fbpx
قلم وميدان

الثورة المصرية بين الشعارات والمفارقات

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

ما الذي يحدو بأعضاء تكتل قوي من المناصرين للحكم التسلطي تفضيل الحل الديمقراطي الذي قد يترتب عليه تهديد مصالحهم؟  كان هذا سؤالا طرحه “غيروغ سورنسن” في كتابه “الديمقراطية والتحول الديمقراطي”، المنشور عام 2007، وفي محاولته للإجابة عليه يقول: “في الحقيقة قد يستميت هؤلاء من أجل الإبقاء على النظام التسلطي وقد لا يكون التغيير إلا استبدالا لأحد أنواع النظام التسلطي بنظام تسطلي آخر، وقد تنجح فقط إذا عانى النظام التسلطي من الهزيمة في حرب خارجية أو أهلية أو ببساطة عندما يتفتت نتيجة الانقسام الداخلي أو عندما تنتصر القوى الشعبية المؤيدة للديمقراطية”.

وعملياً، وفي مصر، وبعد أكثر من 3 سنوات على انقلاب 3 يوليو 2013، والذي كان تتويجا سيئا لمرحلة انتقالية متعثرة منذ شرارات 25 يناير 2011 يجب علينا أن نسأل السؤال نفسه، ما الذي يحدو بقائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي والمؤسسة العسكرية أن تـُقدِم على أي خطوة تغييرية تهدد مصالحها، وهم من سفكوا الدماء واستباحوا كل الحرمات من أجل الحفاظ عليها؟

مصر وثورتها ومفارقاتها:

على الرغم من مرور ثلاث سنوات على الانقلاب العسكري، وعلى الرغم من استمرار القمع والقهر من جانب النظام، والتدهور المستمر في الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية داخل مصر، إلا أن هناك العديد من المفارقات، لعل في مقدمتها الزيادة المطردة في التنازع والتشرذم لكل من انتمى يوما لثورة 25 يناير فضلا عن الانقسامات الداخلية المتزايدة داخل كل تكتل أو تيار أو تحالف أو حزب أو جماعة.

والمفارقة الأعجب والأغرب هي انخفاض الفعل الثوري النسبي للحراك على الأرض مقابل رفع السقف لشعارات من خارج مصر تُعلي من ضرورة المواجهة والحسم ودعم المقاومة الشعبية، إذ يبدو أن الطبيعي أن تحتاج الثورة عملا ثوريا راديكاليا على الأرض ومناورة في الخطاب السياسي الخارجي وفق توازن قوى حسب الإمكانات والتحالفات، غير أن الآية هنا منقلبة رأسا على عقب.

ومن المفارقات الأخرى، أن الشعارات طغت على تقديم المشاريع الفعلية العملية والتي يسعى الثوار أو السياسيون لتحقيقها، إذ يبدو وكأن السياسة ليست تحملا للمسئولية بقدر ما هي توجيه النصح والمواعظ للآخرين، ولهذا تفرط القوى والتيارات السياسية التي تدعي، أو تتبني الثورية في توجيه النصائح والمواعظ، على حساب تقديم المشاريع والخطط والسياسات والبرامج وتبني الأدوات التي من شأنها إسقاط منظومة الفساد والاستبداد والتسلط في مصر.

أيضا كانت هناك طموحات وأحلام لكثير من التيارات والرموز والحركات والأحزاب من غير الإخوان المسلمين، وحينما تم إقصاء الإخوان المسلمين بكل سبل العنف والانتهاكات الممكنة لم يتمكن أحدٌ من طرح أي مشروع سياسي، بغض النظر عن تقييمنا لتجربة ومشروع الإخوان.

مشروعات أم شعارات:

وسط هذه المفارقات يحق لنا أن نسأل أنفسنا هل هناك مشاريع فاعلة تُطرح على الساحة؟

إن الثورة الراديكالية الشاملة أو على الأقل الثورة الضاغطة لتحقيق نجاح جزئي أو إصلاح داخلي أو حتى القيام بعملية انسحاب تكتيكي وإعادة التموضع وإعادة ترتيب المواقف مرة أخرى، لا يمكن أن تبقى في حيز الشعارات والسجالات عن بعد، ولا يجب أن يبقى الكل يُثرثر مكتفيا بضريبة القواعد الباهظة التكاليف خوفاً من أن يُقدم للناس مشروعاً أو كشف حساب يكون من شأنه أنه يجعله عرضة للهجوم هنا والنقد هناك، وتكون النتيجة هي أن يفعل بلا محاسبة وينسحب بلا تقييم ويصمت بلا مراجعة ويزايد بلا مشروع واضح المعالم.

ولم يعد في مصر، داخلها أو خارجها، حتى من غير الثوار، من يطرح مشروعًا حقيقياً متكاملاً، يتم بموجبه إصلاح الدولة من داخل مؤسساتها ولا من خارجها، ولم يعد أحد يتحدث حتى عن فكرة المعارضة التي لها مشروع واضح حتى لو ذات سقف منخفض، من أجل توسيع هامش الحريات مثلا أو لأي غاية أخرى، ولم يعد هناك ثائر يطرح عمليًا إعادة ترميم الثورة سواء بالإخوان أو من غيرهم، كما لم يعد أحد يقدم مشروعا ولو انسحابيا ليُعيد تقييم موقفه مثلاُ، من أجل بناء القدرات من جديد إما بالانسحاب الواضح أو المقنّع أو الاعتراف بالخطأ والعجز وإفساح الطريق لآخرين يحاولون معالجة مع عجز عنه.

حتى الحديث المتهافت عن فكرة التصالح كمشروع أو رؤية أو توجه سياسي، يجب أن يكون لها مقومات وأدوات وعوامل ضغط حتى تؤدي إلى مكاسب، إذا لا يتصور أن يتصالح القاتل مع المقتول فجأة وبلا سبب، أو أن يُقدِم السارق طواعية على رد الحقوق المسلوبة، أو أن تلجأ الديكتاتورية بنفسها إلى التصالح فجأة مع العدالة التي لن ترتضى بأٌقل من رقبتها ورقبة شبكة مصالحها.

لست هنا بصدد تقييم أي من هذه الأفكار بل بصدد الإشارة فقط إلى الحاجة للطحن بدلاً من الضجيج، بحاجة لأن يتحمل القادة والمتصدرون والرموز مسئولياتهم الحقيقية ولا يكتفون بالحديث عن تضحيات الأبطال في الميادين والمعتقلات والمطاردين والمهجّرين، فلم تعد تجدي دائرة الشعارات والسجالات الإعلامية والتنظيمية البعيدة عن دائرة الفعل والتأُثير والاختبار والتقييم، ولم يعد يُجدي الهروب إلى السجال أو التلاسن والاختباء في دائرة لا تسمح فقط إلا بالتلاسن وإلقاء اللوم على الجميع.

استعداد … لا احتجاج:

حين ننظر الآن لما بعد 11 فبراير 2011 وما بعد انتخابات الرئاسة في عام 2012 يبدو جليا أننا لم نكن مستعدين لهذه المرحلة الانتقالية الصعبة والهامة، وكما ذكر ياسر على المتحدث الرئاسي في عهد الدكتور محمد مرسي: “لم نكن في 31 مارس/آذار 2012 في تمام الجاهزية لتولي المسؤولية، وأنا أقول ذلك بعد سنة من التفكير العميق والمراجعة في سجن العقرب، لم نكن جاهزين لملفات كثيرة ومنها ملف العلاقات الإقليمية”.

وتتكرر هذه المواقف في بلاد وأزمنة شتى حين تنادي القوى السياسية أو الثورية بشيء لا تعرفه أو ليست مستعدة له وبالتالي لا تستعد له بشكل جدي كمشروع حقيقي وفاعل وليس فقط تحت ضغط الإدارة اللحظية، إذ أن ذوي المصالح المهيمنين على الحكم يعلمون جيدا ماذا يريدون وكيف سيدافعون عنه.

فعلها مرة في ساحل العاج الديكتاتور “فيليكس بوانييه” أمام المعارضة التي كانت تدعو باستمرار لإجراء انتخابات مبكرة، ففاجأها ذات مرة عام 1990 بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مفتوحة، وبالطبع كان هو الأكثر تحكما واستعدادا إذ لا يتصور أن يمنح المستبد لأنصار الحرية طواعية أدوات خنقه ومحاسبته وتغييره.

لا تبدو المشكلة هنا في رفع المطالب ولا في تحديد المواقف من الآخرين، بل في الاستسلام للشعارات والخوف من تقديم المشاريع، فلن نتعلم إلا بالفعل والمحاولة والخطأ، وواجبنا الآن أن نسعى لترجمة ما نريده فعلياً في مشاريع فاعلة على الأرض ولا نكتفي بترديد الشعارات وعدم الاستعداد، فنقع كما وقعنا في 11 فبراير 2011، أو في 3-7-2013.

إننا إذا كنا نتحدث عن الثورة وأهدافها فهي، في أحد تعريفاتها، تعني القدرة على رفع معدلات السخط والغضب والقدرة على التثوير شبه المنظم ضد الاستبداد والفساد وتقليل حلفاء الديكتاتورية وداعميها في الداخل والخارج وصولا إلى حالة من الضغط الشعبي يمكن التحكم بها وقيادتها لكسر أو إحباط النظام الديكتاتوري المتحكم وأدواته الأساسية، مع تحقيق الضغط المناسب على مصالح القلة الفاسدة المهيمنة بما يُشعرها بالخوف والقلق المتزايد ويضعف مركزيتها وهيمنتها مع مرور الوقت، وربما صدقت الحكمة “لولا التجارب عميت المذاهب، وفي التجارب علم مستأنف”(1).

—————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close