fbpx
قلم وميدان

في وصف أخلاق أهل السياسة

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

في وصف أخلاق أهل السياسة

اللقطة الأولي: سهيل المفاوض السياسي 

بعقلٍ مُثقلٌ بالهموم ووجه مِلؤُه الكآبة وبصدرٍ ضيقٍ حرج؛ أقبل سهيل بن عمر وعلي معسكر المسلمين الضاربين خيامهم حول مكة، يقول في نفسه: انظر يا سهيل أين كان هؤلاء بالأمس القريب !! وأين هم الآن؟!؛ لقد كانوا منا فُرّاراً واليوم أوشكنا أن نفر منهم في كل موطن، ولا زلنا نخسر أمامهم في كل يوم جولةً تلو جولة. ثم إنه قد امتقع لونه وزاد كربه لما خطا بقدميه في داخل خيام المسلمين ولمح هذه الفرحة تطل من عيونهم وهذا اليقين بنصر الله ينضح من قسماتهم.

ولكن سهيلاً تاجرٌ أريب ومفاوضٌ عتيد؛ و”كمبعوث دبلوماسي” حاول أن يرسم علي وجهه مزيجاً من الصرامة والهدوء واللامبالاة، ودخل في تفاوض شاق مع النبي الكريم صلي الله عليه وسلم والذي كان من نتيجته تلك الشروط الصعبة التي ظاهرها فيه إجحاف للمسلمين. ثم كانت الواقعة الشهيرة لأبي جندل بن سهيل بن عمر والذي خرج من معسكر المسلمين وهو يُضرب بقسوةٍ ويُجرّ في قيوده بيدي سهيلٍ الغاضب.

#الترند

توقفت عند هذه اللقطة من السيرة العطرة وخطر لي خاطرٌ عجيب، ماذا لو كانت وسائل التواصل الاجتماعي حاضرةً في هذه اللحظة؛ فماذا ستفعل اللجان الإلكترونية لقريش والذباب الإلكتروني للمنافقين؟

الترند سيكون #نهاية_محمد

اللجان الإلكترونية لقريش كانت ستنشر تحت هذا الترند صورة أبو جندل وهو يُضرب ويهان ويُجرّ في قيوده من أبيه سهيل وسيكون التعليق تحتها “محمد يتخلى عن أصحابه – انشقاق في معسكر المسلمين”

وسينشر الذباب الإلكتروني للمنافقين صورة المصافحة بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو وسيكون التعليق تحتها “محمد يصافح قاتل أصحابه”.

لفت انتباهي خطورة تدليس المواقف وإعادة تصويرها بشكل خبيث ومجتزأ فعندها يصبح التفاوض السياسي هو وضعٌ ليديك بيد الأعداء ويتحول تطبيق بنود الاتفاق السياسي إلي خيانة صريحة.

اللقطة الثانية: بين عثمان وعمر

بالعودة إلي أحداث صلح الحديبية سألت نفسي ماذا لو قابل سيدنا عمر بن الخطاب سهيلاً بن عمرو(الكافر وقتها) قبل صلح الحديبية، فهل كان سيصافحه أو يبش في وجهه؟ مما نعرفه عنه رضي الله عنه فإنه لربما قاتله ولا يبالي، هي لقطة عنوانها “لا كلام لا حوار إنها المفاصلة”.

وفي المقابل فقد أرسل النبي صلي الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه “كمبعوث دبلوماسي” إلي مكة، ولو افترضنا أنه قد قابل سهيلاً الكافر والذي تخضبت يداه بدماء المسلمين، فمن الطبيعي أن يحدثه ويحاوره ويحاجّه، وهي لقطة عنوانها “حوار الدبلوماسية للوصول للتفاوض المباشر”.

إن تأملنا في موقفي عمر وعثمان رضي الله عنهما، سيقفز إلي أذهاننا السؤال الطبيعي لماذا هذا التباين الواضح بين الموقفين في نفس الزمان والمكان والظروف؟ الفارق من وجهة نظري هو أن التموضع السياسي لكلٍ منهما مختلف، فعمر في الموقف الأول هو واحدٌ من عموم الناس (ليس له منصب رسمي)، أمّا في الموقف الثاني فعثمان هو مبعوث سياسي من طرف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

والفارق بين الموقفين هو الفارق بين أخلاق الفرد وأخلاق السياسي؛ فإنه يسع السياسي ما لا يسع الفرد، وعثمان رضي اللّه عنه كان يتصرف بصفته الرسمية “عثمان المبعوث الدبلوماسي”؛ وليس عثمان بن عفان الذي هومن عموم المسلمين. فالسياسي ينطلق دائماً من مصلحة قضيته – دينه – أمته، وأحيانا مصلحة حزبه، لذا فهو يحاور ويناور ويتفاوض. أمّا الفرد فليس له تداخل مع أي طرف سياسي سواء كان حليفاً أوعدواً؛ فما من شيءٍ يدفعه أن يجالس عدوه ويبتسم في وجهه ويتفاوض معه. بل إنه “كفرد” سيعتبر أنه حتي مقابلة عدوه هي بلا شك خيانة، ولذلك ترى مثلاً الرياضيين وهم من عموم الناس ينسحبون من ملاقاة أي إسرائيلي في أي مسابقة رياضية، وتتلقى الأمة ذلك بالحفاوة والإكبار.

بوصلة الفرد المسلم دائماً هي أخلاق وقيم الإسلام المطلقة، وأما بوصلة السياسي فهي مصلحة قضيته ومصلحة أمته (ضمن الإطار الذي تضبطه الشريعة الغراء)، وهو دائماً يوازن بميزان دقيق وحساس بين أهون الشرين وأخف الضررين فيحتمل أحدهما ليحقق المصلحة.

مثال آخر

فلنضرب مثالاً آخر لنوضح به ما يسع الفرد وما يسع السياسي، بما أننا قد ابتلينا ببدء التطبيع مع إسرائيل في عدة عواصم عربية، فلربما -ويا للمصيبة- قد نصادف يوماً السفاحة تسيبي ليفني في أحد الفنادق أو الملتقيات، فهل يجوز لك كمسلم أن تبتسم لها أو تتصور معها “سيلفي” مثلاً، بالطبع هذا لا يجوز ولدينا سيلٌ من النصوص الشرعية. ولكن على الجانب الآخر لو افترضنا أنك وزير للخارجية أو دبلوماسي أو سياسي بارز أو، أو، أو….، فليس مستغرباً أن تلتقي معها أو يلتقط لكما الصحفيون صوراً ولربما تضطر لإلقاء كلمة بروتوكولية…إلخ

إذن فأنت “كسياسي” هل ما تفعله حراماً؟! والإجابة ليست نعم وليست لا، بل هي تتوقف على ميزان المصالح والمفاسد، فقد تكون المصلحة في أن ترفض مقابلتها “كسياسي” وأن يكون الحوار بينكما من خلال وسيط، وقد يُرجح ميزان المصالح والمفاسد كفة ضرورة اللقاء لأن فيه دفع لمفسدة أوجني لمصلحة أكبر تخدم بها قضيتك وأمتك.

والسيرة النبوية ووقائع الخلفاء الراشدين المهديين ملأي بالأقوال والأفعال ومواقف أهل السياسة التي لا تستطيع أن تضعها في ميزان الإسلام إلا بصفتهم السياسية لا بأشخاصهم أبداً.

وإلا فأخبرني بالله كيف تضع في ميزان الإسلام أقوال وأفعال سيدنا نعيم بن مسعود ودوره العظيم في وقائع غزوة الخندق؛ فلا يمكن وضعها في ميزان الإسلام “كفرد” فلن يكون ذلك مقبولاً وشرعياً، فقط يكون مقبولاً ومثاباً عليه عظيم الثواب بإذن الله بوصف سيدنا نُعيم رضي الله عنه ” كعنصر مخابراتي” في دولة الإسلام.

الإطار الحاكم

وإذن فهل يعني ذلك أن الإسلام لا يتدخل في السياسة، وهل يعني ذلك أن العمل السياسي لا يدخل في دائرة الإسلام؟!

والاجابة: بالعكس تماماً فقواعدنا الشرعية ثابتة فالشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، والإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً وبالطبع فإن من بينها كل أعمال السياسيين. والنقطة الفاصلة والمحورية هنا في رأيي المتواضع هي أن الإسلام يحكم على تصرفات الفرد طبقاً لقيم الإسلام المطلقة المثبتة في نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، بينما يحكم على أقوال وأفعال ومواقف أهل السياسة بصفتهم لا بأشخاصهم وذلك بالرجوع لمصالح الأمة العليا كما قال الإمام بن القيم رحمه الله “الشريعة مصلحة كلها، وأيّما مسألةٍ تُخرجنا من المصلحة إلى المفسدة فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل”؛ ولأن أقوال وأفعال ومواقف السياسيين البارزين لا تمثلهم شخصياً ولكنهم يمثلون الدول والحركات والأحزاب التي ينتمون إليها. لذا فإن الإسلام يحكم عليهم بصفتهم التي يمثلونها لا بأشخاصهم.

ضوابط الميزان

أود أن ألفت النظر إلي عدد من التنبيهات المتعلقة بميزان المصالح والمفاسد:

 ⁃ لا يجب أبداً استسهال وتبسيط الخروج بنتائج ميزان المصالح والمفاسد بشكل متسرع ودون تقليب المسألة علي كافة وجوهها والتأكيد علي أن عملية “الوزن” هذه لا تكون فردية بل تكون بشوري جماعية تشمل العلماء وأهل الاختصاص وإلا فإنها ستتحول لمدخل عظيم من مداخل الشيطان.

 ⁃ ليكن معلوماً أن احتمالات الخطأ في ميزان المصالح والمفاسد أكبر بكثير من احتمالات الخطأ في الاجتهاد الفقهي، ذلك أنه في الاجتهاد الفقهي لدينا نصوص نعتمد عليها وتنطلق منها ونختلف في صحتها وفي تأويلها، ولكن الاجتهاد السياسي غالباً بلا نصوص وإنما هو فقط تقدير للمصالح والمفاسد المتوقعة ولذا فتكون احتمالات الخطأ أكبر ومساحة الاختلاف أوسع.

 ⁃ لا توجد نتائج ثابتة (دائمة) في موازين المصالح والمفاسد، فلأن الظروف السياسية دائمة التقلب والمواقف دائمة التأرجح والأحداث لا تتوقف فلابد من إعادة النظر بشكل مستمر في هذه النتائج طبقاً للمتغيرات التي لا تتوقف

 ⁃ لا بدّ من الابتعاد عن مصادمة عواطف الناس وإلا ستفقد بالتدريج قواعدك السياسية المحبة والمؤيدة.

عودة للحديبية

في الحديبية، عندما اصطدم ما رجح من موازنات السياسة مع عواطف الناس وهاجت المشاعر بل وعلت الأصوات التي تندد بالاتفاق؛ عندها نزل القرآن ليحسم الجدل ويصف الاتفاق السياسي بأنه فتحٌ مبين فهدأت نفوس الناس وسكنت إلي مشيئة الله واطمأنت إلي تدبيره.

وفي عصرنا فإن أهل السياسة لا يتخذون موقفاً أو قراراً سياسياً إلا بعد أن يصدروا ما يسمونه “تقدير موقف” وغالب القرارات السياسية قد لا تُصادم مشاعر عامة الناس ولكن بعض القرارات والمواقف بالتأكيد تُحدث جلبةً كبيرة وقد تهيج المشاعر وتدفع عوام الناس لاتخاذ مواقف حادة بل وحادة جداً أحياناً، ونعلم أيضاً أنه في معظم الأحوال لا يمكن نشر “تقدير الموقف” علي عامة الناس لأسباب تكتيكية وأمنية كما أن اللغة التي يُكتب بها تقدير الموقف تكون عادةً أعلي كثيراً من فهم عوام الناس.

لذا أري أنه في القرارات المفصلية المثيرة للجدل والتي تتلمس مساراً بين ألغام الإعلام ولهب العواطف؛ أري أن يتأنى أهل السياسة في الإعلان عنها ويبدأوا في توسيع دائرة النقاش وتهيئة الرأي العام بشكل متدرج، وتوصيل “تقدير الموقف” لأهل الثقة من علماء الأمة الثقات كالددو والقرضاوي والريسوني، فإذا نضج الموقف يمكن قطف الثمرة بالإعلان عنه.

نقطةٌ أخري في نفسي أحببت أن أذكرها؛ يجب أن يراعي “تقدير الموقف” الذي يصدره رجل السياسة صاحب الدِين؛ يجب أن يراعي مقاصد الإسلام العليا بل وينطلق منها ولا يتخطاها أبداً، وإلا فأخبروني بالله عليكم ما هو الفارق بين ما يصدره المسلم المتدين كوثيقة تقدير موقف وبين ما يصدره هذا الشيوعي أو العلماني أومن لادين له من متملقي الطواغيت، أحياناً أقرأ فلا أجد أثراً أو ذكراً أو رائحة لقيم الإسلام العليا في الوثيقة.

مصائب القُطْرية

للأسف فإن “القُطْرية” البغيضة التي فُرضت علينا وأصبحت أمراً واقعاً – نسعي بالتأكيد للتخلص منها – ولكن مع ذلك لا بدّ من التعامل معها ومع الموازنات الاضطرارية التي تفرضها هذه القُطرية علي أهل السياسة عند اتخاذ القرار. وهنا بعض الأمثلة للمطبات والكمائن التي تنصبها القُطرية علي طريق أهل السياسة:

⁃  ماذا إذا تعارضت مصالح القضية “القُطرية” التي يسعي من أجلها السياسي مع المصالح “القُطرية” للمسلمين بقطرٍ آخر، و”المسلمون تتكاتف دماؤهم وهم يدٌ علي من سواهم”، كيف يكون التصرف؟

⁃  وماذا لو تعارضت مصالح قضية للأمة كلها مع مصالح المسلمين في قطرٍ من الأقطار؟

ولابد أن تبادرت لذهنك الآن عدد من هذه الأمثلة التي عايشناها علي مدار عمرنا والتي كان كل مثلٍ منها بمثابة فتنةٍ حقيقيةٍ بين المسلمين.

وفي رأيي المتواضع أنه لا توجد إجابة شافية أو إجابة واحدة عن هذه الأسئلة

لأن كل حالةٍ تُقدر بقدرها. ولكن مع ذلك فإننا نستطيع بالتأني والسياسة وتوسيع دائرة النقاش في كل قضية بادئين بالعلماء الثقات ثم النُخب من المثقفين والصحفيين وأهل الرأي والتخصص، رويداً رويداً حتي لا يكون عملنا بالسياسة فتنةً للناس.

الخلاصة

وإذن فأتمنى أن أكون قد أوضحت الفوارق بين قيم الإسلام المطلقة المتعلقة بالفرد المسلم وبين قيم الإسلام السياسية المتعلقة بالسياسيين والكيانات السياسية.

والخلاصة، فإننا لا نستطيع أن نحكم علي تصرفات وتصريحات ومواقف السياسيين بالكيفية التي نحكم بها علي تصرفات الأفراد من عموم الناس.

نقطة أخيرة وهي أنّ أغلب الخلق ليس في مقدورهم أن يكونوا سياسيين، بل إنهم في الغالب لا يقدرون حتي علي تفهم أفعال السياسيين التي تبدو دائمة التناقض.

وكاتب هذه السطور واحد من الناس فلربما قد أتفهم دوافع السياسيين وأقدر ما يفعلونه ولكن مع ذلك لا يمكنني الدخول لملعب السياسة فهو فن لا أطيقه. فالسياسةُ إذاً ليست لكل الناس ولكنها فقط لمن أنعم الله عليهم بهذه الملَكة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

جولة بايدن الشرق أوسطية: خرائط الرابحين والخاسرين (1)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close