلفة بالنسبة للنظام المصري، حتى فيما بعد ما يمكن تسميته مرحلة الانقلابات بعد الثورات، وتحويل الثورات إلى حروب داخلية.

الأمر نفسه في النظم السلطوية؛ فحتى هذه النظم المستبدة هي في حالة من عدم الاستقرار. فهي في حالة ارتباك، حيث إنها قد تأتيها ظروف مؤقتة مواتية، وقد تأتيها ظروف معاكسة أخرى تؤدي إلى مشاكل خطيرة بالنسبة لهذه النظم. هذه الحالة من الارتباك والاهتزاز، كما وصفها محللون، تعايشها المحاور الثلاثة المؤثرة على المشهد المصري، سواء كان النظام الداخلي، أو النظام الإقليمي، أو النظام الدولي.

وهناك حالة ثانية موازية، وهي الابتزاز المتبادل في صورة واضحة جدا بين النظام والقوى الإقليمية والدولية، يقوم بها النظام في سياق الإطار الدولي والإطار الإقليمي. وعلى الطرف الآخر أيضا يقوم النظام الإقليمي والنظام الدولي بعملية ابتزاز معاكسة ايضا لنظام السيسي. ويمكن ملاحظة هذا الابتزاز أيضا داخل النظام الإقليمي في صور متعددة في هذا السياق.

الحالة الثالثة هي ما يسمى بـ الانحياز. فالنظام المصري له انحيازات وهذه الانحيازات لم تتبدد ولم تتغير بشكل من الاشكال وهي موجودة وتعاود الظهور والتجلي في أشكال متجددة في هذا المقام. هذا النظام مازال له انحيازاته، ومازالت له طبقة تعاونه وتساعده من داخله، لكن هذه الطبقة قد حدث فيها نوع من التشققات. أما من الناحية الإقليمية، فإن الانحياز الذي يتعلق بها ما زال يحافظ على الثابت الأساسي من حيث أن هذه النظم كلها تسلطية ومستبدة ويُعاون بعضها بعضاً على استمرارية هذا الواقع الذي يشكل تأمينا لاستبدادهم وسلطانهم. وبخصوص المحور الثالث، وهو المحور الدولي، فهو أيضا يتبنى طريقة انتقائية في تطبيق المعايير؛ هذه الانتقائية في تطبيق المعايير تجلت في تعامله مؤخرا مع الصراع الروسي-الأوكراني، والتي ولّدت حالة من السخط الدولي على هذه المعايير الانتقائية، والتي نتج عنها حالة عالمية من الممكن تسميتها ب “الاستقرار الزائف”، هذا الاستقرار الزائف هو الذي لا يلبث أن ينهار لتصبح المنطقة كلها والعالم مؤهلا لتغيير قادم لا محالة.

وختاماً

يمكن القول إن المناقشات التي تضمنتها هذه الندوة، بقدر ما طرحت من تصورات تساهم في الفهم والتشخيص الدقيق للواقع الراهن، إلا أن هناك أسئلة لازالت مفتوحة عن احتمالات المستقبل وما ينبغي القيام به، وهو ما يحتاج لعدد من الندوات المستقبلية تحاول بعمق تقديم إجابات دقيقة عن هذه الأسئلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close