fbpx
دراسات

تركيا ـ الإدارة الاقتصادية لتداعيات كورونا

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة

مر ما يزيد عن سبعة أشهر على اكتشاف أول حالة إصابة بفيروس كورونا ، هذا الفيروس الذي غيّر ملامح العالم الذي نعرفه، وفي الفترة الأولى لانتشار الفيروس عمدت بعض الدول إلى انتهاج استراتيجية مناعة القطيع، والتي تعني ترك المرض ينتشر بين أفراد المجتمع حتى يتمتع المجتمع ككل بمناعة تحميه من المرض مستقبلا، إلا أن بعض الدراسات الكمية أظهرت أن تبني تلك الاستراتيجية قد يصاحبه نتائج كارثية من حيث حجم الإصابات، وما يصاحبه من احتمالية كبيرة لانهيار الأنظمة الصحية؛ وهو ما دفع الدول مجبرة إلى تبني استراتيجية التباعد الاجتماعي، وذلك بغية تقليل الأخطار الناتجة عن الوباء إلى أقل ما يمكن.

واستراتيجية التباعد الاجتماعي قائمة بالأساس على تقليل الاحتكاك بين الأشخاص، سواء كانوا حاملين للمرض أو غير مصابين به؛ وذلك بهدف تسطيح منحنى انتشار المرض. وتتعدد وسائل تطبيق هذه الاستراتيجية، فمنها منع التجمعات التي يزيد عددها عن عدد معين، وإلغاء الدوام في المدارس والجامعات والتحول إلى التعليم الإلكتروني، إغلاق بعض الأنشطة الاقتصادية، إعلان حظر تجول كلي أو جزئي، منع كبار السن أو الأطفال من الخروج إلى الشوارع، وغيرها من الإجراءات.

ولا يخفى على أحد أن تبني مثل هذه الإجراءات ينتج عنه بلا شك تراجع كبير في النشاط الاقتصادي، وانتشار جو من القلق على مستقبل الكثير من الأنشطة الاقتصادية، بجانب خسارة الكثيرين لوظائفهم، ومن هنا وجدت الدول والمواطنين على حد سواء أنفسهم أمام معضلة الصحة والاقتصاد؛ فهل من الأفضل تبني إجراءات التباعد الاجتماعي بدون النظر مطلقا إلى عواقبها الاقتصادية؟ أم أن الأفضل هو جعل الاقتصاد هو المتحكم في القرارات الصحية.

 وقد سلكت الدول للإجابة عن هذا السؤال مسالك عديدة، وكان أحد القواسم المشتركة بين هذه المساك هو العمل على اتخاذ العديد من الإجراءات بهدف التخفيف من حدة الركود الاقتصادي الذي يهدد العالم أجمع. ومن هنا فانه من الأهمية بمكان القراءة المتأنية لتلك الإجراءات والبحث فيها، وذلك في سبيل محاولة الخروج بدروس مستفادة مما شهده العالم في الشهور الماضية، وكذا محاولة استشراف الملامح الرئيسية لبعض المواضيع الاقتصادية الهامة والتي شكلت الأعمدة الرئيسة للنشاط الاقتصادي العالمي خلال الخمسون عاما الماضية، والتي من المتوقع أن تتغير بعض ملامحها الرئيسية في حقبة ما بعد كورونا، لا سيما دور الدولة الرأسمالية والعولمة، والبنوك المركزية، والفقر والبطالة اللذين يعكسان سياسات توزيع الدخول والثروات في العالم.

وسوف تسعى الورقة إلى استقراء ذلك من خلال الأوضاع الاقتصادية للدولة التركية واهم التداعيات الاقتصادية لإجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي على الاقتصاد التركي، وأهم الإجراءات التي اتخذتها الدولة لمواجهة تلك التداعيات، ولحفز عودة النشاط الاقتصادي الي مستوياته السابقة في ظل احتياطات الوقاية من عودة انتشار الفيروس مرة أخرى. وسوف يتم تناول ذلك من خلال النقاط التالية:

أولا: وضع الاقتصاد التركي قبل أزمة كورونا

لم تكن كورونا هي أول أزمة يواجهها الاقتصاد التركي في الألفية الثالثة، إذ ضربت تركيا العديد من الأزمات الاقتصادية خلال العشرين سنة الماضية، وكانت السمة الملاحظة في كل تلك الأزمات هي قدرة الاقتصاد على التعافي سريعا من تداعيات تلك الأزمات المختلفة.

كانت الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في أواخر العام 2007 ذات أثار كارثية على العالم أجمع، وتأثرت تركيا كما تأثر غيرها بلا شك، حيث ظهر هذا التأثير في أكثر من مؤشر، كان منها على سبيل المثال تراجع الناتج المحلي الإجمالي؛ الذي انخفض من 764 مليار دولار في عام 2008، إلى 644 مليار دولار في عام 2009، إلا أنه سرعان ما تعافي وعاود الارتفاع مرة أخرى بدءا من عام 2010[1].

كما تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر تراجعا حادا؛ إذ شهدت الأعوام الثلاثة التي سبقت آثار الأزمة الكبيرة 2006، 2007، 2008 تسجيل تركيا حصيلة عالية جدا للاستثمارات الأجنبية المباشرة كانت 20.2، 22، 19.5 مليار دولار، على الترتيب. في حين سجل العام 2009 انخفاضا لأكثر من النصف، حيث سجلت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا عام 2009 ما قيمته 8.4 مليار دولار فقط[2].

كما واجهت تركيا كذلك أزمات عديدة بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011، يمكن تلخيصها من خلال النقاط التالية[3]:

1- خسارة كثير من رجال الأعمال الأتراك للكثير من استثماراتهم في سوريا.

2- تعرض اقتصاد المدن التركية المحاذية لسوريا لتدني شديد، وبالأخص مدينة غازي عنتاب التي كانت تعد المغذي الأساسي صناعيا لسوريا والدول المجاورة لها.

3- تعليق تجارة الحدود بين البلدين، وبالتالي انقطاع جزء كبير من الضرائب عن الخزانة التركية.

4- اضطرار تركيا للاتجاه نحو البحث عن بديل لسوريا، لكي تقوم بتصدير سلعها إليه عوضا عن سوريا وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط.

وليس ما سبق فقط هو كل ما واجه الاقتصاد التركي، إذ زاد على ذلك محاولة النظام السوري القيام ببعض الإجراءات الانتقامية[4] لكي يرد على إعلانها رفضها القمع الشعب السوري.

 كما فتحت تركيا حدودها أمام السوريين النازحين، حتى زاد عدد السوريين على الأراضي التركية عن ثلاثة مليون سوري، وبالرغم من كل ما سبق، إلا أننا لا نجد أثرا يُذكر على قطاع الصادرات التركية، إذ سجل ارتفاعا من 134.9 مليار دولار في عام 2011، إلى 152.6 في عام 2012[5]؛ وهو ما يعني أن تلك الصعوبات والإجراءات والتي استهدفت بالأساس ضرب قطاع التصدير التركي لم تكن ذات تأثير على الإطلاق.

ثم جاء بعد اندلاع الثورة السورية أحداث الانقلاب الفاشل الذي شهدته تركيا في يوليو عام 2016، انكمش الاقتصاد التركي بنسبة 1.8% في الربع الثالث من عام 2016، إلا أن هذا الانكماش تم التخلص منه سريعا في الربع التالي؛ إذ تحول إلى نمو بنسبة 3.5%[6]، ونظرا لتحقيق تركيا معدلات نمو مرتفعة في النصف الأول من العام ذاته؛ نجحت في أن تُنهي العام 2016 بمعدل نمو بلغ 3.2%، وما لبث أن ارتفع هذا المعدل ليبلغ 7.2% في عام 2017.

 بجانب ذلك فإن الأزمة الأخيرة التي ضربت تركيا قبل أزمة كورونا كانت أزمة الانخفاضات المتوالية لسعر صرف الليرة التركية والتي بدأت في أغسطس من عام 2018، والتي استطاعت تركيا احتواء أثارها السلبية الي حد كبير من خلال زيادة الصادرات وزيادة أعداد السياح، كما استفادت تركيا من تلك الأزمة في استكمال الإصلاحات الهيكلية التي أعلنت عنها[7].

ثانيا: تداعيات انتشار فيروس كورونا على الاقتصاد التركي

ضرب كورونا تركيا كما ضرب العالم على حين غرة؛ فالاقتصاد التركي الذي كان يسعى لتحقيق معدل نمو 5% في العام 2020[8]، بجانب وجود حجم تجارة خارجية يبلغ 380 مليار دولار، بالإضافة إلى تحقيق قطاع السياحة لدخل قدره 34 مليار و520 مليون دولار في عام 2019[9]، مع استهداف أن يزيد هذا الرقم في عام 2020. حققت تركيا في الربع الأول من العام 2020، أي من يناير إلى مارس معدل نمو بلغ 4.6%، حيث حقق القطاع الزراعي نموا بنسبة 3%، في حين حقق القطاع الصناعي 6.2%، على حين حقق قطاع الخدمات (شاملا قطاع الإنشاءات) معدل نمو 3.2%[10].

أعلن وزير الصحة التركي ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا على الأراضي التركية في الحادي عشر من مارس، توقع البعض أنه طبقا للهيكلية التي يختص بها الاقتصاد التركي أن تكون نتائج انتشار الفيروس كارثية عليه. فعلى سبيل المثال عدلت وكالة موديز الدولية للتصنيف الائتمانية توقعاتها للاقتصاد التركي، فبعد أن كانت تتوقع انكماشا قدره 1.4%، قامت بزيادة تلك النسبة لتصل إلى 5% في نهاية العام الحالي (2020). نشرت الوكالة تقريرا أكدت فيه أن البنوك التركية ستتعرض لضغوط على ربحيتها بسبب تراجع الإقراض وزيادة المخصصات، ورأت أيضا أن تدابير التي اتخذتها الحكومة قد تنجح في تعويض تلك الخسائر لكن بشكل جزئي، في حين أن التدهور الاقتصادي العميق الناتج عن وباء كورونا سيقلل من قدرات السداد لدى المقترضين. توقعت الوكالة أيضا أن أكثر القطاعات تأثرا بالأزمة هي السياحة والنقل والشركات الصغيرة والمتوسطة، كما توقعت وجود ضغوطا إضافية على رؤوس الأموال بسبب تدهور قيمة الليرة التركية في مقابل سلة العملات الأجنبية[11].

منذ إعلان تركيا عن زيادة وتيرة انتشار فيروس كورونا في البلاد، شرعت الجهات التنفيذية في الدولة إلى تطبيق سياسات تباعد اجتماعي -كما قامت أغلب دول العالم- من خلال إقرار حظر للتجوال كلي في نهاية الأسبوع، وفي أيام عيد الفطر، بجانب تطبيق حظر تجوال لمن هم فوق سن 65، ومن هم دون الـ 20 عاما، بالإضافة إلى إغلاق المدارس والجامعات وبعض المؤسسات الحكومية.

ويمكننا القول إن تركيا سمحت للعديد من الأنشطة الاقتصادية أن تستمر في العمل كي تحافظ على استمرار دوران عجلة الاقتصاد، بجانب تصنيف الحكومة المجتمع إلى طبقات، وتوجيه تدابير وقائية للطبقات الأكثر ضعفا، وفي الوقت نفسه السماح للطبقة العاملة بالعمل خلال الأسبوع، وهو ما يعني أن تركيا بدلا من أن تتبنى سياسة مناعة القطيع، استبدلتها باستراتيجية المناعة الطبقية؛ وهي التي تهدف إلى الحد من انتشار المرض بين أكثر الفئات ضعفا مع تمكين الاقتصاد من الاستمرار في العمل في الوقت ذاته[12].

وبالتالي تؤدي هذه الاستراتيجية إلى انتشار العدوى بين الطبقة العاملة، ولكنها من ناحية أخرى تحمي الأشخاص الضعفاء، وتسمح للاقتصاد بمواصلة العمل[13]. وبالطبع كان لإغلاق العديد من الأنشطة الاقتصادية، وما ترتب عليه من خسارة للكثيرين من وظائفهم آثارا سلبية كبيرة، منها على سبيل المثال تراجع مؤشر مديري المشتريات إلى ما دون 34 نقطة، وذلك في شهر إبريل من العام الحالي، وهو ما يعني دخوله منطقة الانكماش، وهو أيضا ما يعد أكبر انخفاض له منذ الأزمة المالية العالمية[14]، وذلك نتيجة للاضطرابات الناتجة عن الإجراءات الاحترازية.

في هذا الصدد، حاولت الحكومة في تلك الأثناء تبني إجراءات من شأنها تخفيف وطأة التباطؤ الاقتصادي على مختلف طبقات المجتمع. وبعد مرور فترة من الزمن، وانحسار انتشار الوباء تدريجيا أصبح الهدف الرئيسي من الإجراءات الاقتصادية المتبعة هو المساعدة في عودة النشاط الاقتصادي إلى سابق عهده قبل الأزمة.

ثالثا: أهم السياسات التي اتخذتها الدولة التركية في مواجهة فيروس كورونا

اتخذت شكل السياسات التركية في سبيل مواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا أشكالا عديدة، ويتضح من تتبع الإجراءات قيام جهات حكومية عديدة بانتهاج سياسات اقتصادية على عدة أصعدة، ومنها: الرئاسة التركية، والبنك المركزي، كما قامت بعض البنوك الحكومية بإطلاق عدة مبادرات، ويمكن استعراض أبرز تلك السياسات والقرارات من خلال النقاط التالية:

أ- قرارات رئاسة الجمهورية (حزمة درع الاستقرار الاقتصادي)

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الثامن عشر من شهر مارس -أي بعد ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا في تركيا بـ 7 أيام-، إطلاق تركيا حزمة “درع الاستقرار الاقتصادي” التي تم بموجبها تخصيص أموال بقيمة 100 مليار ليرة تركية (15.4 مليار دولار أمريكي) للتخفيف من آثار كورونا.

تتكون حزمة المساعدات التركية من 19 نقطة، هي:

1- السماح بتأجيل مدفوعات ضرائب القيمة المضافة، ومستحقات الضمان الاجتماعي، لأشهر إبريل ومايو ويونيو ستة أشهر، لكلا من القطاعات الآتية: قطاع البيع بالتجزئة، والمولات التجارية، قطاع الحديد، قطاع السيارات، قطاعي النقل والخدمات اللوجستية، السينمات والمسارح، الضيافة، المأكولات والمشروبات، وغيرها. ويتضح أن الهدف من هذا القرار دعم المستهلك النهائي؛ فمن المعلوم أن ضريبة القيمة المضافة يتحملها المستهلك النهائي، وتسعى الدولة في وقت يتوقع فيه تراجع الاستهلاك الخاص إلى علاج ذلك عن طريق تأجيل هذه المدفوعات.

2- عدم تطبيق ضريبة السكن حتى شهر نوفمبر المقبل. ويمكن القول إن هذا القرار أيضا يستهدف دعم المستهلك النهائي حتى يخفف عن كاهله الضرائب السكنية خلال تلك الفترة.

3- السماح بتأجيل دفع رسوم الإشغال الفندقي لأشهر إبريل ومايو ويونيو ستة أشهر. وهذا الإجراء لا شك من شأنه أن يدعم قطاع السياحة، والذي يعتبر أكبر القطاعات المتضررة من أزمة كورونا.

4- خفض ضريبة القيمة المضافة على نشاط النقل الداخلي من 18% إلى 1%، لمدة 3 أشهر. وفي ظل إقرار الدولة حظر تجوال بين المدن، ومنع الانتقال بينها إلا بتصريح خاص، فإن هذا الإجراء يهدف إلى دعم المستهلك النهائي، وأيضا شركات النقل.

5- دعم الشركات المدينة للبنوك التي تضررت بنقص السيولة جراء وباء فيروس كرونا، بالسماح بتأجيل دفع ديونهم، وكذا الفوائد المستحقة، لمدة 3 أشهر، وفي بعض الحالات سيتم توفير دعم مالي للشركات.

6- توفير دعم نقدي للمصدرين يساعدهم على زيادة الطاقة التخزينية لأنشطتهم.

7- جميع الشركات التي ستتأخر في سداد ديونها المستحقة للبنوك خلال الأشهر إبريل ومايو ويونيو، لن يؤثر ذلك في قدرتها الحصول على قروض في المستقبل.

8- العمل على تطوير القوانين واللوائح؛ لكي تكون متوائمة مع نماذج العمل عن بعد.

9- سيتم إقرار بعض التسهيلات للمؤسسات التي تتعطل عن العمل خلال الفترة الحالية.

10- زيادة الحد الأقصى لتعويضات العمل من شهرين، إلى أربعة أشهر، وذلك بهدف المساعدة على استمرار توفير فرص عمل.

11- زيادة الحد الأقصى لصندوق ضمان الائتمان من 25 مليار ليرة، ليصل إلى 50 مليار ليرة.

والإجراءات سالفة الذكر كلها تهدف إلى دعم قطاع الأعمال والذي بلا شك تضرر كثيرا من تداعيات انتشار فيروس كورونا.

12- أصحاب الحرف المتضررين والذين لديهم ديون لدى بنك خلق، بإمكانهم تقديم ما يثبت تضررهم، وفي تلك الحالة، سيتم السماح لهم بتأخير دفعات القروض المستحقة عليهم لمدة 3 أشهر بدون فوائد.

13- توفير العديد من خيارات القروض الاجتماعية، بشروط مناسبة لعموم المواطنين.

14- استمرار الدعم المقدم للحد الأدنى للأجور.

15- زيادة الحد الأدنى للمعاش التقاعدي ليصبح 1500 ليرة تركية.

16- سيتم صرف إكرامية (منحة) العيد في بداية شهر إبريل. كذا سيتم تحويل مستحقات المعاش على الحساب مباشرة، بدون الاضطرار إلى الذهاب إلى فروع البنوك لاستلامها.

17- توفير دعم نقدي إضافي بقيمة 2 مليار ليرة تركية للأسر التي تعتمدها وزارة الأسرة والعمل.

18- توفير خدمة متابعة دورية لكبار السن فوق الثمانين عاما، الذين يعيشون بمفردهم.

ويتضح أن الإجراءات سالفة الذكر موجهة بالأساس للطبقات الفقيرة والمتوسطة من المجتمع، فمن المعلوم والمتوقع أيضا أن تتأثر هذه الطبقات سلبيا بشدة بسبب تداعيات فيروس كورونا؛ لذا نجد أن الدولة ومن خلال تلك الحزمة لا تنسى أن تتدخل لدعمها، مما قد يعده البعض انتكاسا عن مبادئ الاقتصاد الكلاسيكي.

19- فيما يتعلق بالوحدات السكنية التي يقل سعرها عن 500 ألف ليرة تركية، تقرر زيادة الحد الأقصى للتمويل البنكي من 80% إلى 90%، بالإضافة إلى تقليل الحد الأدنى للمقدم ليصبح 10% من قيمة الوحدة السكنية[15]. هذا الإجراء ضمن عدة إجراءات أخرى سيتم بيانها لاحقا يهدف إلى دعم القطاع العقاري، والذي يقوم بتشغيل ما يقارب 250 قطاع أخر. وأيضا يمكننا القول إنه من خلال هذا القرار يمكننا ملاحظة تدخل الدولة مرة أخرى لدعم قطاع هام يوفر فرص عمل ودخول للملايين من المواطنين.

كانت هناك العديد من الردود الإيجابية التي جاءت من مجتمع الأعمال على تلك الحزمة، كان منها ما ذكره (تشيتين تيجدلي أوغلو)، رئيس جمعية الصناعيين، حيث أكد أن “حزمة درع الاستقرار الاقتصادي بمثابة بر الأمان للشركات التي كانت تعاني من ضائقة اقتصادية”. من جهته اعتبر (ثروت ترزيلار)، عضو هيئة مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، الحزمة الاقتصادية بمثابة متنفس للاقتصاد التركي والشركات الصغيرة والمتوسطة. أيضا في السياق ذاته، أكد رئيس جمعية مصدّري المستلزمات المنزلية في تركيا، (براق أوندر)، أن “الإعلان عن الحزمة الاقتصادية عزز الثقة الاجتماعية والنفسية لدى المجتمع”[16].

شرعت تركيا في تنفيذ تلك الحزمة بعد إعلانها مباشرة، وبعد الإعلان عن الآليات المختلفة لطلب الدعم النقدي للأسر محدودة الدخل، وكذا أصحاب الأعمال المتضررين من انتشار الوباء، زادت قيمة الدعم المقدم من خلال الحزمة؛ حيث أعلن وزير المالية والخزانة التركي (بيرات البيرق) في الخامس والعشرين من إبريل أن إجمالي حزم المساعدات وصل إلى 200 مليار ليرة تركية[17]، قبل أن يعلن أن الرقم وصل إلى 240 مليار ليرة وذلك في الثالث عشر من مايو 2020[18].

أعلن الوزير عن أعداد المستفيدين من حزم المساعدات، والتي كانت كالتالي[19]:

– استفاد 5 مليون و582 ألف مواطن من دعم المادي النقدي المقدم للأسر محدودة الدخل، بإجمالي 33 مليار ليرة تركية.

– استفاد 1 مليون و16 ألف حرفي من الدعم المقدم للحرفيين وأصحاب المهن من الدعم المقدم لهم، بإجمالي 23 مليار ليرة تركية.

– استفاد 1 مليون و16 ألف حرفي من الدعم المقدم للحرفيين وأصحاب المهن من الدعم المقدم لهم، بإجمالي 23 مليار ليرة تركية.

وبعد استعراض البيانات المعلنة حتى الآن عن أعداد المستفيدين من حزم المساعدات التي أقرتها تركيا، يمكن القول إنه وعلى الرغم من أن تركيا دولة تتبنى النموذج الرأسمالي وتتبع نهج السوق الحر، إلا تداعيات أزمة كورونا والتي لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل أجبرت تركيا عن التخلي قليلا عن دور المنظم في الاقتصاد، والانتقال إلى التدخل المباشر بعدد من الإجراءات استهدفت عدة شرائح من المجتمع بتقديم دعم مباشر أو غير مباشر. وليس ذلك فحسب بل كانت هناك إجراءات عديدة استهدفت قطاع الأعمال إما عن طريق تأجيل سداد قروض، أو عن طريق زيادة مقدار التمويل المقدم من البنوك لشراء وحدات سكنية أو تقديم قروض لأصحاب الأعمال للمساعدة على استمرار نشاطهم الاقتصادي.

ب- البنك المركزي التركي

لا يخفى على أحد أن الصانع الأول للسياسة النقدية في مختلف دول العالم يكون في الغالب البنك المركزي، في الحالة التركية من المعلوم أيضا وجود خلاف كبير في وجهات النظر بين رئيس الجمهورية ورئيس البنك المركزي التركي السابق (مراد شيتين كايا) حول موضوع أسعار الفائدة، حيث يرى الرئيس أردوغان أن (الفائدة هي أصل الشرور)، وأن خفض الفائدة سيتبعه مباشرة انخفاض التضخم -أي أن الفائدة ليست نتيجة وإنما سبب- بينما كان كايا يتبع وجه النظر الاقتصادية الكلاسيكية وهو أن الفائدة نتيجة وليست سبب، وأن ارتفاع التضخم يقتضي منه أن يقوم برفع أسعار الفائدة. وعلى إثر هذا الاختلاف قرر الرئيس أردوغان في منتصف العام الماضي (2019) عزل كايا من منصبه[20]، وعين (مراد أويصال) خلفًا له.

 في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مستثمري ما يُعرف بالأموال الساخنة[21] يسرهم بلا شك زيادة الفائدة، وأنهم سرعان ما يبيعون ما بأيديهم من سندات وأذون حكومية لأي دولة تقوم بخفض معدلات الفائدة فيها، وأن هذا يؤدي في بعض الأحيان إلى الضغط على عملة الدولة؛ وهذا جعل بعض الدراسات توصي صناع القرار في الاقتصاد التركي بعدم الاعتماد على تلك الأموال[22].

وفي الحقيقة فإن الهدف من ذكر تلك المقدمة هو الإشارة إلى أن موضوع السياسات النقدية ومعدل الفائدة سنجد لاحقًا أنه يتشابك وبشدة مع الإجراءات التي قامت بها الدولة لمجابهة تداعيات فيروس كورونا؛ إذ اضطلع البنك المركزي بدور كبير في هذا الصدد كما سيتبين لاحقا.

في البداية، كان يوم السابع عشر من مارس شاهدا على التدخل الأول من قبل البنك المركزي التركي؛ إذ قام باتخاذ عدة إجراءات تهدف بالأساس إلى التخفيف من الآثار السلبية لفيروس كورونا على الاقتصاد التركي، كان منها:

1- زيادة المرونة في إدارة السيولة النقدية لليرة التركية والعملات الأجنبية.

2- تعهد البنك المركزي التركي بتأمين سيولة إضافية للمصارف لضمان استمرار تدفق القروض للقطاع الحقيقي.

3- دعم تدفق النقد للشركات المصدِّرة من خلال تنظيم قروض إعادة الخصم[23][24].

بعد ذلك، قرر المركزي خفض معدل الفائدة ثلاث مرات، كل مرة بمقدار 100 نقطة أساس، وذلك في تواريخ: 18 مارس، 23 إبريل، 22 مايو، وذلك حتى وصل معدل الفائدة الذي تم إقراره في اجتماع شهر مايو إلى 6.75%، 9.75% للإيداع والإقراض على الترتيب[25]. وهو ما يعني أن البنك انحاز لوجهة النظر التي يدعمها الرئيس أردوغان، وهو أيضا ما جعل الاقتصاد التركي يشهد موجة بيعية كبيرة أصابت السندات والأسهم الحكومية بلغت 7 مليار دولار منذ اندلاع أزمة كورونا، بجانب خروج استثمارات أجنبية من سوق الأسهم التركي بمقدار 4 مليار دولار، وهو ما يعني خروج 11 مليار دولار خلال تلك الفترة[26].

على صعيد التصدي للآثار السلبية لفيروس كورونا على الاقتصاد التركي، اتخذ البنك المركزي قرارات أخرى متعلقة بتسهيل آليات اقتراضه من البنوك وما يقوم به من طرح سندات لكي يجعل من السهل على البنوك شرائها، وبسبب كون بعض هذه الآليات فنية؛ لذا لن تتعرض الورقة إلى تفصيلها[27].

من خلال الآليات آنفة الذكر حاول المركزي أن يُسهل على البنوك آليات الاقتراض والإقراض، ولكن تشير دراسة قام بها مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي (SETA) إلى أن قيام بعض البنوك الخاصة وبخاصة صاحبة رأس المال الأجنبي بالتباطؤ في توفير قروض للقطاع الحقيقي، وهو ما دفع هيئة التنظيم والرقابة البنكية (BDDK) إلى إقرار نظام النسبة النشطة[28]، وإلزام البنوك بتطبيقها، وإقرار غرامات على البنوك التي لا تلتزم بها[29]، والهدف من ذلك كله تشجيع البنوك على تقديم قروض للمواطنين وقطاع الأعمال.

 ولكن بالرغم من ذلك تم ملاحظة قيام بعض البنوك بتشجيع بعض الراغبين في الحصول على قروض إلى الاتجاه إلى أدوات الدين الحكومي، وهو ما يؤكد من وجه نظر التقرير على أهمية امتلاك البنك المركزي مستقبلا آليات يستطيع من خلالها الوصول إلى أسواق رأس المال مباشرة والقيام بعمليات الإقراض[30]. في هذا الصدد أعلن بنك التنمية والاستثمار التركي طرح قروض للمستثمرين ممولة من البنك المركزي التركي بقيمة 18 مليار ليرة، لآجال تصل إلى 10 سنوات، بنسبة فائدة ثابتة 7.75%[31].

ويلاحظ من كل ما سبق أن دور البنك المركزي التركي لم يقتصر فقط على تخفيض سعر الفائدة، وإنما تخطى ذلك إلى مساعدة البنوك في طرح قروض للمواطنين وأصحاب الأعمال، وهو ما يعني أن أزمة كورونا وتداعياتها جعلت البنوك المركزية تضطلع بأدوار قد تكون لم تقوم بها من قبل، وهو ما يعني أننا في عالم ما بعد كورونا قد نشهد أدوارا أكبر للبنوك المركزية، ليس فقط في تركيا، وإنما قد يمتد ذلك إلى العديد من دول العالم المختلفة.

ج- البنوك الحكومية التركية

بجانب ما قام به البنك المركزي التركي، كان أيضا لبعض البنوك الحكومية التركية الكبيرة دور أيضا في مجابهة الأثار السلبية لفيروس كورونا على الاقتصاد، ويمكن القول أن أدوار البنوك الحكومية تركزت في الأساس في فترة العودة إلى الحياة الطبيعية، حيث احتاج الاقتصاد في تلك الفترة إلى بعض الإجراءات التي من شأنها تعزيز بعض القطاعات، والتي من شأنها تشجيع النشاط الاقتصادي على أن يعود مرة أخرى لسابق نشاطه، في هذا الصدد يمكن القول أن تنشيط القطاع العقاري على العودة مرة أخرى من شأنه أن يساعد على إحداث تنشيط لأكثر من 250 نشاط اقتصادي يحتاج إليهم القطاع العقاري.

في هذا السياق، أطلقت بعض البنوك الحكومية التركية حملة لتمويل شراء عقارات بنسبة فائدة دون الواحدة في المائة. شاركت في هذه الحملة كلا من البنوك الآتية: خلق بنك، زراعات بنك، وقف بنك. على أن يكون أقصى قيمة تقدمها البنوك في المدن الثلاثة الكبرى (إسطنبول، أنقرة، أزمير) هو 750 ألف ليرة، أما باقي المدن فيكون الحد الأقصى للقرض 500 ألف ليرة.

وتصل مدة السداد إلى 15 عاما، بمعدل فائدة 0.64% (للعقارات التي تُملك للمرة الأولى)، ومعدل 0.74% (للعقارات التي سبق تملكها)، مع إمكان عدم دفع أي أقساط خلال السنة الأولى من الحصول على القرض[32].

وبجانب حزمة التمويل العقاري التي أطلقتها البنوك الثلاثة الكبرى، أطلقت حزمة تمويل أخرى لشراء السيارات، على أن تكون معدلات الفائدة من خلالها 0.49-0.69%، بشرط أن يكون الحد الأقصى الذي يقدمه البنك لشراء السيارة الواحدة 150 ألف ليرة تركية.

 توجد أيضا حزمة ثالثة لدعم الأسر التي تحتاج إلى قروض لتسير أمورها المعيشية خلال فترة الوباء، وتقدم القروض من خلال هذه الحزمة إلى من يقوم بإنتاج محلي في مجالات معينة كالأدوات الكهربية، والنجارة وغيرها. ويكون الحد الأدنى للقرض 3 آلاف، والأقصى 30 ألف ليرة، مع إمكانية عدم سداد أي أقساط خلال 6 أشهر من الحصول على القرض، ويكون معدل الفائدة على هذا القرض 0.55%.

الحزمة الرابعة والأخيرة جاءت لدعم الأسر التي ترغب في قضاء العطلة، ويتم التقديم عليها من خلال وكالات السياحة المرخص لها بالعمل داخل البلاد، بمعدل فائدة 0.67%، وبآجال سداد 36 شهر، على أن يكون الحد الأقصى للقرض 10 ليرة تركية[33].

د- مبادرات دعم القطاع الزراعي:

كان للسياسات التي اتبعتها تركيا منذ بداية الألفية الحالية أثر واضح في تنويع القاعدة الاقتصادية، ودفع عملية التنمية وزيادة الصادرات حتى وصلت إلى 180 مليار دولار عام 2019. في هذا السياق دعمت الحكومة القطاع الزراعي محدثة طفرة كبيرة في الإنتاج الزراعي التركي حيث تزايدت قيمته من أقل من 40 مليار دولار عام 2002، إلى ما يقارب 60 مليار دولار بنهاية 2019، وهو ما أدى إلى زيادة الصادرات الزراعية التركية من 3.7 مليار دولار إلى 17.7 مليار دولار خلال نفس الفترة[34]. وبذلك أصبحت تركيا سابع أكبر بلد في العالم للإنتاج الزراعي بشكل عام، ومن أكبر الدول المصدرة للمنتجات الزراعية في أوروبا الشرقية ومنطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا[35].

وبسبب الأهمية الكبيرة التي يتمتع بها القطاع الزراعي في تركيا، ودوره الكبير في تحقيق الأمن الغذائي للدولة؛ قررت تركيا عمل العديد من المبادرات التي تهدف إلى دعم العاملين في هذا القطاع الحيوي. كانت البداية بتصريح وزير الزراعة والغابات التركي (بكير باكدميرلي)، بأنه سيتم هذا العام (2020) تقديم دعم علف لأصحاب الأعمال التجارية الصغيرة لحماية مربي المواشي ومنتجي الحليب من الضرر جراء تفشي فيروس كورونا بهدف التشجيع على إنتاج حليب عالي الجودة في عام 2020.

وأفاد الوزير بأن الوزارة حددت الولايات المنتجة لنوعية حليب عالية الجودة، وهي جناق قلعة وأكسراي وبوردور، وأنها ستقوم بصرف “دعم الحليب الخام” في غضون عامين، بالإضافة إلى العمل على توفير دعم إضافي حسب جودة الحليب[36].

أما عن تفاصيل المستحقين للدعم فقد أعلن الوزير أن من لديه 20 رأس من المواشي الحلوب سيحصل على 65 ليرة عن كل رأس ماشية، وسيحصل كل من لديه 20 رأس من مواشي التسمين الذكور على 65 ليرة عن كل رأس ماشية، في حين سيحصل من لديه 50 رأس من الماعز والأغنام على مبلغ 6,5 ليرة عن كل رأس[37].

بجانب دعم إنتاج الحليب كانت هناك فئات أخرى كثيرة دعمتها وزارة الزراعة والغابات، إذ قدمت الوزارة في 20 مارس دعما للعاملين في مجال إعمار المناطق النائية، وكذلك للعائدين إلى الريف، بالإضافة إلى المزارعين العاملين بالإنتاج الحيواني، وغيرها، وقد بلغت قيمة تلك المساعدات 1 مليار و572 مليون و500 ألف ليرة تركيا[38].

حزمة أخرى من المساعدات قدمتها الدولة من خلال وزارة الزراعة والغابات إلى المزارعين، بإجمالي منح 374 مليون ليرة تركية، حيث تضمنت تلك الحزمة دعم لمنتجي الحبوب الزيتية، وكذلك دعم الإنتاج الحيواني. وتسلم المزارعين تلك المساعدات في الخامس من يونيو هذا العام[39].

ومن خلال كل ما تقدم يمكن القول إن الدولة التركية عمدت إلى دعم القطاع الزراعي لسببين، الأول هو أهمية هذا القطاع في تحقيق الأمن الغذائي للدولة، وكذلك مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، والثاني هو السعي لتقديم دعم للفئات الفقيرة والمتوسطة؛ فمن المعلوم أن المزارعين في الأغلب يكونون من بين أبناء تلك الطبقات، وهو ما يعني أن أزمة فيروس كورونا أجبرت العديد من الدول على إعادة النظر في سياسات الدعم الاجتماعي.

رابعا: نتائج مبدئية لسياسات تركيا في مواجهة تداعيات فيروس كورنا:

ضرب كورونا تركيا كما ضرب العالم، وهدفت السياسات الاقتصادية التي اتبعتها تركيا في مرحلة انتشار الفيروس بدءا من نهاية مارس إلى تخفيف الأثار السلبية للفيروس على الاقتصاد، في حين هدفت السياسات التي اتبعتها الدولة في مرحلة العودة إلى الحياة الطبيعية إلى مساعدة النشاط الاقتصادي على العودة مرة أخرى إلى نشاطه.

ورغم كونه من المبكر إصدار أحكام نهائية بشأن نجاح أو فشل تلك السياسات، إلا أنه في الوقت ذاته ومن خلال تتبع بعض المؤشرات الاقتصادية، يدافع البعض بأنه وفي حالة عدم حدوث موجة ثانية من موجات انتشار فيروس كورونا، قد تكون تركيا أحد أسرع الدول التي تتعافي من التداعيات السلبية لانتشار الفيروس على الاقتصاد، ويدللون بذلك على مؤشر مديري المشتريات، وكذا التعافي الذي شهدته الصادرات التركية في شهر يوليو الماضي. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:

أ- مؤشر مديري المشتريات:

مؤشر مديري المشتريات (PMI) يُعنى بقياس مدى قدرة القطاع الخاص غير النفطي، وذلك عن طريق عمل استبيان لمديري المشتريات في مجموعة من الشركات لمعرفة مدى تفاؤلهم أو تشاؤمهم بشأن النشاط الاقتصادي في المستقبل القريب. وليس يخفى على أحد أن كل دول العالم قد عانت من تراجع كبير في هذا المؤشر خلال الأولى لانتشار فيروس كورونا، ولكن نجحت بعض الدول في دفع المؤشر مرة أخرى للصعود، وعند مقارنة تركيا بدول المنطقة الأوربية أو الصين أو الولايات المتحدة الأمريكية؛ نجد أن مؤشر تركيا قد حقق نتيجة أعلى منهم، وذلك على النحو الذي يوضحه الشكل (1).

شكل (1): مؤشر مديري المشتريات لكل من الاتحاد الأوروبي وتركيا والصين والولايات المتحدة واليابان[40].

تركيا ـ الإدارة الاقتصادية لتداعيات كورونا-1

من خلال الشكل السابق يتضح أن كل الدول عانت من انخفاض ملحوظ في المؤشر خلال فترة انتشار فيروس كورونا، ويتضح أيضا حدوث تعافي على شكل حرف “V” وهو بلا شك ما تطمح كل الدول إلى الحفاظ على هذا التحسن وعدم حدوث انخفاض للمؤشر مرة أخرى، ويلاحظ أيضا أنه في الوقت الحالي -أي وقت كتابة الورقة- فإن تركيا من أعلى الدول، حيث سجلت 53.9 نقطة، وهو ما يعكس تفاؤل مديري المشتريات في الشركات في الفترة المقبلة.

ب- الصادرات التركية في شهر يوليو:

بلغت قيمة الصادرات التركية في شهر يوليو 15 مليارا و12 مليون دولار أمريكي، وهو ما يعني زيادة عن الشهر يونيو بنسبة 11.5%. في السياق ذاته أشارت وزيرة التجارة التركية (روهصار بيكجان) إلى أن هذا الرقم يعد علامة على سرعة تعافي قطاع الصادرات التركية، وعلى أن قيمة الصادرات التركية تشهد في الوقت الحالي عودة إلى مستويات ما قبل انتشار وباء فيروس كورونا[41].

ج- وفيما يتعلق بنتائج حزمة التمويل العقاري:

 فقد أعلن جهاز الإحصاء التركي عن أن عدد العقارات التي تم بيعها في شهر يونيو بلغ 190 ألف و12 عقارا، وهو ما يعني نسبة ارتفاع بلغت 209.7%، عن نفس الشهر من العام الماضي. وهو ما يعني أن الحملة شجعت العديد من الأفراد على السعي للحصول على عقار في الوقت الحالي [42].

وفي الحقيقية لا تعتبر البنوك الحكومية وحدة منفصلة ومستقلة بذاتها عن الجهاز المصرفي للدولة، إذ يمكن اعتبار أنها اليد الطولى للدولة، وأن الدولة ارتأت أن هذه البنوك سيكون منوطا بها القيام بدور هام وحيوي في ظروف صعبة كالتي يمر بها الاقتصاد اليوم، مستهدفة أن تساهم في إنعاش الاقتصاد، ومساعدة الأفراد والشركات على تخطي الأثار السلبية للجائحة، وهو عين ما تقوم به البنوك الحكومية التركية حاليا. ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نتصور أن مثل هذه المبادرات لن تعود ببعض الخسائر على ميزانيات تلك البنوك، ومن المؤكد أيضا أن الدولة ممثلة في البنك المركزي والخزانة العامة ستستعى إلى تعويض بعض خسائر هذه البنوك.

خاتمة

من خلال تتبع أبزر الإجراءات التي قامت بها تركيا وتحليل بعض النتائج التي ظهرت، يمكننا استنتاج النتائج العامة التالية:

1- بالرغم من كون تركيا دولة رأسمالية تتحكم فيها قوى العرض والطلب، إلا أنها في وقت أزمة كورونا قامت العديد من الإجراءات التي من شأنها تشجيع جانبي العرض والطلب في الاقتصاد؛ وذلك بغية مجابهة الأخطار التي ينتظرها الاقتصاد جراء انتشار فيروس كورونا.

2- التدخلات التي قامت بها تركيا في الاقتصاد، لم تنحاز إلى طبقة ما دون الأخرى، كما أنها شملت جانبي العرض والطلب في الاقتصاد، كما أنها لم تكن مقتصرة على قطاع/نشاط اقتصادي دون الأخر، بل على العكس من ذلك إذ حرصت الدولة على أن تتوجه بالإجراءات إلى مساعدة الطبقات الفقيرة، وكذا المتوسطة، بجانب بعض الإجراءات التي تخدم رجال الأعمال كما كانت هناك إجراءات للقطاع السياحي الذي تأثر بشدة هو وقطاع التجارة الخارجية، أيضا قطاع العقارات وما يخدمه من قطاعات كان لها نصيب من المساعدات. وهو ما يعني أن الحزم والإجراءات حرص من أطلقها على أن تكون عامة ومتنوعة، وألا يقتصر أثرها على طبقة دون الأخرى.

3- يتضح أيضا من مراجعة السياسات والإجراءات أن البنك المركزي اضطلع بدور كبير، ليس فقط عن طريق أدواته الاعتيادية، مثل خفض معدل الفائدة، بل تعدى ذلك إلى إعطاء قروض للبنوك لكي تقوم بتوفير قروض للعملاء، بجانب أدوار أخرى ذكرتها الورقة؛ وهو ما يعني أن عالم ما بعد كورونا في تركيا – وربما في بعض الدول الكبري- ستكون للبنوك المركزية فيه دورا في إنعاش النشاط الاقتصادي.

4- البنوك الحكومية هي الأخرى كان لها دور في إنعاش النشاط الاقتصادي بعد فترة الإغلاق، حيث قامت بإطلاق مبادرات لتوفير قروض، عقارية وغيرها بهدف مساعدة بعض فئات المجتمع على تخطي الأثار السلبية للجائحة بجانب إنعاش النشاط الاقتصادي.

5- نجحت الديبلوماسية الصحية التركية من خلال توزيع المساعدات الصحية للأكثر من 40 دولة، علاوة على إعلانها الاستعداد لتبوا مكانة اقتصادية أكبر في مرحلة ما بعد كورونا، مما قد يشير الي بعض الإجراءات العولمية التي تستهدف من خلالها الدول الكبري علاج الآثار السلبية التي أظهرها الفيروس، والتي قد تتمدد تركيا في فراغات اقتصادية عالمية محتملة.

6- لان التنمية التركية متوازنة الي حد كبير، ولم تهمل أي من القطاعات الاقتصادي فقد جاءت الإجراءات الاقتصادية متوازنة ومستهدفة لكل القطاعات، لاسيما القطاع الزراعي، كما استهدفت تنشيط القطاع العقاري من خلال توفير التمويل للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

7- ساهمت الإجراءات المساندة للعمالة المتضررة من الإغلاق، والإجراءات التي استهدفت المتقاعدين من كبار السن، في الحد من تداعيات الإغلاق على الفقراء، لاسيما أولئك الذين يتقاضون الحد الأدنى من الأجور.


الهامش

[1] GDP (current US$) – Turkey, The World Bank Data, link.

[2] Ismet Gocer, Sahin Bulut and M. Metin Dam, Doğrudan Yabancı Yatırımların Türkiye’nin İhracat Performansına Etkileri: Ekonometrik Bir Analiz, Business and Economics Research Journal, Volume 3, Number 2, 2012, link.

[3] جلال سلمي، السياسة التركية حيال الأزمة السورية “2011 ـ 2017”، المركز الديمقراطي العربي، 23 يونيو 2017، رابط.

[4] كان من بين تلك الإجراءات: تجميد اتفاقيات بناء مناطق تجارة حرة. إقرار زيادة بنسبة 30%على ضريبة جمارك البضائع التركية التي سيتم إدخالها إلى الأراضي السورية في إطار مشروع دعم إعمار المناطق القروية. تحديد كمية النفط المباع للسيارات الموجودة في سوريا وذات الأرقام التركية بـ 50 لتر فقط، والشاحنات الكبيرة 600 لتر، والشاحنات الصغيرة 550 لتر، والحافلات الكبيرة 400 لتر، والحافلات الصغيرة 200 لتر، على أن يُباع اللتر الواحد بـ 80 ليرة سوري. فرض ضريبة عبور على الشاحنات التركية الموجودة في سوريا والذاهبة نحو تركيا بضرب وزن الحمولة بمسافة الطريق وضرب المجموع بـ 2%. المصدر السابق.

[5] Erdal Tanas Karagöl, 15 TEMMUZ DARBE GİRİŞİMİ VE TÜRKİYE EKONOMİSİ, Adam Akademi Sosyal Bilimler Dergisi, 6 (2), ss. 37-49. DOI: 10.31679/adamakademi.285017

[6] Mevlüt Tatlıyer, 15 Temmuz Sonrası Türkiye Ekonomisi, Kriter Temmuz – Ağustos 2017 / Yıl 2, Sayı 15, bağlantı.

[7] Ekonomi de direndi, hürriyet, 15 Temmuz 2019, bağlantı.

[8] Türkiye ekonomisi 2020 yılı büyüme tahmini yüzde 5, hürriyet, 4 kasım 2019, bağlantı.

[9] Türkiye’nin turizm geliri 2019’da yüzde 17 arttı, CNN Türk, 31 Ocak 2020, bağlantı.

[10] Strateji ve Bütçe Başkanlığı, 2020 Yılı 1. Çeyrek Büyüme Verileri açıklandı, T.C. Cumhurbaşkanlığı, bağlantı.

[11] سعيد عبد الرازق، «موديز» تتوقع انكماش الاقتصاد التركي 5%، الشرق الأوسط، 04 يونيو 2020، رقم العدد 15164، رابط.

[12] Evren Balta and Soli Özel, The Battle Over the Numbers: Turkey’s Low Case Fatality Rate, Institut Montaigne, 4 May 2020, link.

[13] Ahmed Mohsen, Government Responses Toward the Coronavirus Crisis: A Comparative Analysis of Egypt, Turkey, and Saudi Arabia, Al Sharq Strategic Research, 20 July 2020, p.10, link.

[14] منى عوض، «كورونا» يقود الاقتصاد التركى إلى وضع قاتم، جريدة البورصة، 6 مايو 2020، رابط.

[15] Koronavirüse karşı ekonomik tedbirler! Erdoğan 19 maddeyi tek tek saydı,CNN Türk, 18 mart 2020, bağlantı.

[16] زاهر البيك، تركيا.. حزمة تدابير اقتصادية جديدة لمواجهة كورونا، الجزيرة نت، 19 إبريل 2020، رابط.

[17] Merve Özlem Çakır, Bakan Albayrak: Ekonomik İstikrar Kalkanı kapsamında atılan adımların tutarı 200 milyar liraya ulaştı, Anadolu Ajansı, 25 Nisan 2020, bağlantı.

[18] Ekonomik İstikrar Kalkanı Adımlarının Maddi Tutarı 240 milyar TL’ye Ulaştı, Yeni Şafak, 13 Mayıs 2020, bağlantı.

[19] Ekonomik İstikrar Kalkanı Adımlarının Maddi Tutarı 240 milyar TL’ye Ulaştı, a.g.m.

[20] Erdoğan, Merkez Bankası Başkanı Çetinkaya’nın görevden alınma nedenini açıkladı, Sputnik News, 7 Temmuz 2019, bağlantı.

[21] يُقصد بالأموال الساخنة أنها تلك التدفقات المالية التي تأتي من خارج الدولة بالعملات الأجنبية، حيث يكون الهدف من ضخ المستثمرين لها هو الاستفادة من فارق سعر الفائدة. ويُعد الاستثمار في أدوات الدين الحكومي (كأذونات الخزانة أو غيرها) أو الاستثمار في البورصة هي الوجهة المفضلة لهذه الأموال. والأزمة الكبيرة للأموال الساخنة هي أنها قد تساعد على المدى القصير في تحسين بعض المؤشرات الاقتصادية عن طريق زيادة النقد الأجنبي، لكن أثرها يكون سلبي حين يحدث العكس، كما أنها لا تساهم في تقليل معدلات البطالة أو تحسين أيا من مؤشرات الاقتصاد الحقيقي.

[22] Ömer Uğur Bulut, Sadık Rıdvan Karluk, The Effect of Hot Money Flow on Pre-Crisis Indicators of Current Accounts and Real Sectors in Turkish Economy, International Journal of Business and Social Research, Volume 06, Issue 11, 2016.

[23] 17 Mart 2020 tarihli Koronavirüsün Olası Ekonomik ve Finansal Etkilerine Karşı Alınan Tedbirlere İlişkin Basın Duyurusu, bağlantı.

[24] سعيد الحاج، تركيا: هل تنجح “درع الاستقرار الاقتصادي” في مواجهة آثار كورونا؟، مركز الجزيرة للدراسات، 5 إبريل 2020، رابط.

[25] TCMB Faiz Oranları (%) Gecelik (O/N), Türkiye Cumhuriyet Merkez Bankasının Resmi Sitesi, bağlantı.

[26] Hazine’nin borçlanmasında yabancı yatırımcı oranında büyük düşüş, Cumhuriyet, 9 Temmuz 2020, bağlantı.

[27] للاستزادة حول تلك الآليات يمكن مراجعة البيانات الرسمية التي أعلنها المركزي على موقعه من خلال الروابط التالية:

31 Mart 2020 tarihli Koronavirüsün Ekonomik ve Finansal Etkilerine Karşı Alınan İlave Tedbirlere İlişkin Basın Duyurusu, bağlantı.

17 Nisan 2020 tarihli Koronavirüsün Ekonomik ve Finansal Etkilerine Karşı Alınan İlave Tedbirlere İlişkin Basın Duyurusu, bağlantı.

[28] النسبة النشطة هي آلية أقرتها هيئة التنظيم والرقابة والهدف منها أن تساوي كمية القروض + 75% من الأسهم والسندات + 50% من (swap) أن يكون مساويا لـ إجمالي إيداعات العملاء بالليرة التركية + 125% من الإيداعات بالعملات الأجنبية. ومن أجل أن تكون النسبة أكثر من 100% يتعين على البنوك أن تقوم بتوفير قروض أكثر لعملائها؛ كيلا يتم توقيع عقوبات عليها.

المصدر:

Özel bankalar için kredi düzenlemesi, sozcu, 18 Nisan 2020, bağlantı.

[29] في وقت كتابة التقرير -أي في نهاية شهر يونيو- قررت هيئة التنظيم والرقابة البنكية التركية توقيع عقوبات على كل من بنكي HSBC وAlbaraka Türk بقيمة 180 و20.6 مليون ليرة تركية على الترتيب؛ وذلك لعدم التزامهم بتطبيق النسبة المقررة.

المصدر:

BDDK’den iki bankaya Aktif Rasyosu cezası, Bloomberg HT, 29 Temmuz 2020, bağlantı.

[30] Nurullah Gür, Mevlüt Tatlıyer, Şerif Dilek, EKONOMİNİN KORONAVİRÜSLE MÜCADELESİ, SİYASET, EKONOMİ VE TOPLUM ARAŞTIRMALARI VAKFI, Rapor, SETA Yayınları 163, 2020.

[31] TKYB’den 10 yıla kadar vadeli “Yatırıma Destek” TL kredisi, Bloomberg HT, 8 Haziran 2020, bağlantı.

[32] 1 yıl ertelemeli Halkbank, Vakıfbank Ziraat Bankası faiz oranları! Konut kredisi faiz oranları ve ödeme tablosu, hürriyet, 2 Haziran 2020, bağlantı.

[33] Murat Birinci, Kamu bankalarından 4 yeni kredi destek paketi, Anadolu Ajansı, 1 Haziran 2020, bağlantı.

[34] أحمد ذكر الله، وفرة السلع الزراعية التركية تتحدى أزمة كورونا، TRT عربي، 1 إبريل 2020، رابط.

[35 المصدر السابق.

[36] تركيا.. دعم حكومي لمربي المواشي ومنتجي الحليب للمحافظة على الجودة بعد أزمة كورونا، ترك برس، 20 يوليو 2020، رابط.

[37] المصدر السابق.

[38] Tarım ve Orman Bakanlığı Hibe ve Teşvikleri 2020 Programı, Kosgeb Destekleri, bağlantı.

[39] Tarım ve Orman Bakanı Pakdemirli çiftçilere yapılan desteği açıkladı, a haber, 5 Haziran 2020, bağlantı.

[40] Cumhur Ornek, #PMI verilerinde #Japonya hariç “V”…!!!, bağlantı.

[41] Bakan Pekcan: Temmuz’da ihracat 15 milyar dolar oldu, Bloomberg HT, 4 Ağustos 2020, bağlantı.

[42] TÜİK: Konut satışları haziranda yüzde 209.7 arttı, Sputnik News, 14 Temmuz 2020, bağlantı.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close