fbpx
ترجمات

السياسة الأمريكية بين الليبرالية والواقعية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت صحيفة بوليتيكو اليومية الأمريكية مؤخراً مقالاً لناحال توسي، مراسل الشؤون الخارجية للصحيفة، تناول فيه مذكرة سرية تم تداولها مؤخرا عن تعليمات وتوجيهات تلقاها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون من أبرز مساعديه عن توجهات السياسة الخارجية الأمريكية. وفي إطار نقل المعارف، مع حفظ حقوق الملكية الفكرية، قامت وحدة الترجمة بالمعهد المصري للدراسات بترجمة المقال، وذلك على النحو التالي:

كشفت مذكرة سرية تم تسريبها مؤخراً عن توجيهات وصلت إلى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون من أبرز مساعديه بعد ثلاثة شهور من توليه منصبه حول موقف الولايات المتحدة من قضية حقوق الإنسان، وذلك بعد تصريح مثير للجدل صدر عن تيلرسون حينها حول ضرورة عمل توازن بين القيم الأمريكية ومصالح الولايات المتحدة حول العالم.

جاءت هذه الإرشادات التي بعث بها براين هوك، أبرز مساعدي تيلرسون للسياسات، إلى رئيسه في السابع عشر من مايو 2017 على شكل مذكرة توجيهية سرية بعد تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها وزير الخارجية في الثالث من مايو حول ضرورة تحقيق توازن بين القيم التي تؤمن بها الولايات المتحدة ومصالحها.

وكان ريكس تيلرسون قد أثار قلق الدبلوماسيين المخضرمين بعد ثلاثة أشهر فقط من توليه منصب وزير الخارجية من خلال تصريحات بدت وكأنها تعبر عن تحول محتمل في السياسة الخارجية الأمريكية، حين قال إن على الولايات المتحدة أن تحرص على ألا تسمح لقيم مثل حقوق الإنسان أن تكون “عقبة” في طريق سعيها لتحقيق مصالحها.

أثار هذا التصريح، الذي أدلى به تيلرسون في تجمع لموظفي وزارة الخارجية، احتجاجا بين مسؤولين أمريكيين سابقين وناشطين في مجال حقوق الإنسان خشية أن تتخلى أمريكا عن رسالتها الحيوية نحو العالم. وبعد أسبوعين من هذا التصريح، كتب أحد كبار مستشاري تيلرسون توجيهات مختصرة، في شكل مذكرة سرية بعث بها إلى رئيسه، يشرح فيها “الجدل الدائر حول المدى الذي يمكن الوصول إليه في التأكيد على حقوق الإنسان، وتعزيز الديمقراطية، وكذلك القيم الليبرالية في السياسة الخارجية الأمريكية.”

وتبدو مذكرة 17 مايو، التي كتبها هوك، وكأنها برنامج تعليمي مكثف لرجل الأعمال الذي تحول إلى دبلوماسي (تيلرسون)، وتقدم خاتمة المذكرة رؤية واقعية تقول بوضوح شديد إنه: يجب على الولايات المتحدة أن تستخدم حقوق الإنسان كسلاح ضد خصومها، مثل إيران والصين وكوريا الشمالية، في حين أنه يمكنها غض الطرف عن حلفائها القمعيين مثل الفلبين ومصر والمملكة العربية السعودية.

وجاء في المذكرة، التي كتبه براين هوك، كبير مساعدي تيلرسون للسياساتً: “ينبغي معاملة الحلفاء معاملة مختلفة – أفضل من الطريقة التي نعامل بها الخصوم – وإلا، فإننا في نهاية المطاف سيكون لدينا كثير من الخصوم، وقليل من الحلفاء.”

ومن غير الواضح ما دفع هوك إلى كتابة هذه المذكرة، وما إذا كان قد فعل ذلك بناء على طلب من تيلرسون بسبب الضجة التي ثارت في دوائر السياسة الخارجية حول تصريحاته في 3 مايو والتي قال فيها: “من الواجب علينا جميعاً في الحقيقة أن نفهم الفرق بين السياسة وقيم مثل “الحرية، والكرامة الإنسانية، والطريقة التي يجب أن يُعامَل بها الناس”.

لكن مذكرة هوك، التي اطلعت “بوليتيكو” على نسخة منها، تشير إلى أن تيلرسون، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إكسون موبيل، كان لا يزال في مرحلة التعلم لكل ما له علاقة بالشؤون الخارجية. ويبدو أن هذا الأمر أيضا ينذر بعواقب النهج الذي يتبناه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إزاء السياسة المعقدة لحقوق الإنسان في الخارج.

لذلك لم يمارس دونالد ترامب أي نوع من الضغط بشكل علني على الزعماء العرب والمسلمين بخصوص سياساتهم الاستبدادية، سواء خلال زيارته للمملكة العربية السعودية في مايو 2017، أو أثناء استضافته لزعماء مصر وتركيا في البيت الأبيض. الا ان ترامب تحدث خلال كلمة امام البرلمان الكوري الجنوبي في نوفمبر الماضي عن مدى وحشية نظام كوريا الشمالية. كما قام كل من ترامب وتيلرسون بمهاجمة سجل إيران في مجال حقوق الإنسان.

وقال توم مالينوفسكي الذي شغل منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما: “إن مذكرة هوك تقول لتيلرسون إنه يجب علينا أن نفعل تماماً ما تردده الدعاية الروسية والصينية من إننا نستخدم حقوق الإنسان كسلاح للتغلب على خصومنا في الوقت الذي نعفي فيه أنفسنا وحلفاءنا من المحاسبة “.

واضاف مالينوفسكي “إنه (هوك) يُغفل تماما حقيقة جوهرية وهي أن السلطة الاخلاقية للولايات المتحدة هي أحد مميزاتنا الرئيسية في العالم، وإنها ستزول حتماً إذا طبقناها بشكل انتقائي كما يوصي بذلك هوك”.

ومما يدعو للدهشة أن عبارة “حقوق الإنسان” وردت في وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” الجديدة التي أعلن عنها ترامب يوم الاثنين (19 ديسمبر 2017) لمرة واحدة فقط! (بينما وردت نفس العبارة 16 مرة في خطة أوباما الأخيرة، في عام 2015). ويقول أحد البنود الواردة في استراتيجية ترامب: “نحن لن نفرض قيمنا على الآخرين”، بينما تحتوي الاستراتيجية على قسم آخر يتناول كيفية قيام الإدارة بـ “الترويج للقيم الأمريكية”.

كما تقدم المذكرة نبذة مختصرة عن كيفية تخطيط السياسة الخارجية عن طريق دائرة داخلية سرية لتيلرسون، مما يساهم في تهميش العديد من المسؤولين المخضرمين في وزارة الخارجية الأمريكية.

ويرأس هوك ما يعرف باسم “موظفي تخطيط السياسات” في وزارة الخارجية. وقد كان قسم تخطيط السياسات تقليديا بمثابة مركز أبحاث داخلي يقوم على وضع استراتيجيات متوسطة وطويلة الأجل، ولكن تحت إدارة تيلرسون، أصبح القسم أكثر انخراطا في العمل اليومي الذي كان في الماضي من اختصاص العديد من الإدارات الأخرى.

كتب هوك أيضاً في مذكرته “إن المعضلة القديمة في تحقيق التوازن بين المُثُل والمصالح تكون فقط عند التعامل مع حلفاء أمريكا. أما فيما يتعلق بمنافسينا وأعدائنا، فالمشكلة دون ذلك بكثير. ونحن لا مصلحة لنا في دعم خصومنا في الخارج؛ لكننا نتطلع إلى ممارسة الضغط عليهم، والتنافس معهم، والمناورة أثناء التعامل معهم”.

وقال هوك “لهذا السبب، يجب أن نعتبر حقوق الإنسان قضية هامة فيما يتعلق بالعلاقات الأميركية مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، وهذا ليس فقط بسبب اهتمامنا الأخلاقي بالممارسات داخل تلك البلدان. ولكنه أيضاً يعود إلى حقيقة أن الضغط على تلك الأنظمة في مجال حقوق الإنسان هو أحد الطرق التي تساعدنا على تحميلها التكاليف، والضغط المضاد عليها، واستعادة المبادرة منها بشكل استراتيجي”.

ومن غير الواضح ما إذا كان تيلرسون قد قرأ المذكرة التي وُصفت بأنها “حساسة ولكنها غير مصنفة”. ولم يرد هوك على طلبات متعددة للتعليق عليها، وكانت “بوليتيكو” قد اطلعت على نسخة من المذكرة شريطة أن يعاد طبع نصها فقط (دون تصويرها).

ولم تؤكد المتحدثة باسم وزارة الخارجية الاميركية هيذر نويرت او تنفي صحة المذكرة. وقالت في رسالة بالبريد الالكتروني “لا يمكننا التعليق على الوثائق الداخلية المزعومة ولكن، بصفة عامة، تبقى حقوق الانسان جزءاً لا يتجزأ من قيمنا التي نتناولها باستمرار مع الدول الاخرى”.

وقالت مصادر أخرى في وزارة الخارجية، على الرغم من أنها ليست في وضع يسمح لها بتأكيد صحة المذكرة، أن طريقة التنسيق هي نفس الطريقة المتعارف عليها في مثل هذه الوثائق.

وكان هوك، الذي ظل وجهاً مألوفاً في دوائر السياسة الخارجية المحافظة لفترة طويلة، قد شغل عدة مناصب في فترة حكم الرئيس جورج بوش، بما في ذلك مساعد وزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية.

وقد فاجأ قرار هوك بالانضمام إلى إدارة ترامب البعض في واشنطن لأن كثيرين آخرين من خبراء السياسة الخارجية المحافظين ابتعدوا عن ترامب خلال سباق الرئاسة لعام 2016. وكان نفوذه الكبير في وزارة الخارجية غالباً ما يثير حفيظة بعض أعضاء الكونجرس.

وتحدد مذكرة هوك التي تحتوي على ثلاث صفحات الأسس التاريخية للمدارس الرئيسية للسياسة الخارجية الامريكية حول حقوق الانسان التي تنقسم الى “الواقعية” و “الليبرالية / المثالية”.

وقال هوك إن الرئيس جورج دبليو بوش، وكل من الرئيسين بيل كلينتون وباراك أوباما، كانوا قد “عملوا وفقاً لفرضيات متفائلة نسبيا فيما يتعلق بإمكانية التغيير الاجتماعي الإيجابي في الخارج،” وأضاف “لا شك ان هذا التفاؤل كان نابعاً من حسن النوايا”.

“ولكن في أعقاب حرب العراق وأفغانستان، وفي ظل الانتعاش الاقتصادي البطيء، وصعود الصين، وفشل الربيع العربي، تضاءل التفاؤل بإمكانية تطبيق الديمقراطية في العالم أو إعادة تشكيله بسهولة عن طريق التعبير عن القيم الليبرالية الأمريكية، أو عن طريق تأنيب حلفاء الولايات المتحدة”.

ويرى هوك أن رونالد ريجان “كان دائما ما يدعم حلفاء الولايات المتحدة ضد خصومها، حتى في القضايا المثيرة للجدل، بما في ذلك خلال ولايته الثانية”. لكن جيمي كارتر، حسب هوك، أضر بالمصالح الأمريكية لأنه كان يُكثر من “تأنيب” حلفاء الولايات المتحدة مما أدى في النهاية إلى تقويض بعضهم كما حدث مع شاه إيران، على سبيل المثال.

وكتب هوك أيضاً يقول إنه “بخصوص حلفاء الولايات المتحدة مثل مصر والسعودية والفلبين اليوم، فإن إدارة ترامب لها ما يبررها تماما في التأكيد على علاقات جيدة مع هذه الدول للعديد من الأسباب الهامة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، مما قد يؤدي إلى خيارات صعبة فيما يتعلق بحقوق الإنسان”. واضاف “كما أن حالة حقوق الانسان لا يُتوقع أن تتحسن كثيراً إذا استولى المتطرفون المناهضون للولايات المتحدة على السلطة في تلك الدول”.

وناقش مالينوفسكي القضية في ضوء بعض الدروس التاريخية كما فعل هوك. فقال إن نزعة معاداة الأمريكيين في إيران كانت على أشدها قبل وصول كارتر إلى الحكم، وقد كان ذلك جزئيا بسبب الدور الذي قامت به وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الإطاحة بحكومة إيرانية منتخبة في عام 1953، ودعم أمريكا لفترات طويلة لحكم الشاه القمعي في البلاد.

كما رفض مالينوفسكى ادعاء هوك بان سياسة ريجان “المشاركة البناءة” مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا كانت فعالة “على المدى الطويل”، مشيرا إلى أنه من المسَلم به بشكل عام أن العقوبات الامريكية كانت أكثر فاعلية في تغيير سلوك الحكومة. وقد قاوم ريجان إلى حد كبير مطالب أعضاء الكونجرس بفرض عقوبات على جنوب أفريقيا جراء سياساتها العنصرية، حتى إنه استخدم حقه في النقض ضد تشريع تجاوزه الكونجرس بعد ذلك.

كما أعرب مسؤول كبير سابق في إدارة بوش، رفض الكشف عن هويته، عن خيبة امله بخصوص المذكرة.

وقال المسؤول السابق “إن المذكرة تتجاهل الشعوب تماماً، بل انها لا تعترف بأنه عند انتقاد نظام لنا معه علاقات ودية فإن ذلك “يُكسب الولايات المتحدة كثيراً من الدعم على مستوى الشارع”. “وعلى سبيل المثال، لم تقم الولايات المتحدة بإثارة قضايا حقوق الإنسان مع المجلس العسكري اليوناني في السبعينات لأنه كان “موالياً لها “. وكانت نتيجة هذا التخلي عن شعب اليونان هو ظهور العداء ضد الولايات المتحدة هناك لفترات طويلة”.

وكان تيلرسون قد أدلة بتصريحات حول ضرورة الموازنة بين القيم والمصالح خلال أول اجتماع له مع موظفي وزارة الخارجية. ولكنه حاول أن يكون دقيقا وحذرا في تصريحه، مؤكدا أن القيم الأمريكية لا تزال ثابتة، حتى مع تغير السياسات بمرور الوقت.

واضاف “بالنسبة لي، انها واحدة من أصعب القضايا حيث فكرت كثيراً في كيفية التوصل إلى صياغة لسياسة يمكنها تسيير كل تلك الأمور معاً في آن واحد، وهذا تحدٍ حقيقي”.

وحاز تيلرسون في الأشهر الأخيرة على إشادات كثيرة من بعض المهتمين بحقوق الإنسان بعد زيارته لميانمار ثم إعلانه في وقت لاحق أن هذا البلد الآسيوي كان يقوم “بتطهير عرقي” ضد أقلية الروهينجا المسلمة.

ومع ذلك، فإن كثيراً من النقاد حرصوا خلال الأشهر القليلة الماضية على الاستشهاد في مواضع كثيرة بتصريحات تيلرسون عن الموازنة بين القيم والمصالح الأمريكية التي أدلى بها في مايو الماضي.

وتأتي هذه الانتقادات بينما انخفضت كثيراً الروح المعنوية للعاملين في وزارة الخارجية بعد اقتراحات بخفض عد الموظفين وتخفيض الميزانية، وتصاعدت حالة من الإحباط تجاه إبعاد العديد من موظفي الخارجية والخدمة المدنية عن عملية صنع السياسات.

ووصف خطاب استقالة لدبلوماسية أمريكية – تم الكشف عنه لأول مرة من قبل قسم السياسة الخارجية – أن تصريحات تيلرسون في الثالث من مايو كانت أحد الأسباب التي اضطرتها إلى تقديم استقالتها.

 

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
المصدر
صحيفة بوليتيكو اليومية الأمريكية - ناحال توسي مراسل الشؤون الخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close