fbpx
تقديرات

إجراءات الاستيراد والمواجهة الاقتصادية في مصر

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

مثلت المواجهة التي شهدتها مصر خلال الأيام القليلة الماضية بين «اتحاد الغرف التجارية» من ناحية وكل من «وزارة الصناعة» و«اتحاد الصناعات المصرية» تجسيدا لأزمة الأداء الاقتصادي المصري. فالجهتان الأولى والثالثة، وهما جهتان مدنيتان تمثلان جماعات مصالح قوية في مصر تعبران عن افتقاد المجتمع الاقتصادي المصري لأدنى معايير الاتفاق على مشروع اقتصادي قومي متوسط المدى، مما جعل قرارات الدولة خلال فترة 6 أشهر تتحول من النقيض (فتح الباب أمام قطاع الواردات بصورة تامة) إلى النقيض (إغلاق الباب بقسوة أمام المستوردين عبر آليات متعددة)، دون وضوح هدف هذا التحول أمام المشتغلين بالاقتصاد، ودون أدنى اعتبار للقوى البشرية العاملة في قطاع الاستيراد، ودون توفر أية خطة لإعادة تأهيل المتضررين من هذه القرارات للعمل بقطاعات أخرى اقتصادية تستهدف الدولة تنميتها، وتعزيز مساهمتها بالاقتصاد القومي.

هي محض طفرة قرارات نظرت فجأة فوجدت أن الواردات تمثل ضغطا على الاحتياطي النقدي، فقررت أن توقف هذا الضغط، دون دراسة لتداعيات مثل هذه القرارات على اقتصاد بلد يمر بفترة ركود تضخمي، فيما تؤدي مثل هذه القرارات لتعزيز هذا الوضع الاقتصادي السلبي عبر إضافة قطاع من المصريين لرف البطالة.

وهو ما يمكن الوقوف على أبعاده في هذه الورقة البحثية.

أولا: أصول المشكلة

لم تجد مصر فجأة نفسها أمام مشكلة تراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي، بل إن هذه المشكلة تعاني منها مصر منذ عام 2012، حين اختفى من هذا الاحتياطي نحو 20 مليارا خلال عام كانت فيه الدولة تحت حماية أكبر قوة سياسية وأمنية بها. وكان لهذه المشكلة أبعاد متعددة تبلورت خلال 2013-2014، يمكن إيجاز هذه الأبعاد فيما يلي:

أ – ترجيح الخيار الأمني:

يمكن القول بأن أحد أهم أسباب اشتعال أزمة الواردات، وتأجج نيران الصراع بين المصنعين والمستوردين، يرجع إلى تفضيل النظام المصري في أعقاب الثالث من يوليو تغليب الخيار الأمني على الخيار الاقتصادي السليم. وبصرف النظر عن اعتبارات متعددة تتعلق بالخيار الأمني المعتمد على تحقيق هدف الاستقرار السياسي، فإن العامل الأبرز في هذا التوجه هو خيارات توجيه الطاقة. فكيف أثر الخيار الأمني على ترجيح بدائل توجيه الطاقة؟

أحد العوامل التي أدت إلى بلورة “صورة” سوء أداء الرئيس محمد مرسي اقتصاديا ما تمثّل في أزمة الطاقة، والتي انتهت – ضمن عوامل كثيرة – إلى تزيين خطاب عزل مرسي لدى العامة. هذه العقدة بلورت ضرورة توجيه إدارة السيسي لمصادر الطاقة المتاحة لتعزيز صورة الاستقرار الاقتصادي، وبخاصة استقرار وضع الطاقة بعد الثالث من يوليو، وهو ما رجح توجيه كل موارد الطاقة المتاحة لتوفير الشعور لدى المواطن بحل مشكلة الطاقة.

ما يغيب عن رجل الشارع المصري العادي أن توجيه الطاقة للمنازل والسيارات “الملاكي” كان نتاجا لخيار إستراتيجي لإدارة السيسي بتفضيل المنازل عن المصانع، مما أدى إلى إغلاق نحو 7 آلاف مصنع1، وعمل نحو 1500 مصنعا بطاقة تشغيل تتراوح ما بين 25 إلى 50% من طاقتها التشغيلية2.

ب – أزمة الاحتياطي:

من أهم العوامل التي تمثل مرجعية لهذه الأزمة أزمة الاحتياطي، حيث هوى الاحتياطي بفعل عوامل غير مفهومة من 36 مليار دولار تقريبا قبل ثورة يناير بأيام قليلة إلى نحو 16 مليارا في نهاية يناير 2016، وهو ما تم خلال فترة هيمنت فيها النخبة العسكرية المصرية على دوائر القرار. وعجزت جهود إدارة السيسي عن احتواء تدهور الاحتياطي النقدي، وهو التدهور الذي يرجع لعدة عوامل يمكن ردها بالجملة لسوء الأداء الحكومي، وعجز أجهزة الدولة عن القيام بمهامها.

فمن ناحية، أدى التدهور الأمني إلى تراجع حاد في أداء قطاع السياحة المصري، ومن ثم تراجع حاد في إيراداته بلغ 35%3.

كما أنفقت الدولة نحو 8 مليارات دولار على توسعة قناة السويس في توقيت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من شبح الركود مجددا بعد أزمة 2008 العالمية، مما قاد إلى تراجع إيرادات القناة في القرارات المدققة في بيانات الهيئة وإن حاولت إدارة القناة نشر بيانات تفيد عكس الواقع.

ومن جهة ثالثة، تراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية في ضوء الاضطراب السياسي والتدهور الأمني الذي تشهده مصر، وفي حين وعد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي بعشرات المليارات من الدولارات، لكن هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح بحلول نهاية العام 2015، ولم تحصل مصر سوى على 6 مليارات دولار، مما يفسره الخبراء بغيبة قانوني العمل والاستثمار، فضلا عن البيروقراطية التي لا تستجيب لاحتياج الاستثمارات من بساطة الإجراءات.

ومن ناحية رابعة، فإن أداء قطاع التجارة الخارجية تراجع من جهة نجاحه في الحفاظ على حجم الصادرات، فضلا عن زيادتها، ما يرده الخبراء لتراجع الصناعة المصرية الموجهة للتصدير، والذي يمكن رده لسببين أساسيين أولهما ترجيح الخيار الأمني في السياسة العامة على نحو ما بيناه سابقا، أما السبب الثاني فيتمثل في غياب الأولويات الاقتصادية عن الأداء الحكومي المصري بعد 3 يوليو 2013.

ج – زيادة الدين العام:

من العوامل التي أدت إلى بلوغ الأزمة الراهنة تلك الذروة التي بلغتها أزمة زيادة الدين العام المصري، وبخاصة الدين الأجنبي. وإذا كان الدين العام قد بلغ 2.1 تريليون جنيه وفق إحصاءات البنك المركزي المصري في ديسمبر 20154، بما يمثل 86% من الناتج القومي الإجمالي لمصر، فإن الدين الأجنبي المصري بلغ في نفس الفترة 46.1 مليار دولار5، أي نحو 360 مليار جنيه مقوما بالسعر الرسمي للدولار (الدولار يساوي 7.83 جنيها)، ونحو 399 بسعر السوق الموازي (الدولار يساوي 8.65 جنيها).

ارتفاع حجم الدينين (الذي يتجاوز مجموعهما الناتج القومي الإجمالي) يفرض أعباء خدمة دين تبلغ 173 مليار جنيه في عام 20146، فإذا ما أضفنا لذلك الرقم وجود حجم عجز موازنة يبلغ 281 مليار جنيه7، تكون مصر في حالة أزمة مالية. وأحد ملامح هذه الأزمة ما أعلنه البنك المركزي المصري في أكتوبر 2015 من أن زيادة الدين الأجنبي، واعتماد مصر على رافعة مالية خليجية أدى لزيادة “أعباء خدمة الدين الخارجي متوسطة وطويلة الأجل لتبلغ 5.6 مليار دولار، موضحا أن الأقساط المسددة بلغت 4.9 مليار دولار، والفوائد المدفوعة نحو 700 مليون دولار8.

د – تضارب المصالح:

تعاني مصر من غياب درجة دنيا من درجات الإجماع الوطني على مسار المستقبل، مما أدى لغيابها عن علاقات القوى الاقتصادية ببعضها البعض، أسوة بغياب الاتفاق على أجندة موازية في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية. إلخ.

وتجليات غياب التوافق على الأجندة الوطنية الاقتصادية يتمثل في ملامح كثيرة، منها بزوغ فجر المنافسة المدنية – العسكرية / السيادية في المجال الاقتصادي، كما يعاني المجتمع الاقتصادي من معاندة الدولة لاحتياجات التنمية الاقتصادية من خلال الإفراط في القوانين والتشريعات التي تعوق سياسات وخطط التنمية، ومن خلال ترسيخ سياسات عسكرة الاقتصاد الوطني، فضلا عن المواجهات المتتالية بين العمال وأصحاب العمل، وأخيرا وليس آخرا؛ هناك تضارب المصالح بين المصنعين والمستوردين.

فخلال السنوات العشر الماضية، كانت القرارات التي تصدر لتعزيز الاستيراد تؤدي لاشتعال حرب التصريحات الصادرة عن لوبي أصحاب الصناعة عبر المنظمات المعبرة عن هذه الشريحة الاقتصادية، والعكس صحيح فيما يتعلق بقرار دعم الصناعة “الوطنية” وحماية العاملين بها، والذي كان يجابه دائما بحملة من المستوردين الذي كانوا دوما يقعون في موقع الضحية حين يتعلق الأمر بدعم الصناعة9.

ظهر هذا الأمر جليا في موقف المصنعين من عدة قضايا، منها مطالبات غرفة الصناعات النسيجية باتحاد الصناعات، بضرورة فرض رسوم حمائية على جميع الواردات من الغزول والملابس لحماية الصناعة الوطنية. ووجود اتفاقات تسهيل التجارة مع الدول العربية كانت تلقى دوما مقاومة من جانب أرباب الصناعة المصرية، إلا ما كانوا يستوردونه لإعادة تعبئته وتصديره.

ه-التوسع في الاستيراد لغرض الربح:

من أهم العوامل التي تمثل أرضية لتأجيج الصراع الراهن فتح الباب أمام المستوردين لاستيراد ما يشاؤون من سلع ذات مستويات طبقية مختلفة، وذات طبيعة منشأ مختلفة، على نحو نظر إليه كثير من الخبراء باعتباره تجاهلا لمعطيات اقتصادية مصرية أساسية.

ثانياً: التأثيرات والتداعيات:

أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تعزيز النظر إلى الواردات باعتبارها تبديد لموارد الدولة الدولارية في وقت تزايدت فيه أعباء السياسة المالية المصرية التي أوضحنا ملامحها عالية.

  • أدى شح الموارد الدولارية للنظر إلى أية اقتطاعات من الاحتياطي النقدي على أنها تمثل مشكلة قومية10.
  • أدى تضارب المصالح بين المستوردين والمصنعين إلى حدوث تقارب حكومي مع رجال الأعمال العاملين في القطاع الصناعي، مما أدى في النهاية إلى تشبع العقل الحكومي بحجج رجال الصناعة بأن قطاع الاستيراد هو القطاع الذي يؤدي لتبديد الدولار11. وترسخت هذه القناعة برغم إفادات المستوردين بأن فترة ولاية هشام رامز في البنك المركزي أدت لتنامي عادة توفير المستوردين للدولار من السوق الموازي وليس من خلال انتظار في قوائم طلب الدولار بالبنك12.
  • أدت سياسة الحكومة المصرية تجاه الصناعة، من تحويل الطاقة للمنازل، إلى اتجاه الحكومة لتقديم تنازل للمصنعين، وتعويضهم عما أصابهم خلال فترة منع الطاقة، وذلك من خلال تعزيز أرباحهم بالسوق، عبر توفير سياسة حمائية لهم، تغطي رفعهم الأسعار، في إطار غيبة منافس مستورد يواجه انفرادهم بالسوق13.
  • أدى اضطراب السياسة الاستثمارية للدولة، وعدم وضوح الأولويات بها لتباطؤ تدفق الاستثمارات الأجنبية، وعدم تحقيق وزارة الاستثمار للمستهدف الاستثماري (التدفق أقل من 7 مليار دولار مقارنة بتدفق مستهدف بلغ 16 مليارا)، وهو ما سبب قصورا في حجم الاحتياطي يدعم تلبية الواردات لاحتياجات السوق المحلي، ويمنع اللجوء لخيار احتكاري داخلي.

ثالثا: خيارات الدولة

ملامح الاقتصاد المصري المأزوم أدى باتجاه إدارة السيسي نحو الحد من الواردات، باعتبار ذلك الخيار الأمثل في كل الأحوال، بالنظر لطبيعة اقتصاد ما زال يدار يوما بيوم، في إطار احتياطي نقدي أجنبي يكفي احتياجات مصر من الواردات لمدة 3 شهور فقط14. ويبقى السؤال: هل هذا الخيار يمثل رؤية استراتيجية؟ أم أنه قابل للتحول إلى سياسة دائمة؟

أ – الحد من الواردات كخيار إستراتيجي:

سياسة الحد من الواردات كخيار إستراتيجي تعني أن الدولة لديها رؤية تمكنها من توفير حل في الأجل المتوسط والبعيد، وأن هذه الرؤية تتضمن أبعادا مختلفة من تقييم وضع السوق، وتقدير حجم العاملين بالقطاعات المختلفة، وبناء نمط دعاية واعي في بلد يمتلك “أذرعا إعلامية” تعمل بعقلية الإرشاد الستيني، ويمكنها من أن تخلق رؤية أو تطلعا لدى قطاعات جماهيرية واسعة حيال توجه الدولة للحد من الواردات، وأن تعمل على إحاطة العاملين بمجال الاستيراد علما باستراتيجية الدولة لإدارة الأزمة، وأن توفر بدائل لتحول القوى العاملة بهذا القطاع لقطاعات أخرى، بدلا من أن تتركهم نهبا لـ«خراب البيوت» الناجم عن القرارات المفاجئة بمنع استيراد سلع بعينها، وتعويق استيراد قطاعات سلعية أخرى، ورفع الواردات على قطاع ثالث من السلع. ويرتبط بهذا كله أن يكون السعي لإحداث هذا التحول مرهون بقطاع صناعي قادر من حيث توفر مستلزمات الإنتاج -وبخاصة الطاقة -على تجسير الفجوة التشغيلية التي ستنجم عن تعويق قطاع الاستيراد. كما تفترض هذه الرؤية أن يكون هناك توجه نوعي للتنمية الصناعية، بالحلول محل الواردات.

ب – الحد من الواردات كخيار تكتيكي:

يعني هذا الخيار لجوء الدولة لتحجيم الواردات لفترة معينة، لحين تعزيز قدرة القطاع الصناعي المصري على تنمية الشريحة الموجهة للتصدير، وهو ما يتطلب وجود خريطة استثمارية واضحة، مصحوبة بسياسة معلنة للدولة بالاتجاه نحو تنمية التصنيع بغرض التصدير، ووضوح الرؤية فيما يتعلق بالأهداف التي تستهدف الدولة تحقيقها لتعزيز تنافسية الصادرات المصرية. ومع توفر “حوكمة رشيدة”، فإن هذه الرؤية التكتيكية تفترض أيضا الوعي بحجم العمالة المشتغلة في قطاع الاستيراد، وبناء تصور تشغيلي يحول دون تحول العاملين بهذا القطاع لسوق القوى العاطلة عن العمل، واستخدام قوى إعادة التأهيل الاقتصادي لتوجيه العمالة المشتغلة بهذا القطاع لغيره من القطاعات التي تستهدف الدولة تحفيزها وتعزيز مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة القادمة التي يفترض بها أن تكون ضمن خطة تشغيل قومية أيضا. على أن تفتح الدولة الباب مرة أخرى أمام قطاع الاستيراد ليعيد دورته في تلبية الاحتياجات المحلية وفق خريطة العمل الجديدة التي وضعتها الدولة لتعزيز أدائها الاقتصادي.

مع توفر المعلومات المبدئية لهذه الدراسة، لا يمكن القول بتوفر رؤيتين، لا تكتيكية ولا استراتيجية، وهو ما يمكن دعمه بالقسمين التاليين من هذه الدراسة.

رابعاً: إجراءات ضد الاستيراد

دخلت الدولة ممثلة في البنك المركزي تارة ووزارة التجارة والصناعة تارة أخرى في حرب ضد المستوردين، بهدف تقليل استهلاك الدولار وترتيب أولويات إتاحته، وخاصة مع إسراف الدولة في الإنفاق غير المنظم للمنح الخليجية، ما أدى لتحفظ الرعاة الخليجيين عن توفير خط منح مفتوح للنظام15.

ومن جهة ثانية، اعتمدت إدارة السيسي على وزيرة التعاون الدولي “سحر نصر” في توفير تدفق قروض ومنح ومساعدات (تسهيلات) من خلال نشاطها مع مؤسسات المنح الأممية (صندوق النقد والبنك الدوليين)16، والقارية (البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية 17، والبنك الأفريقي للتنمية18). وساندها جزئيا في مهمة الاقتراض محافظ البنك المركزي “طارق عامر” الذي استهل فترة محافظيته بقرض من بنك الاستيراد والتصدير الأفريقي بقيمة مليار دولار بتسهيلات ضخمة19، وتوالت القروض، حتى اشترط البنك الدولي شروطا صارمة لتوفير قرض المليار دولار الأخيرة20.

ومع تراجع عوائد القناة، ومع تراجع قيمة الصادرات، ومع الانخفاض الحاد في عائدات قطاع السياحة، ومع الثبات النسبي في تحويلات المصريين العاملين بالخارج، بدأت إدارة السيسي تتجه نحو تأجيل المواجهة مع الدولار بانتظار أن يطرأ تحسن على تدفق الاستثمارات. وحتى يحدث ذلك، كان بديل الحد من الواردات هو البديل الوحيد المتاح.

وفي هذا السياق، خاضت إدارة السيسي أربعة مواجهات رئيسية مع المستوردين، يمكن أن نوجزها فيما يلي:

الجولة الأولى: البنك المركزي خلال إدارة هشام رامز

كان أول قرار اتخذه محافظ البنك المركزي السابق هشام رامز، منذ توليه رئاسة البنك المركزي، تعليمات للبنوك بترشيد استخدام الدولار فيما يخص الاستيراد من الخارج، وتحديد سلع لها أولوية في عمليات الاستيراد مثل الأدوية والقمح وغيرها. ونص القرار على السماح للبنوك باستثناء عمليات استيراد كلًا من اللحوم والدواجن بجميع أنواعها، والسكر بجميع أنواعه لحساب التجار بغرض الإتجار فيها أو الجهات الحكومية من الحد الأدنى لنسبة التأمين النقدي البالغ 50%، مع ترك الحرية للبنوك في تحديد نسبة الغطاء النقدي ودون حد أدنى لمدة 6 أشهر إضافية تنتهي في آخر شهر يونيو 201321.

ولم يلبث البنك المركزي أن أصدر قراره بتحديد سقف الإيداع الدولاري بالبنوك متمثلا في سقف يومي 10 آلاف دولار، وسقف شهري 50 ألف دولار، وذلك في أعقاب عدم التزام المستوردين. وهو القرار الذي حرك لوبي المستوردين ليضغط على هشام رامز، ويعجل بخروجه من منصبه.

الجولة الثانية: قرار وزير الصناعة رقم 43 لسنة 2016

في مطلع يناير 2016، أقر وزير التجارة والصناعة المهندس طارق قابيل، قائمة بـ 50 سلعة، لمنع استيرادها إلا بعد تسجيل اسم المصنع الذي ينتج هذه السلع والمنتجات بسجل هيئة الرقابة على الصادرات والواردات، والتي تخطت الـ 50 سلعة في 23 بند، للحد من واردات السلع الرديئة وغير المطابقة للمواصفات القياسية التي يستوردها التجار. وهو القرار الذي حمل رقم 43 لسنة 2016.

وتضمنت السلع الجديدة التي تم إضافتها للقائمة المنسوجات والمفروشات والسجاد والبطاطين والأحذية، إضافة إلى حديد التسليح والملابس الجاهزة، والدراجات العادية والنارية والمزودة بمحرك، والأجهزة المنزلية، والساعات، والمياه المعدنية والطبيعية والمياه الغازية22.

وحرك القرار شعبة المستوردين التي عقدت اجتماعا، اتهمت فيه الوزير بالتواطؤ مع لوبي احتكاري، واتهمت البنك المركزي كذلك بالمبالغة في تصوير الاستهلاك “الاستفزازي”، وهدد المستوردون بالتصعيد عبر مخاطبة عبد الفتاح السيسي، ولوّح قطاع منهم بالاعتصام بعد تسليم بطاقتيه الضريبية والاستيرادية23.

الجولة الثالثة: قرار البنك المركزي تحت محافظيه طارق عامر

وتمثلت في قرارات المحافظ الجديد للبنك المركزي طارق عامر في 20 يناير 2016، بإيقاف فتح الاعتمادات المستندية لنحو 700 شركة لقيامها باستيراد سلع غير استراتيجية، ما اعتبره استنزاف للاحتياطي من النقد الأجنبي24.

وفرض المركزي على البنوك الحصول على تأمين نقدي بنسبة 100% بدلاً من 50% على عمليات الاستيراد التي تتم لحساب الشركات التجارية أو الجهات الحكومية وأن ترسل مستندات العمليات الاستيرادية من “بنك إلى بنك”، بدون تدخل العميل في هذه العمليات. واستثنى البنك المركزي من هذا القرار كل عمليات الاستيراد المتعلقة بالدواء والأمصال وألبان الأطفال والسلع الاستثمارية والوسيطة والمواد الخام.

الجولة الرابعة: القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2016

الجولة الرابعة من جهود احتواء الطلب على الدولار (حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة) تتمثل في إصدار السيسي قرارًا جمهوريًا في 31 يناير 2016، حمل رقم 25 لسنة 2016 بتعديل فئات التعريفة الجمركية الواردة بقرار رئيس الجمهورية رقم 184 لسنة 2013. ونص القرار على زيادة الجمارك على بعض السلع المستوردة، بنسب تراوحت من 20 إلى 40 % مع الإبقاء على الجمارك المقررة منذ إعمال القرار الجمهوري 184 لسنة 2013 على معظم السلع. وضمت القائمة التي نشرت بالجريدة الرسمية في 28 صفحة سلع ترفيهية من مختلف اﻷصناف والأنواع شملت أكثر من 500 صنف سلعي ضمت الفواكه والأثاث والأدوات المنزلية والزجاج والجلود25.

دلالات القرارات

حملت ديباجات القرارات المذكورة أهدافا إنسانية مبررة، لكن هذه الأهداف لم تكن موضع اهتمام من جانب متخذ القرار من الناحية الفعلية. فالبرغم أن القرارات ادعت أنها لا تمس احتياجات المواطن العادي، إلا أنها من الناحية الواقعية تضمنت سلعا تتعلق باحتياجات رجل الشارع، ومنها الأحذية والملابس والزجاج والأدوات المنزلية، وهو ما أدى إلى زيادة أسعار هذه السلع بالفعل فور صدور القرارات26. كما تضمنت تحذيرات المستوردين أن هذه القرارات ستؤدي لموجة غلاء.

ومن ناحية ثانية، فإن دعوى حماية الصناعة “الوطنية” اتهمها المستوردون بأنها نوع من التواطؤ الممهد للاحتكار، والذي لا يؤدي في الغالب لدعم الصناعة المحلية وتعزيز تنافسيتها بقدر ما يسهم في رفع سعر الصناعة المحلية وإفادة المصنعين على حساب المستوردين، فضلا عن تأثر المواطن العادي برفع مستوى أسعار السلع المحلية.

رابعا: الدولة ورجال الأعمال

أ -رجال الأعمال والمواجهة مع الدولة:

خلال الفترة الأولى من حكم نظام الثالث من يوليو، انطلقت الدولة في علاقتها برجال الأعمال من منطلق السيد والخادم، علاقة تصور فيها الحاكم المستند لدعم مشروط من المؤسسة العسكرية أن رجال الأعمال، وبخاصة المحسوبين على نظام الرئيس الأسبق المخلوع مبارك قد نهبوا الكثير، وأن سوق مصر واعدة، وأن هذه النخبة لابد لها وأن تتحمل عبء استقرار النظام، وبخاصة مع اتجاه الراعي الخليجي للانسحاب من مشهد دعم الدولة، بالنظر لما يعانيه من مشكلات بسبب التدهور الحاد في أسعار النفط. غير أن هذه المواجهات بدأت تأخذ بعدا تغلب عليه الموضوعية مع منتصف 2015، حين دخلت إدارة السيسي في مواجهة مع رجال الأعمال المستوردين، وتفصيل ذلك فيما يلي:

الجولة الأولى: التوتر مع الجميع:

بدأت المواجهة اقتصادية بمحاولة دفع رجال الأعمال للمشاركة في تمويل عجز الموازنة من خلال إلحاح السيسي على ضرورة تبرع رجال الأعمال لصندوق “تحيا مصر”، وهو الصندوق الذي كان يحاول من خلاله تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة، ونسبة بعض الإنجازات لإدارته الشخصية للمجال العام الاقتصادي المصري بعيدا عن الموازنة. وبرغم أن السيسي كان يرغب في رأس مال للصندوق يقدر بقيمة 100 مليار جنيه27، إلا أن إجمالي هذا الصندوق بلغ 7 مليارات فقط28، من بينها تبرعات جاملت بها قيادات بأجهزة الدولة29 السيسي لتبقى في مناصبها، وقد اتخذت هذه المواجهات طبيعة تضييقية.

النوع الثاني من المواجهة تلون بصبغة أمنية، واستخدمه السيسي لمواجهة رجال أعمال تجاوزوا خطوطا حمراء سياسية، كان من بينهم رجل الأعمال صلاح دياب بعد مهاجمته القوات المسلحة التي كانت بنظره تعمل كمقاول وليس كقوات مسلحة30.

أما المواجهة الأبرز التالية فتمثلت في المواجهة مع رجل الأعمال نجيب ساويرس – برغم تبرع أسرته لصندوق “تحيا مصر” بنحو نصف رأس مال الصندوق – حيث قدم دعما لجهود كورية شمالية بالتضييق عليه ومعاقبته31. والقائمة في هذا الصدد تطول، وليس هذا مقام سردها.

خلال هذه الجولة، لم تكن إدارة السيسي تميز بين مُصنّعين أو مستوردين، بل واجهت الجميع، بدء من محمد نصار تاجر المجوهرات، وحتى صلاح دياب صاحب التوكيلات، وانتهاء بساويرس صاحب الصناعة، ومحمد فريد خميس رجل الصناعة المصري البارز.

الجولة الثانية: الخلاف مع المستوردين:

مرت هذه المواجهة بعدة مراحل، حرص خلالها النظام على استخدام وكالات عن السلطة المركزية أو رأس الإدارة التنفيذية فيما كانت إدارة السيسي تنظر إليه باعتباره تقليلا لفاتورة الواردات التي تضغط على العملة الأجنبية32. وبرغم تصريح أحمد شيحة رئيس شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية بأن المستوردين ليسوا السبب في نقص العملة الصعبة بالأسواق، وأنهم يوفرون جميع متطلباتهم من الدولار عن طريق السوق السوداء33، إلا أن السلطة التنفيذية يبدو وكأنها قد وضعت على قضبان قطار تقليص فاتورة الواردات، وأن القطار قد انطلق في رحلته غير عابئ بمصالح المستوردين، وشركاتهم والعاملين فيها، أو بالبيوت المفتوحة جراء نشاط الاستيراد.

بدأت المواجهة مع المستوردين بتصور محافظ البنك المركزي هشام رامز أن الحفاظ على أصول مصر من احتياطي العملة الأجنبية يبدأ بمنع الدولار عن المستوردين، فأصدر قراراً بتحديد سقف الإيداع الذي أسلفنا الإشارة إليه34. وتلا ذلك القرار تحرك وزارة الصناعة لتقييد استيراد 50 صنفا سلعيا باشتراط قيد شركات منشأ هذه السلع في مرصد جهاز الرقابة على الصادرات والواردات، مُعللة ذلك بالحاجة لحماية المستهلك المصري35. ولم يلبث المحافظ الجديد للبنك المركزي أن أضاف لسلسلة التعقيدات تعقيدا آخر، حيث اشترط تغطية تأمين الاعتمادات المستندية الموجهة لغرض الاستيراد السلعي بنسبة 100%36، وهي التي كانت تغطى بنسبة تتراوح ما بين 20 إلى 50% من قبل. هذا الخط المتصاعد للمواجهة توجته إدارة السيسي بإصدار القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2016، حيث رفع التعريفة الجمركية لنحو 500 صنف سلعي37.

ويلاحظ أن القضية ربما تبدو مشروعة، ولو أن هذه القرارات لا تؤدي لحل المشكلة، وإنما تؤجلها، حيث إن حل الأزمة – وفق خبراء – لا يكون إلا بزيادة المعروض من العملة الأمريكية وليس بتقليل الطلب عليها. فالبعد الأهم من هذه المشكلة المركبة يتمثل في اتخاذ القرارات بدون أن تعبأ السلطة التنفيذية بما قد يترتب عليها من إضرار بالمجتمع أو الفئات المعنية بتطبيق هذا القرار. والأهم في هذا السياق أن البيئة التي يتحرك فيها القرار بيئة مأزومة بالبطالة التي تبلغ 13.1%، بما يفترض أن تتحرك السلطة بصورة أكثر حذرا مع قرارات قد تؤثر بالسلب على معدل البطالة.

غير أن السلطة التنفيذية يبدو وكأنها قد عدلت عن منهج المواجهات المباشرة بصورة جزئية، فاتجهت نحو إشراك المجتمع في تزكية استقطاب اقتصادي ضد المستوردين عبر ضم رجال أعمال معنيين بالصناعة لحلبة المواجهة ضد المستوردين.

ب -رجال الأعمال ضد رجال الأعمال:

تدخل الدولة ضد رجال الأعمال على النحو السابق أدى لمشكلات جمة، ليس أقلها أنه يجعل رجال الأعمال المصريين أكثر قلقا حيال استثماراتهم داخل البلاد38، وهو ما جعل مستثمرين أجانب يفضلون العمل بأموال البنوك المصرية بدلا من أموالهم بالرغم من قربهم من إدارة السيسي، وآخرهم رجل الأعمال الإماراتي “محمد بن علي العبار” الذي رفض وضع وديعة بخمسة مليارات دولار، ورفض تخفيضها لثلاثة مليارات، وقدم طلبا للبنوك المحلية بقروض، وهو ما رفضته البنوك المحلية بناء على تعليمات حكومية39، لنخلص إلى أن المواجهة بين الدولة ورجال الأعمال تصب في غير مصلحة جذب الاستثمارات، وهو ما تعول عليه إدارة السيسي للخروج من أزمة النقد الأجنبي الراهنة. وبديلا عن ذلك، اتجهت إدارة السيسي لضرب المستوردين برجال الصناعة.

وجاءت مراحل تحويل المواجهة على النحو التالي:

1. كان لافتا أن أول تصريح صريح غير ضمني يصدر عن تحويل هذه المواجهة ما صدر عن رئيس مصلحة الجمارك “مجدي عبد العزيز” الذي اعتبر في بيان له أن القرار الجمهوري رقم   25 لسنة 2016 جاء استجابة لمطلب اتحاد الصناعات المصرية، واعتبره حرصا من الحكومة على اتخاذ كافة الإجراءات والقرارات التي من شأنها حماية الصناعات الوطنية من أية ممارسات تؤثر على قدرتها التنافسية في مواجهة المنتجات المستوردة، دون الإخلال بشروط الاتفاقات والمعاهدات التي وقعتها مصر مع مختلف دول العالم40.

2. كان الخلاف بين اتحاد الصناعات واتحاد الغرف التجارية ضمنيا حتى جعله تصريح رئيس مصلحة الجمارك بهذه الصورة السافرة. وكان رجال أعمال مستوردون قد انتقدوا من قبل قرار وزير الصناعة رقم 43 لسنة 2016، معتبرين أنه سيفيد الشركات الكبرى وسيساعدها على احتكار السوق، ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار. وأكد المستوردون أن الدولة تعالج المشكلة بمشكلة أكبر، حيث تسعى لحل مشكلة الدولار، لكنها تعالجها بما يؤدي لمشكلة اختفاء السلع من السوق وارتفاع أسعار السلع الموجودة، بالإضافة إلى إضرار المستوردين وغلق شركاتهم41. وطالبوا باجتماع الحكومة مع المستوردين، وإشراكهم في هذه القرارات، للوصول إلى حل يرضي الجميع، حتى لو سيمنع الاستيراد بشكل تام، لكن على الأقل يحدث إخراج تدريجي من السوق، كي لا يتضرر أحد.

3. بعد تصريح رئيس مصلحة الجمارك، اتخذت التصريحات منحى آخر، حيث صرح رجل الأعمال “على شكر”، عضو اتحاد الغرف التجارية، أن القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2016 جاء نتيجة قيام بعض الفئات المقربة من عبد الفتاح السيسي بنقل بعض المعلومات الخاطئة فيما يتعلق بالمستوردين، وأنهم السبب الرئيسي وراء خراب البلاد، جراء إغراق السوق بالمنتجات غير الجيدة، وهذه معلومات ليس لها أساس من الصحة، وهو ما اعتبروه دلالة على وجود فجوة بين الرئيس وكافة القطاعات المعنية بقراره الجمهوري42.

وكان “أحمد شيحة” رئيس شعبة المستوردين باتحاد الغرف التجارية قد صرح من قبل بأن المستوردين ليسوا السبب في نقص العملة الصعبة بالأسواق، وأنهم يوفرون جميع متطلباتهم من الدولار عن طريق السوق السوداء43.

4. من جهة مناقضة، أكد رجل الأعمال المصري “محمد السويدي، رئيس اتحاد الصناعات، وعضو مجلس النواب عن ائتلاف دعم مصر44، أن القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 2016 يحمى المواطن البسيط، ونفى أن يكون مسهلا لعملية الاحتكار حسبما روج البعض، وأنه يحمى السلع الأساسية. كما أكد على موقف الاتحاد المصدق لتصريح رئيس مصلحة الجمارك، ومن دون أن يحاول صياغته بصورة ملطفة للأجواء، حيث أفاد أنه لابد من تنظيم الاستيراد وليس المنع، لكنه حدد أنه يقصد بعدم منع الاستيراد ما سبق وخلص إليه البنك المركزي من السماح باستيراد المواد الخام والسلع الوسيطة والاستثمارية من دون قيد45.

ويكشف تطور الخطاب بين الأطراف الأربعة أن تناقضا واضحا في المصالح بين اتحاد الصناعات المصرية وبين اتحاد الغرف التجارية، وبخاصة الشعبة العامة للمستوردين بالغرفة، تمكنت إدارة السيسي عبرها من اتخاذ اتحاد الصناعات وسيلة لمواجهة المستوردين من دون أن يبدو ذلك مواجهة بين الدولة ورجال الأعمال، وهو ما من شأنه تجنيب الدولة ثمنا باهظا.

خاتمة

إن ملامح الأزمة حول الواردات كشفت عن عدة ملامح خلل في حاجة لتقويم. ويمكن إيجاز ملامح هذه الأزمة فيما يلي:

1ـ كشفت الأزمة عن تحرك عشوائي اقتصادي للدولة. فرغم أن أبعاد الأزمة كانت واضحة للعيان منذ عام 2013، ورغم أن أحد أهم الأدوات التي يفترض بها مواجهة وإدارة هذه الأزمة، البنك المركزي المصري، كان يتمتع بدرجة استقرار عالية طيلة الفترة من 2012 وحتى آخر 2015، إلا أن إدارة السيسي لم تتخذ أية خطوة تذكر في إطار الحد من تداعيات الانفتاح الاستيرادي البادي للعيان برغم عدم توحشه نسبيا، إلا في مرحلة متأخرة جدا من عمر الأزمة، حيث لم تكن هناك خطة عامة للتحول من نهج الاعتماد على الواردات للاعتماد على الصناعة المحلية، ولم تكن هناك خطة لتدارك تأثير هذه الأزمة على سوق العمل وحجم البطالة فيهن ولم يكن هناك توظيف فعال للأذرع الإعلامية في بناء حلم قومي بالتحول من دولة مستوردة لدولة منتجة. فقط بدا أن الدولة تعيش اليوم بيومه إن جاز استخدام هذا التعبير المجازي.

2ـ كشفت الأزمة عن أن إدارة السيسي لم تستوعب طبيعة اللحظة الاقتصادية التي تعيشها مصر، وخصائصها الاقتصادية المتمثلة في درجة عالية من الركود التضخمي، تتراجع فيها قوى الإنتاج، في الوقت الذي تشتعل فيه الأسعار بصورة كبيرة. وبدلا من العمل على تعزيز مزيد تشغيل للموارد المتاحة من أجل مواجهة هذا الركود التضخمي، إذ بإدارة السيسي تضيف للركود ركودا آخر بإحالة قطاع بأسره من القطاعات الاقتصادية إلى المعاش. وأثر هذه الكارثة يتبدى في أن حجم التدفقات النقدية التي كان هذا القطاع يوفرها للعاملين فيه، وللخزانة العامة للدولة في صورة جمارك ثم ضرائب، ستتراجع بصورة حادة، ما يؤدي إلى تقليل الطلب الداخلي على السلع والخدمات، ما يؤدي بدوره لتعميق الانكماش.

وبعد حديثنا عن الظرف المصري، يكون من باب التكميل أن نتحدث عن اقتصاد عالمي يتداعى هو الآخر تحت وطأة ركود قصير الأجل – بطبيعة الركود بصفة عامة – وهو ما من شأنه أن يؤثر بصورة قوية على مصر، ما لم يكن هناك اتجاه لتدفقات استثمارية قوية لهذا البلد تعوض فاقدها الاقتصادي كما تنعش عوائد الاستثمارات العالمية، وهو ما تواجه فيه مصر منافسة شرسة.

3ـ اعتمدت سياسة إدارة السيسي خلال هذه الأزمة على قطاع تأثر سلبا طيلة العامين الماضيين، وهو القطاع الصناعي، بتغليب هذه الإدارة للخيار الأمني على حساب الخيار الاقتصادي الأمثل، فقطعت إمدادات الطاقة عن هذا القطاع، ما أدى لتراجع مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي. ويبقى السؤال المتاح أمام إدارة السيسي: هل إمدادات الطاقة تكفي للتعويل على هذا القطاع في تعويض فاقد التشغيل والفراغ الاستهلاكي “الأساسي” الذي خلفته قراراته؟

4ـ أن إدارة مثل هذه الأزمة بهذه الصورة يفتح الباب مجددا أمام التساؤل عن حجم التضخم ومآلاته المستقبلية، وذلك بالنظر إلى أن طريقة معالجة إدارة السيسي لهذه الأزمة تعني – بدون مجال للجدال – فتح الباب أمام المصنعين المحليين ليتمددوا بكامل قوتهم، وبكامل سطوتهم السياسية أيضا، بعد دعم السيسي نفسه هذا التوجه، لتعويض خسارتهم طيلة العامين الماضيين، وهو ما لن يكون عبر زيادة خطوط إنتاج صناعتهم في الأمد القصير، بل سيكون عبر رفع الأسعار، في فترة تعاني فيها مصر من مستوى تضخم غير مسبوق، ربما تحايلت لإخفائه بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

—————————————–

الهامش

(1) محمود الشيخ، الصناعة في عهد السيسي. أحلام لم ترى النور، دوت مصر، 2 يونيو 2015.

(2) مصطفى فهمي، التنمية الصناعية: مصانع الإسمنت تعمل بأقل من 50% من طاقتها الإنتاجية، جريدة البورصة، 11 مايو 2015.

(3) سحر الزرقاني، هل يصمد الاحتياطي النقدي أمام تراجع عوائد السياحة وقناة السويس؟، جريدة البورصة، 14 نوفمبر 2015.

(4) عبد القادر إسماعيل، ارتفاع الدين العام إلى 2.09 تريليون جنيه تمثل 86% من الناتج المحلي، بوابة الوفد الإلكترونية، 2 ديسمبر 2015.

(5) مصطفى عيد، ارتفاع دين مصر الخارجي لأعلى مستوى في 24 عامًا بعد صعود قياسي في 3 شهور، 12 أكتوبر 2015.

(6) ربيع شعبان، المالية: ارتفاع الدين العام إلى 323 مليار دولار خلال العام المالي 2015/ 2016، شبكة محيط الإخبارية، 5 يوليو 2015.

(7) محمد يحيى، العجز بلغ 281 مليار جنيه. «البديل» تشرّح الموازنة الجديدة، موقع البديل الإخباري، 24 يونيو 2015.

(8) وكالة الأناضول للأنباء، ارتفاع الدين الخارجي لمصر إلى 48.1 مليار دولار، موقع عربي 21، 12 أكتوبر 2015.

(9) سلوى عثمان، تضارب المصالح السبب في صراعات المصنعين والمستوردين، موقع صدى البلد، 21 فبراير 2012.

(10) أحمد بشارة، إنفو جراف | كيف تضغط الواردات على الاحتياطي النقدي الأجنبي المصري 2011-2015، بوابة مصر العربية، 12 يناير 2015.

(11) وكالات، الغرفة التجارية: زيادة رسوم الجمارك سيرفع أسعار السلع بنسبة 25%. والقرار يعزز الاحتكار، موقع البداية، 31 يناير 2016.

(12) محمد موافى، شيحة: ندبر الدولار من السوق السوداء. ولسنا سبب تراجع الاحتياطي، بوابة مصر العربية، 1 فبراير 2016.

(13) محمد موافى، على شكر: «مصلحجية» مقربون وراء قرار الجمارك الجمهوري، موقع أخبارك، 1 فبراير.

(14) خالد حسني، احتياطي النقد الأجنبي بمصر يكفي الواردات نحو 3 شهور، العربية نت، 20 سبتمبر 2015.

(15) افتتاحية، الخليج يقرر وقف المنح المالية لمصر، صحيفة المصريون، 25 يونيو 2015.

(16) محمد الدعدع، سحر نصر: البنك الدولي وافق على منح مصر قرض بقيمة 3 مليارات دولار لمدة 3 سنوات، صحيفة الوطن، 17 ديسمبر 2015.

(17) رنا عبد الصادق، سحر نصر: اعتماد مصر دولة عمليات بالبنك الأوروبي ينشط النمو الاقتصادي، بوابة التحرير، 1 أكتوبر 2015.

(18) الحسيني حسن، نصر: مصر حصلت على 1.5 مليار دولار قروض البنكين الدولي والإفريقي للتنمية، جريدة البورصة، 2 يناير 2016.

(19) سارة العيسوي، مليار دولار تسهيلات ائتمانية من الإفريقي للاستيراد والتصدير، الأهرام اليومي، 29 نوفمبر 2015.

(20) إسماعيل حماد، البنك الدولي لمصر: القرض مقابل تخفيض الأجور والدعم، صحيفة الوطن، 22 ديسمبر 2015.

(21) أحمد يعقوب، البنك المركزي يقرر وضع سقف للإيداع بـ 10 آلاف دولار يوميًا “كاش” بالبنوك، اليوم السابع، 4 فبراير 2015.

(22) ورود ياسين، قرار «التجارة» بتعديل قواعد تسجيل المصانع المصدرة لمصر، بوابة فيتو، 19 يناير 2016.

(23) محمد موافى، «المستوردين» يهددون بالاعتصام أمام الصناعة لوقف قرار حظر السلع، بوابة مصر العربية، 11 يناير 2016.

(24) عبد الرحيم أبو شامة، «المركزي» يبدأ الحرب على الاستيراد العشوائي بقرارات جديدة بداية يناير، بوابة الوفد 22 ديسمبر 2015.

(25) بسمة ثروت وآخرون، الحكومة تبدأ تنفيذ خطة محاصرة الواردات، جريدة البورصة، 31 يناير 2016

(26) إيمان منصور، تجار يتوقعون زيادة أسعار الملابس المستوردة 20% بعد قرار رفع الجمارك، موقع مصراوي، 10 يناير 2016.

(27) صالح إبراهيم، طلب «السيسى» 100 مليار. و«تحيا مصر» يجمع 2.3 مليار فى شهرين، صحيفة الوطن، 19 أغسطس 2014.

(28) أسماء بدوي، تحيا مصر: الرئيس بدأ. لكن استجابة رجال الأعمال ضعيفة، صحيفة الوطن، 18 سبتمبر 2014. وكذلك: محمد عبد السلام، تضخمت ثرواتهم و”كروشهم” ويتجاهلون التبرع لـ “تحيا مصر”، موقع صدى البلد، 7 أغسطس 2014.

(29) أنجيل سامي، انتقادات واسعة لدعم المؤسسات الحكومية مبادرة “تحيا مصر”، موقع البوابة نيوز، 6 يوليو 2014.

(30) نيوتن، طلب خاص، صحيفة المصري اليوم، 17 مايو 2015.

(31) أحمد محمد عبد الباسط، التفاصيل الكاملة لأزمة “أوراسكوم تليكوم” مع نظام كوريا الشمالية، صحيفة الوطن،20 نوفمبر 2015.

(32) إسماعيل حماد، قرارات «المركزي» تستهدف ترشيد الاستيراد ودعم الصناعة المحلية. والتجار يهددون برفع الأسعار وإرباك الأسواق، صحيفة الوطن، 28 ديسمبر 2015.

(33) محمد موافى، شيحة: ندبر الدولار من السوق السوداء. ولسنا سبب تراجع الاحتياطي، بوابة مصر العربية، 1 فبراير 2016.

(34) أحمد يعقوب، البنك المركزي يقرر وضع سقف للإيداع بـ 10 آلاف دولار يوميًا “كاش” بالبنوك، اليوم السابع، 4 فبراير 2015.

(35) ورود ياسين، قرار «التجارة» بتعديل قواعد تسجيل المصانع المصدرة لمصر، بوابة فيتو، 19 يناير 2016.

(36) عبد الرحيم أبو شامة، «المركزي» يبدأ الحرب على الاستيراد العشوائي بقرارات جديدة بداية يناير، بوابة الوفد 22 ديسمبر 2015.

(37) بسمة ثروت وآخرون، الحكومة تبدأ تنفيذ خطة محاصرة الواردات، جريدة البورصة، 31 يناير 2016

(38) محمود السقا، لماذا قرر رجال الأعمال الهروب الآن؟، بوابة يناير، 1 نوفمبر 2015.

(39) سي إن بي سي أريبيا، حسين صبور (فيديو)، “العبار” رفض إيداع 5 مليارات دولار كضمان لجدية تطوير العاصمة، 10 سبتمبر 2015.

(40) هاني الحوتي، مصلحة الجمارك: نهدف لحماية الصناعة الوطنية وترشيد استخدام العملة الأجنبية، صحيفة اليوم السابع، 31 يناير 2016.

(41) محمد محمود، “المستوردين” في مهب الريح … والسبب قرارات وزير الصناعة والتجارة، بوابة القاهرة، 1 فبراير 2016.

(42) محمد موافى، على شكر: «مصلحجية» مقربون وراء قرار الجمارك الجمهوري، موقع أخبارك، 1 فبراير.

(43) محمد موافى، شيحة: ندبر الدولار من السوق السوداء. ولسنا سبب تراجع الاحتياطي، موقع أخبارك، 1 فبراير 2016.

(44) في مداخلة هاتفية مع برنامج “هنا العاصمة الذي تقدمه الإعلامية لميس الحديدي على فضائية السي بي سي”.

(45) ندى سليم، الصناع فى مواجهة التجار، اليوم السابع، 1 فبراير 2016.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close