fbpx
مجتمعمختارات

صراع الرهبان ـ لمن تُقرع الأجراس؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تم نشر هذا الموضوع على أجزاء عبر موقع مدونات الجزيرة، رابط الجزء الأول، رابط الجزء الثاني، رابط الجزء الثالث.

حتى لحظة دق هذه المقالة على الكيبورد، لم تكشف بعد أبعاد جريمة قتل الأسقف الأنبا أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار الذي وجد غارقا في دمائه في إحدى بقع الدير ويبدو أنه ضرب على مؤخرة الرأس بآلة حادة تسببت في خروج جزء من “المخ” خارج الجمجمة، بحسب ما جاء في الصحافة. 

لا يهمنا في هذا المقال أن نكشف من القاتل وليس هذا دورنا، لكن يمكن أن نقترب من أجواء الصراع الكبير الذي دار خلال النصف الثاني من القرن العشرين بين مدرستين مهمتين في الحياة الدينية المسيحية، أعني الصراع الشهير بين الأب متى المسكين الراهب، وتلميذه البابا شنودة حبر الكنيسة القبطية المصرية السابق، وقد كان الاسقف المغدور أحد تلامذة الأب متى ورئيس الدير الذي كان يقيم فيه، أي أن الجريمة وجهت لمدرسة الأب متى المسكين، وأنها دارت على المسرح الذي كان أحد معاقل المعارضة الكنسية الدينية لعقود.

اشتراكية الأب متى

تم استبعاد الأب متى المسكين من المنافسة على الكرسي البابوي عام 1971 بسبب اقتطاع حياة العزلة الاختيارية من حياة الرهبنة، حيث عاش الأب متى فترة من حياته في الصحراء بعيدا عن الدير وبالتالي لم يستوفِ شرط الرهبنة، ويقال بأنه تم استبعاده لأسباب تخص ميوله الاشتراكية الناصرية التي انقلب عليها الرئيس “السادات”؛ حيث فضَّل السادات اختيار رجل دين بالمعنى المهني والحرفي، لكن اتساع هوة الخلاف بين البابا شنودة والرئيس السادات حول بعض القضايا والسياسات، خاصة تمدد الظل الدعوي والخدمي للكنيسة وازدياد وتيرة الاضطرابات الطائفية بالإضافة إلى الموقف من تقنين الشريعة، واتفاقية السلام مع إسرائيل، قرب بين المسكين والسادات.

كان الأب متّى يكتب مقالات وأجرى مجموعة لقاءات صحفية حول هذه القضايا موضع الخلاف بين الكنيسة والدولة، برؤية معاكسه عمَّا طرحه البابا شنودة، وهنا لعبت السياسة دورها، وتم استدعاء أفكاره وكتاباته عن ضوابط الدور الديني والخدمي للكنيسة لتصدر من قبل الأجهزة الرسمية للإيحاء أن بجانب الخلاف السياسي مع الأنبا شنودة ظلالاً دينية وانحرافًا عن المسار يجب أن يُقوَّم، وتم التلويح بالأب “متَّى” لخلافة البابا بحسبانه الزعيم المعارض والمصحح الديني لعثرات الكنيسة. رفض الأب متى أن يخلف البابا وكانت إجابته للسادات: “بأن الشخص الذي سيتم تنصيبه بطركًا بهذه الطريقة هو شخص محروم من قبل أن يجلس على الكرسي” وذلك لأسباب تخص القانون الكنسي الذي يحدد أن خلو المنصب مرتبط إما بالجنون أو الفساد المالي أو الأخلاقي أو الهرطقة.

أذكر أنني حصلت على معلومة أثناء إعدادي فيلم البابا شنودة وهي أن الأب متى المسكين توسط لدى السادات لكيلا يحيل البابا شنودة إلى محكمة أمن الدولة العليا لمحاكمته، حيث أعدت النيابة مذكرة قضائية تخص علاقات البابا شنودة بالخارج وبأقباط المهجر واتهامه بالتأليب على الدولة وإشعال الفتنة الطائفية، وقيل: إن الأب متى هو من اقترح تشكيل لجنة خماسية لإدارة الكنيسة بدلا من البابا شنودة، واشترط ألا يكون “متَّى” نفسه من بينها، واستقبل الأنبا شنودة تشكيل هذه اللجنة بسخرية قائلاً للأنبا صموئيل أحد أعضائها: “إن كرسي مار مرقص ليس دكة حتى يُجلس عليها السادات خمسة من الرهبان”.

محاولات الصلح

حاول الأب متى عبر جولات مكوكية أن يقرب بين الأنبا شنودة والسادات إلا أن كل محاولاته باءت بالفشل، وتسربت شائعات وأقوال تتهمه بالخيانة، وأنه كان وراء نفي البابا شنودة، وتزعم هذه المواقف المتشددة عدد من رموز الكنيسة لاسيما الأساقفة الذين اعتقلهم السادات عام 1981 وهم من أعضاء المجمع المقدس، وساعدت العلاقة الخاصة بين الأب متى والسادات على رواج تلك الأقوال والاتهامات، لا سيما أن النظام منح الدير الذي يقيم فيه الأب متَّى 200 فدان من أجل استزراعها.

ومما زاد سخونة القضية أن البابا شنودة كان من الذكاء الشديد بحيث مرَّر مطالبه الخاصة بالجماعة القبطية بجانب موقف سياسي تلاقى مع موقف الجماعة الوطنية الرافض للتطبيع وزيارة إسرائيل، في حين بدا أن ثمة ارتباكًا يحيط بموقف الأب متى الذي أيد المشروع الاجتماعي والسياسي الناصري القائم على الاشتراكية، وعن دعوته للجهاد الفكري والجسدي ضد إسرائيل، لتعكس مواقفه المؤيدة للسادات شكًّا في وعيه السياسي، وعدم إدراك للحظة التاريخية، لا سيما أن نظام السادات كان معاكسًا لنظام عبد الناصر في توجهاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

والواضح أن موقف الأب “متَّى المسكين” يتسق مع أفكاره ورؤيته للدور الاجتماعي للكنيسة التي يحصرها داخل التوجيه الروحي فقط، وأن الكنيسة يجب ألا تقف موقف المنادي أو المؤيد للسلطان الزمني؛ حيث تحرك بصفته الراهب الناسك صاحب الشعبية والحظوة الذي لا تعنيه الحسابات السياسية ولا معادلات الصمت والكلام، فما كان يهمه هو اللاهوت والكنيسة لا التاريخ والسياسة.

تعتبر فترة العزلة الاختيارية بعد إبعاده عن البطريركية، ورفضه العودة إلى دير الأنبا صموئيل، والتوحد في وادي الريان من أخصب فترات حياته. وتعددت التفسيرات حول هذه العزلة؛ حيث رآها البعض أنها كانت من أجل مزيد من التنسك والتصوف، في حين رأى آخرون أنها تعكس تمردًا سلبيًّا على القرار البابوي والتكريس أكثر لتياره الذي بدا أنه ينمو سريعًا خارج الإدارة الرسمية في الكنيسة وسط قطاع كبير من الرهبان. 

إلى الدير

انسحب الأب متى المسكين من العاصفة السياسية وعاد إلى دير الأنبا “أبو مقار” أقام فيه توسعة عمرانية وزراعية؛ فزاد من 7 أفدنة إلى 300 فدان مزروعة، ثم ألفي فدان.. وأنشأ مزرعة كبيرة للأبقار، وقد ساعدته الدولة كثيرا في ذلك. وفي الدير استأنف نشاطه في التأليف الذي تجاوز الـ 180 كتابًا و300 مقالة، منها شروحاته لأسفار العهد الجديد في 16 مجلدًا، كما ألَّف مجلدًا ضخمًا عن القديس أثناسيوس في حوالي 800 صفحة، ومجلدين عن الرهبنة في مصر في 800 صفحة، وبعض هذه الكتب تُرجم إلى لغات عديدة. وهو صاحب منهج خاص في تفسير الكتاب المقدس؛ حيث يقوم بإعادة ترجمة النص والتعرف على كاتبه، ثم يبدأ في الشرح والتفسير من خلال نصوص الأباء.

ونظرًا للشعبية التي يتمتع بها الأب متى لم يستجب البابا شنودة للدعوات المطالبة بعقابه أو حرمانه، والتي انطلقت من المجمع المقدس الذي ظل بعض أعضائه يتحينون الفرصة لتصفية الحسابات بادِّعاء تجديفه في العقيدة، وإن لم يجرؤوا على مصادرة أي كتاب من كتبه. ولكن عندما أصدر أحد رهبان دير “أبو مقار” كتابًا يؤكد فيه الأصول الأرثوذكسية لكتابات الأب “متَّى المسكين”، انبرى البابا شنودة للرد عليه في سلسلة من الكتابات؛ فضلاً عن تعليقه في بعض أشرطة الكاسيت على بعض أفكاره التي تقترب في رأيهم من الأفكار البروتستانتية، وأنه متأثر باللاهوت الغربي ويتبنى بعض الأساقفة مهمة تتبع أفكار الأب المسكين، ومحاكمة الكهنة أو رجال الدين الذين يتبعون أو يروجون لأفكاره وقد وصفه بعض الأساقفة بأنه مبتدع.

صراع الرهبان.. لمن تقرع الأجراس

في 28 سبتمبر 1981 قال الأب متى المسكين في حديث لمجلة “تايم” الأمريكية “البابا شنودة هو أفضل بطريرك متعلم في تاريخ الكنيسة، وأن رسامة البابا شنودة كانت بداية المشكلة؛ لقد حل العقل مكان الإلهام، والتخطيط مكان الصلاة”. وقبل ذلك، في عام 1954، كتب الأستاذ نظير جيد، البابا شنودة فيما بعد، في مقدمة كتاب “حياة الصلاة” للأب متى المسكين “حاول إذن أن تقرأ هذا الكتاب لتحوله إلى جزء من حياتك”… وهذه الطبعة من الكتاب هي النسخة الوحيدة التي يراها البابا شنودة صالحة للقراءة، أما النسخ التالية فقد بعدت في رأيه عن روح التعاليم القويمة.

يوسف وأخوته

أما الأب متى المسكين فاسمه قبل الرهبنة “يوسف إسكندر”، وكانت سنة (1919) م هي أول موعد له مع الحياة مع ميلاد المواطَنَة المصرية دستورًا وفكرة. تخرج في كلية الصيدلة جامعة القاهرة عام (1944م)، وافتتح صيدلية في دمنهور بمحافظة البحيرة وكان ميسورًا، لكنه بعد فترة باع كل ما يملك من سيارة وفيلّا، وقرَّر أن يلتحق بحياة التبتل في دير الأنبا صموئيل بالصعيد؛ لأنه أفقر الأديرة وأبعدها عن العمران. والحقيقة أن ذهاب الأب متى إلى الأديرة كان شيئا لافتا في تاريخ الرهبنة، حيث افتتحت رحلته إلى البراراي حقبة الرهبان التكنوقراط؛ إذ بدأت الأديرة تستقبل المتعلمين خريجي الجامعات، وأشهرهم الأنبا “شنودة” والأنبا “غريغوريوس” أسقف البحث العلمي، والأنبا “صموئيل” أسقف الخدمات (قُتِل مع السادات في المنصة).

كان جيلا طموحا سعى نحو تحديث وتطوير الكنيسة والجماعة القبطية، وينتمي هذا الجيل في معظمه إلى شرائح الطبقة المتوسطة من سكان المدن. وهو الجيل الذي أحدث تحولا في نمط الكهنوت القبطي ودور الكنيسة في حياة الأقباط. أشار البابا شنودة في أحاديث مختلفة إلى طبيعة رجال الدين المسيحي في النمط القديم؛ حيث كانوا أقل حظًّا في التعليم وفي التأثير، وكان الفكر الديني لديهم محصورًا في جوانبه النسكية الروحية. إذ كان معظم الرهبان في الماضي إما من الأميين أو خريجي الكتاتيب المسيحية.

في تلك الحقبة أيضا، كان يدير الشأن القبطي الصفوة المدنية المسيحية، أو وجهاء الأقباط الذين كانوا يتحكمون بالكنيسة ويمثلون المجتمع القبطي، في حين كان رجل الدين والكنيسة في أشد الحالات ضعفا، زد على ذلك نزوع تلك الصفوات إلى التغريب والنمط الحياتي الذي لا يتمثل القيم القبطية المحافظة. وإزاء هذا الوضع كان أمام الجيل الجديد من مدارس الأحد أحد خيارين: إما جذب هذه الصفوات تحت سلطة الكنيسة، أو أن تخلق الكنيسة صفواتها الدينية. وكان الخيار الثاني هو الأقرب.

والمتمعن في هذا التوجه نحو الحياة الروحية، يجد أن الأمر لم يكن مجرد تحولات فردية، بل كانت هناك فكرة ما دفعت إلى تلك التحركات الجماعية. فمعظم هؤلاء تخرجوا من “مدارس الأحد” التي أسسها “حبيب جرجس”؛ وهي مدارس ألحقت بالكنيسة في بدايات القرن العشرين، وكانت تستقطب الأطفال والشباب. وكان من أهدافها إحياء الإيمان بالهوية الذاتية وربط الشباب بالكنيسة، وبقضاياها وبهموم المجتمع القبطي وعمقه التاريخي، وأن تعود الكنيسة لتكون هي مركز حياة الأقباط.

لكن إذا أدرنا عدسة التحليل قليلا، سنجد أن شريحة كبيرة من المجتمع المصري، في تلك الفترة، اتجهت لإعادة اكتشاف هويتها الدينية، وأن استعادة دور الدين ظهر على المستوى الإسلامي تواكبا مع سطوعه على المستوى المسيحي. ولم تكن مصادفة أن بدأ بالتوالي ظهور كثير من الكيانات الدينية ذات الطابع الحركي: إسلامية أو مسيحية. نذكر جمعيات الشبان المسيحيين، وكذلك جمعية الشبان المسلمين، ثم جماعة الإخوان المسلمين. وهناك عاملان ساعدا على نمو هذه الحالة، الأولى: موجة التغريب الشديد التي مست الحياة الاجتماعية المصرية، والثانية: حركة التبشير داخل الجماعة المسيحية القبطية لصالح البروتستانت، خصوصا المرسلين الغربيين الذين كانوا يوفرون الخدمات الجيدة والتعليم الممتاز. ومن يراجع كتابات الإسلاميين في تلك الفترة، وكذلك آراء الكثير من أعضاء مدارس الأحد، يجد الكثير من الكتابات التي تحذر من هذين العاملين.

والملاحظ أن الوعي نحو الدين بدأ يبرز أيضا حتى عند كثير من المثقفين والتيارات الليبرالية المتغربة في الثلاثينيات والأربعينيات، أمثال: العقاد وهيكل باشا وطه حسين وغيرهم، وكانت هذه الموجة تشتد مع نهاية الحرب العالمية الثانية. والمتابع الجيد لدورات التدين في مصر يلاحظ وجود موجتين من الاتجاه إلى الدين في القرن العشرين: موجة الأربعينيات ثم موجة السبعينيات.

المسيحية نظام شامل

في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات كان حسن البنا يطالب عبر مجلة الإخوان المسلمين، بإصلاح الفرد والأسرة والمجتمع، وتقديم الإسلام كنظام شامل في السياسة والاقتصاد والاجتماع. وسيدهش المتابع كثيرا عندما يجد أن الصحفي نظير جيد (البابا شنودة) يكتب في افتتاحية العدد الأول من مجلة “مدارس الأحد” هذه الفقرات: “أجل فقد اعتزمنا أن تكون مدارس الأحد، صدى لصوت الله الرهيب، لإصلاح الفرد، والأسرة، والمجتمع، ليجد هؤلاء جميعا غذاءهم الروحي، والاجتماعي، والأدبي، والعلمي والصحي”. وتشخص الافتتاحية سر الفشل العام الذي تمر به الكنيسة وسببه “إبعاد الله سبحانه عن كل ما يعمل في سبيل الإصلاح”.

ثم يحدد منهج العمل بقوله:” بيد أنه لكي ننجح، ولكي يكون لكل ما نعمل فائدة، لابد أن يتدخل الله في كل شيء، بل ويكون الله كل شيء، في العلم، في الاجتماع، في الأدب، في الصحة، في المدرسة، في الزواج، في البنين، في الأسرة، في المال، في المعاملة، في الإدارة، في التشريع، في اختيار رجال الدين ورجال الدنيا”. ويقول أيضا: “الجهل كل الجهل أن نفصل بين الدين والدنيا، فلا فائدة من دين يقف بعيدا عن أمور حياتنا العامة والخاصة”.

كان محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب” يرى أن البابا شنودة يقدم الكنيسة مؤسسة شاملة مكلَّفة بأن تقدم حلولاً لكل المشاكل، وأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا. والحقيقة أن التشابه الملاحظ بين حضور الدين عند التيارات الإسلامية وعند مدارس الأحد، لاسيما تيار البابا شنودة، هو أمر طبيعي جدا ومتوائم منذ القديم، وقرار الكنيسة القبطية أن تكون شرقية، وأن تكون مصرية، هو قرار متصل بإيمان المصري بدور الدين في الحياة من قديم الأزل.

ومعروف أن عمق المسيحية المصرية كان في طيبة أو صعيد مصر، حيث امتزجت هناك بالروح الثقافية المصرية، كما يقول جمال حمدان. وهي نفس الروح التي أخرجت الرهبنة إلى العالم مع الأنبا انطونيوس، لتكمل مع الجناح السكندري اللاهوتي جسم الطائر الأرثوذكسي، ومن طيبة أيضا تم منح التصوف الإسلامي فكرة المحبة الإلهية على يد الصعيدي ذي النون المصري.

ولكن مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، بحكم موقعها، تأثرت كثيرا بالموجات الفلسفية الغربية التي كانت مكتبتها العظمى مسرحها الكبير، والمتابع للجدل الديني الذي يدور داخل الكنيسة حول طبيعة الاتحاد والشراكة مع المسيح، يجد أنه في أصوله شقاق بين تأويلين لمدرسة الإسكندرية: تيار طيبة، وتيار الفلسفة الروحية. فريق البابا شنودة، وجماعة الأب متى. أما تيار الفلسفة الروحية فيرى أن الكنيسة بعدت عن القاعدة المعرفية واليونانية الأولى، وتأثرت بالبيئة العربية والإسلامية ثقافيا، بينما يُتهم تيار الأب متى من قبل مدرسة طيبة بأنه متغرب متأثر بالفلسفة الغربية.

طبيعة الخلاف السياسي

أما إذا أُخذ الخلاف في اتجاه السياسة، فسيتضح أن مركز الخلاف كان حول دور الكنيسة في حياة الأقباط؛ فتيار الأب متى المسكين يرى أن التربية الروحية هي الدور الرئيسي والوحيد للكنيسة، وأن أي أنشطة أخرى اجتماعية أو سياسية هي خروج على تقاليدها، وعلى الكنيسة ألاّ تكون سببًا في انعزال المواطن عمليًّا أو روحيًّا، فالكنيسة لا تعادي نظامًا سياسيًّا ولا تمالئه.

أما مدرسة البابا شنودة فترى أن الكنيسة مسؤولة عن تقديم الأجوبة الشاملة اجتماعيا وثقافيا، وأن العلاقة بين الكنيسة والدولة تتشكل على أرضية الندية والضغط والطلبات، أو بمعنى آخر، أن تكون الكنيسة وسيطًا بين الدولة والمواطن القبطي، وهو ما يمثله التيار المهيمن على الكنيسة الآن.

صراع الرهبان.. لمن تقرع الأجراس؟

في شهر يوليو عام 1954 كان الشاب نظير جيد يطرق باب “دير السريان”، وهناك رُسِّم راهبًا باسم “أنطونيوس السرياني” وكان عمره آنذاك 35 عامًا. بدأت تعرف الكنيسة ظاهرة الرهبان الجدد، شباب مثقف حط برحاله في الأديرة، يجمعهم مبدأ واحد: أن قوة الأقباط تبدأ من الكنيسة التي تكمن قوتها في الأديرة والرهبنة. وفي عام 1956 شهد الكرسي البابوي تنافسًا على شغر المنصب؛ وذلك بعد وفاة الأنبا “يوساب” وترشح لهذه الانتخابات “متى المسكين” و”مكاري السرياني” (اغتيل مع السادات في المنصة) وأنطونيوس السرياني (الأنبا شنودة)، وكان أقلهم في عدد الأصوات.

المكي والمدني القبطي

لم تقبل القوى المحافظة بترشح هؤلاء الشباب، فقاموا بعرقلتهم ومنع صعودهم، وُرفضت مصوغات ترشحهم للبابوية، لكن المثير في هذا الأمر هي العودة السريعة لهذا الجيل من الرهبان الجدد، للمنافسة على المناصب العليا داخل الكنيسة، بعد أن ترهبوا وتوحدوا في الصحراء، والمفترض أن سالك الرهبنة والتوحد في البراري يقاوم العودة مرة، لا أن يسارع بالعودة بعد سنوات قليلة. بعض الحركات الاسلامية تقسم مراحل عملها، إلى فترة إعداد وانقطاع للتربية وهي “المرحلة المكية” ثم مرحلة التنفيذ والتمكين وهي “المرحلة المدنية”. فهل وعى منتسبو تيار الرهبان الجدد الطريق نفسه، حيث مروا بفترة الرهبنة والانقطاع، ثم مرحلة الإصلاح والتمكين؟    

الحقيقة أن البابا شنودة كان يعي جيدا ما يفعل، فهو رجل له رؤية واضحة ويمتلك مشروع تغيير عبر عنه كثيرا في مجلة الأحد. كذلك كان سياسيا قبل أن يلتحق بالدير، وعضوا فاعلا في حزب الكتلة الوفدية بزعامة الزعيم القبطي مكرم عبيد. وبسبب هذا الانتماء الحزبي تعرض للاعتقال من البوليس السياسي في العصر الملكي، لأنه نظم هجاء في رئيس الوزراء، النحاس باشا، ويبدو أنه تعرض له بالسب. وأذكر أن زعيم جماعة الأمة القبطية الدكتور ابراهيم فهمي هلال أخبرني، أن كثيرا من الأقباط في تلك الفترة أحسنوا الظن في هذا الحزب ظنا منهم أن مكرم سيكون زعيما للأقباط.

مينا المتوحد والكلمة السواء

تفادى تيار الرهبان الجدد الصدام مع القوى الدينية التي ترفض صعودهم داخل إدارة الكنيسة، وقرروا المناورة والإتيان برجل قريب منهم وهو مينا المتوحد (البابا كيرلس السادس) وكان بمثابة مرحلة انتقالية بين العالم القديم والجديد داخل الكنيسة. على الفور قام البابا كيرلس السادس فور توسده، برسامة عدد من جيل مدراس الأحد، ليكونوا أساقفة وليعتلوا سلم الكنيسة، فيما يبدو ردا للجميل، باعتبارهم من كانوا وراء اعتلائه الكرسي البابوي، حيث رسم الراهب “انطونيوس السرياني” أسقفًا للتعليم باسم “شنودة الثالث” عام 1962؛ وكذلك فعل ما باقي رفقائه، وبذلك صارت مدارس الأحد مشروعًا رسميًّا للكنسية.

اختلف الأنبا شنودة مع البابا لأسباب بعضها سياسي وبعضها ديني، وهذا طبيعي، فالمتأمل في شخصية البابا كيرلس السادس يجد أنه كان رجل صلاة وتبتل وابتعاد عن الأضواء، وكان الأقباط ولا يزالون يعتبرونه رجل المعجزات الذي يأخذهم إلى السماء. وعلى العكس من ذلك كان البابا شنودة الرجل الذي يأخذهم قريبا من الأرض. كان البابا شنودة رجل زعامة وجماهيرية، ولم يتمتع بأي سمعة خوارقية، وعادة ما كانت تزعجه تلك المقارنات، وكان يشكك في الكثير من تلك الخوارق التي تنسب للبابا كيرلس.

وفي الستينات أيضا ظهر الأنبا شنودة كمحاضر في “درس الجمعة” الذي كان يلقيه في الكاتدرائية الذي صار مناسبة مهمة في حياة الكنيسة القبطية وكان الألوف يتقاطرون لسماعه، وصار شخصية كاريزمية بالنسبة للشباب القبطي خاصة بعد عام 1967م؛ إذ كانت عظاته تعالج الجوانب الاجتماعية والسياسية في قالب ديني. بعض أصدقائه قال لي: إن الأمن كان قلق من تلك الاجتماعات ويرفع بها تقارير للجهات العليا.

الطريق الى الكرسي

ومع بداية عقد السبعينيات تغيرت القاعدة الاجتماعية داخل المجتمع المصري بشكل عام، لم يعد يمثل الأقباط الأسر القبطية الثرية من الباشوات وكبار الملاك، حيث أنهى المشروع الناصري الطبقة المخملية المصرية، كأنه يعبد الطريق لعبور تيار الرهبان الجدد ليتقدم، ليس فقط لقيادة الكنيسة، بل وقيادة المجتمع القبطي. يمكن القول إن فكرة التوحد بين الكنيسة والأقباط التي كان يحلم بها البابا شنودة بدأت تتجسد تدريجيا في حيز الواقع.

كانت مصر بعد هزيمة 67 تمر بحالة من “فقدان الذات”، بوصف ريتشارد هرير دكمجيان، في كتابه “الأصولية في العالم العربي” أو بحالة “موت جماعي”، بتعبير عالم الاجتماع المصري سيد عويس، الذي ذكر في كتابه “هتاف الصامتين” أنه في لحظة الموت تلك كان طبيعيا أن يلوذ الشعب بالدين، لم يذهب المسلمون وحدهم الى السماء بل وذهب في رفقتهم أيضا المسيحيون.

تلك هي خلفية مشهد الاقتراع على البطريرك الجديد بعد وفاة الأنبا كيرلس السادس؛ حيث تنافس عدد من الشخصيات أبرزهم “متى المسكين” و”شنودة”، وفاز الأنبا شنودة بالكرسي البابوي، وترددت شائعات حول دور الدولة في هذا الفوز. وفي تلك الفترة ظهر العنف الطائفي في أحداث الخانكة عام 1972م، حيث أُحرقت الجمعية القبطية. فأمر البابا شنودة أن يتحر ك الأقباط في مظاهرة من 400 شخص يرتدي 100 منهم ملابس دينية كهنوتية وإقامة الصلوات بمقر الجمعية التي أُحرِقت.

لم يفلح الأمن في إثناء الآباء عن المظاهرة ومضوا سيرًا على الأقدام مرددين التراتيل، كان رد فعل البابا شنودة لافتًا للنظر؛ حيث قال: “قررت ألا تراني الشمس آكلاً أو شاربًا حتى تُحل المشكلة”. اللافت هو التعبير بالاحتجاج من خلال طقس ديني، وتلك كانت بداية ترانيم الاحتجاج البابوية التي تكررت في مسيرة البابا شنودة. والحق أن متابعة مسار الصدامات الطائفية والتي بدأت في 16-6-1970 وحتى 12-11-1972 وقعت 11 حادثة، منها 10 حوادث ابتداء (من 11 أغسطس 1971)؛ حيث كانت شوكة اليسار هي القوية ولم يكن للإسلاميين أي حضور تنظيمي أو شعبي.

ومن ثَمَّ فإن وَضْعَ السلوك العنيف والطائفي لبعض الأقباط في خانة “رد الفعل” على التطرف الإسلامي غير دقيق علميًّا، بدليل تلك الحوادث التي أسلفنا وقعت في غيبة تامة من القوى الإسلامية التي كانت في السجون، وهذا لا يمنع من نمو متبادل في الحساسيات خصوصا بعد أن أفرج السادات عن الكثير من منتسبي الجماعات الإسلامية في منتصف السبعينات وسمح لهم بالحركة. والحقيقة العلمية أن سبب العنف يعود إلى أن الأقباط والمسلمين كل منهم كان يبحث عن هويته الخاصة بمعزل عن الآخر، وفي الوطن الواحد حينما تفكر أي جماعة في خلاصها الذاتي بعيدا عن الجماعة الأخرى طبيعي أن يحدث بينهما صدام. 

الصدام مع السادات

اعترضت الكنيسة على تقنين الشريعة، وكانت تلك الدعوات رائجة في ذلك الوقت من عصر السادات، وأعلنت الكنيسة الصيام الاحتجاجي وكان ذلك في مؤتمر عقد في يناير 1977 تحت قيادة البابا شنودة، الذي كان يرى أن الصدام هو الطريق الأمثل لردع الدولة والجماعات الدينية. وفي هذا السياق الصدامي عارض البابا شنودة السادات في التوجه نحو السلام مع إسرائيل، حيث تلاقى موقفه هذا مع موقف الجماعة الوطنية الرافض للتطبيع، وهو ما أكسبه شعبية كبيرة، وصارت قضية التطبيع هي أهم قضية يطل بها على الصحافة. رغم أنه أيد السلام مع إسرائيل ولخص موقفه في مقولة شهيرة قالها للسادات: “ثِق أن الحق الذي يؤيدك أقوى من الباطل الذي يعارضك”، وهي مقولة اعتبر “أبو سيف يوسف” في كتابه “الأقباط والقومية العربية” أنها تأييد غير مباشر للسادات في عملية السلام.

ووصل الصدام ذروته مع نظام السادات بعد أحداث الزاوية الحمراء 1980 الطائفية التي وقع فيها قتلى وجرحى كثيرون، حيث قرر في اجتماع المجلس الملي في 26 من مارس من نفس العام إلغاء كل الاحتفالات الخاصة بعيد القيامة احتجاجًا على الأعمال العدائية ضد الأقباط، وفي هذا السياق قرر السادات تحديد إقامة البابا بالدير وتشكيل لجنة خماسية من كبار الأساقفة لإدارة الكنيسة.

في 28 سبتمبر 1981 وخلال حديثه لمجلة “تايم” الأمريكية رحب الأب متى المسكين بقرارات السادات قائلا: “لا أستطيع أن أقول إنني سعيد، ولكنني في سلام الآن، كل صباح كنت أتوقع أخبارا عن مزيد من التصادمات الدموية. قرارات السادات حمت الكنيسة والأقباط، هي من الله”. وأضاف أن “البابا شنودة هو أفضل بطريرك متعلم في تاريخ الكنيسة”. إلا أن “رسامة البابا شنودة كانت بداية المشكلة، لقد حل العقل مكان الإلهام، والتخطيط مكان الصلاة. في سنواته الأولى كنت أصلي له، ولكنني أري أن الكنيسة تسير من سيء إلى أسوأ بسبب سلوكياته”.

مزامير متى المسكين

وإذا اقتربنا أكثر من عالم متى المسكين، لا سيما في اتجاه دور الكنيسة الرعوي، فسنجدها تدور حول معنى واحد.. وهو أن الكنيسة ليست مؤسسة الأقباط أو جامعة للدين والهوية، وأن المسيحية ليست جنسية أو قومية بديلة، وضرورة ضبط الحدود بين الطقوس الدينية والأدوار السياسية، بين ما هو سمائي وما هو أرضي، ما لله وما لقيصر. وفي كتابه “الكنيسة والدولة” الذي صدرت طبعته الثانية عم 1977، أوضحَ أن الكنيسة تختلف عن السلطان الزمني في كونها تعتمد على الإيمان وليس على ذراع البشر.. تعتمد على الله وليس على العدد والتكتل، وبالتالي مهمتها ليست خدمة المجتمع ولكن خدمة الإيمان.

وحذَّر متى المسكين من خروج الكنيسة عن هذا الاختصاص ومحاولة امتلاك السلطة، وتجييش العواطف والمشاعر باسم الصليب، أو أن تسعى الكنيسة وراء أموال الأغنياء أو أن ترتمي في أحضان أصحاب النفوذ؛ لأنها إذا حاولت الجمع بين السلطان الديني والزمني، ودأبت على المطالبة بحقوق طائفية وعنصرية فشلت المسيحية في أن تؤدي رسالتها.

متى المسكين، كان يرى أن جوانب الرعاية الاجتماعية مثل: رعاية الشباب اجتماعيًّا وتوجيههم، وتثقيف العمال وفحص أحوالهم ومطالبهم، والعناية بالطلبة، وإقامة النوادي والمعسكرات، وترتيب المؤتمرات لبحث المشاكل الداخلية والخارجية للشباب، بل وإقامة المستشفيات والملاجئ، كل هذا يجعل الكنيسة تخرج عن وظيفتها وقد يجعلها في صدام مع الدولة. ورأى أيضًا أنه من الخطورة أن تحض الكنيسة على الاستهتار بقوة الدولة؛ ويعتَبِر الاستهتار بالدولة تشجيعًا على الشر والأشرار، حيث يتحول الدين إلى عثرة في طريق تقدم الإنسان والارتقاء الوطني. لكن يبقى السؤال المهم هل لو كان الأب متى المسكين هو الذي تولى مسؤولية الكنيسة كان يستمر على هذا النهج؟.

إقرأ ايضاً

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close