fbpx
تقديرات

رفع الفائدة بمصر بين الدولرة والتضخم والركود

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

في السادس عشر من يونيو الجاري (2016)، أقدمت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري على رفع سعر الفائدة على الودائع والقروض البنكية بالجنيه المصري مجددا، لتبلغ أعلى مستوى لها خلال السنوات العشر الأخيرة. حيث رفعت اللجنة سعر فائدة الإيداع من 10.75% إلى 11.75% لليلة الواحدة؛ ما يعد أعلى مستوى لها منذ عشر سنوات، بينما زادت فائدة الإقراض من 11.75% إلى 12.75% والذي يعد بدوره أعلى مستوى لها منذ ثماني سنوات1. ونشرت اللجنة بيانا على موقع البنك المركزي، أفادت أنها “ترى أن رفع المعدلات الحالية للعائد لدى البنك المركزي من شأنه الحد من توقعات التضخم”، من دون الإشارة لأية اعتبارات أخرى غير ارتفاع الأسعار.

ونلفت في هذا السياق إلى ما نشره كل البنك المركزي المصري من أن معدل تضخم أسعار المستهلكين في مصر قد ارتفع إلى 12.3% في مايو 2016، بينما زاد معدل التضخم الأساسي (وهو مؤشر يستثني أسعار السلع سريعة التغير كالفاكهة والخضراوات) إلى 12.23% في الشهر نفسه مقارنة بمعدل تضخم بلغ 9.51% في أبريل من العام نفسه2.

ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى أن محافظ البنك المركزي المصري الحال، طارق عامر، قد بدأ ممارسة مهامه قبل موعد تسلمه مهام منصبه، حين تم طرح شهادات ادخار بالجنيه بعائد 12.5% فى نوفمبر 2015، وهو ما يزيد بنسبة 205% عن عائد الشهادات وقتها، بهدف دفع حملة الدولار للتخلص منه، والتحول للاستفادة من الفائدة المرتفعة على الجنيه3.

وقد سبق للجنة السياسات النقدية أن رفعت سعر الفائدة في مارس 2016 بنسبة 2.5%4، معللة هذا القرار أيضا بمحاولة السيطرة على التضخم، وذلك إثر اتجاه البنك المركزي لخفض قيمة الجنيه في مقابل العملة الأمريكية ضمن عطاء استثنائي لتغطية واردات سلع استراتيجية أساسية، باع فيه المركزي 198.1 مليون دولار بسعر 8.85 جنيه للبنوك من 7.73 جنيه في العطاء الدوري الذي سبقه بيوم واحد5. وسبق عطاء مارس الاستثنائي قرار رفع الفائدة بثلاثة أيام6. ما يوحي بوجود خطة من نوع ما، وهي الخطة التي أثارت نتائجها انتقاد الخبراء باتفاق، وإن كان البعض قد خفف انتقاده بالإشارة لخطورة التضخم.

بقي أن نلفت إلى أن قرار رفع الفائدة على الودائع بالعملة المحلية إجراء قياسي، ضمن إجراءات متعددة، يتيح للبنك المركزي مواجهة التضخم، وذلك عبر سحب السيولة من السوق، فيقل الطلب من المستهلكين على شراء السلع والخدمات، فيقل سعرها، حيث إن سعر السلع والخدمات تحكمه بصورة أساسية العلاقة بين العرض والطلب، حيث يزيد السعر إذا زاد الطلب عن العرض، ويقل – أو من المفترض أن يقل – في حال انخفاض الطلب عن العرض7.

أولاً: خطورة القرار:

فور إعلان القرار، بدأت الانتقادات تترى، تطرف بعضها في اتجاه توصيف ما فعله البنك المركزي المصري بأنه كارثة اقتصادية8. وأكد أكثر من خبير ومصرفي وباحث أن تداعيات رفع سعار الفائدة بهذه النسبة الكبيرة سيؤدي إلي زيادة مشاكل الاقتصاد، حيث إن القرار يعبر عن اتجاه المركزي المصري لتبني سياسة انكماشية واضحة، وهو ما يتضارب مع ما تصرح به الحكومة عبر وزرائها ورئيس وزرائها، من تبني سياسة توسعية تقوم على زيادة الإنفاق الاستثماري، وجذب استثمارات أجنبية، ما يرفع معدل النمو الاقتصادي9.

وأوجز الخبراء والمفكرون الاقتصاديون ملامح هذه الكارثة فيما يلي:

1. تراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية:

حيث أن رفع سعر الفائدة تضمن بالطبع الفائدة على القروض، وهو ما يتسبب في ارتفاع تكلفة الاستثمار. حيث لا يفضل رجال الأعمال دخول مجال الاستثمار بالاعتماد على ثرواتهم الخاصة، بل يتجهون للاقتراض. وفي حال تراجع الاستثمارات، وبخاصة المحلية، فإن الركود يعم سوق رأس المال، لأن توقف الاستثمار يعني توقف الاعتماد على المواد الخام، وتوقف الاعتماد على السلع الوسيطة.

2. ارتفاع تكلفة الإنتاج:

لو قرر المستثمرون المغامرة، وقبلوا ارتفاع تكلفة الاستثمار، فإن هذا يعني أن تكلفة الإنتاج ستزداد على عنصر واحد من عناصر العملية الإنتاجية، ما يزيد من مخاطر العملية الاستثمارية. ولو توقف الإنتاج بسبب التكلفة، فإن الاستهلاك سيعتمد على الواردات؛ ذات الجمارك المرتفعة بعد القرار الجمهوري رقم 25 لسنة 201610.

3. زيادة الأسعار على المستهلك النهائي:

فرغم أن هدف البنك المركزي هو الحد من التضخم، إلا أن أي توجه توسعي محدود في السوق سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع المنتجة. ولو تباطأ الإنتاج، فإن الاعتماد على الاستيراد سيسبب أزمة مزدوجة، إذ أنه سيؤدي لارتفاع الأسعار بسبب زيادات الجمارك، كما سيؤدي كذلك لمفاقمة أزمة الدولار.

4. سحب السيولة من البورصة:

فرفع أسعار الفائدة يمنح أصحاب رؤوس الأموال خيارا ما بين إيداعها في البنوك مقابل سعر الفائدة العالي المضمون، وبين توجيهها لسوق المال، وهو ما يرتبط بدرجة مخاطرة مرتفعة نسبيا، ما يؤدي لانكماش البورصة بدلا من إنعاشها. وتعاني السوق المصرية جراء انخفاض السيولة، منذ قرار البنك المركزي المصري بخفض قيمة الجنيه ثم رفع سعر الفائدة على الودائع بالجنيه المصري11.

5. ارتفاع تكلفة الدين العام:

مع احتباس الأموال في البنوك، بسبب امتناع المستثمرين عن الاقتراض، فإن المنفذ الوحيد للبنوك سيتمثل في إقراض الدولة عبر الأدوات المالية المختلفة لها، وهو ما يعني زيادة حجم الدين العام، وكان البنك المركزي المصري قد صرح بما يفيد تجاوز الدين العام الداخلي فقط 2.5 تريليون جنيه مصري12. وبإضافة الدين الخارجي (53.4 مليار دولار)، فإن إجمالي الدين العام المصري يبلغ 2.968 تريليون جنيه، بما يمثل الآن نحو 103.66% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ وفق آخر بيانات البنك الدولي 301 مليار دولار (أي 3 ترليون جنيه وفق حساب الدولار بسعر متوسط بين السعر الرسمي وسعر الدولار 10 جنيهات)، وهو ما يعني تخطي الدين للحدود الآمنة13.

6. زيادة عجز الموازنة:

فزيادة عبء الدين وخدمته سيعنيان بالنسبة للموازنة زيادة العجز، وذلك برغم إعلان الحكومة نواياها خفض عجز الموازنة، حيث يزداد العجز بسبب ارتفاع عبء خدمة هذا الدين، هذا فضلا عن سداد الدين نفسه، وقد تجاوز هذان المتغيران نحو ثلث الموازنة الجديدة 2016/2017. ويتبقى أن أي اتجاه لتجسير فجوة الدين العام عبر بوابة طبع النقود لن يعني سوى مزيد من التضخم، وهو عكس الهدف الذي يتبناه المركزي. وتوقع الخبراء ارتفاع عجز الموازنة بسبب هذا القرار بنسب تتراوح بين 0.3% و0.5% من الناتج المحلي الإجمالي14 على الأقل.

وإلى جانب هذا التفصيل العام، يمكننا اكتشاف حجم التناقض بين سياسات الحكومة من جهة، وسياسات البنك المركزي المصري من جهة أخرى، والتي من أول ملامحها عدم الاتساق بين قرارات السياسة النقدية والسياسة المالية. وما يزيد الأمر سوءاً أن الحكومة لا تمتلك خطة عملية منشورة للتعامل مع ارتفاع العجز فى الموازنة المتوقع بعد رفع الفائدة على “الكوريدور” ما من شأنه أن يدفع الحكومة للإقتراض من البنوك لتمويل عجز الموازنة لتدفع مستويات الدين المحلي إلى مستويات خطيرة، وهو ما يستدعي أن نشير إلى أن مستويات الدين العام الراهنة تتخطى بالفعل المستويات الآمنة15.

ثانياً: روافد التضخم بمصر:

التضخم أو غلاء الأسعار كما هو شائع، والذي أشار البنك المركزي المصري لمسعاه لمعالجته تعددت روافده من قبل، متمثلة في ارتفاع سعر العملة الأمريكية، والتي وصلت في السوق السوداء اليوم لنحو 10.8 جنيها للدولار، وهي قضية حرجة لدولة تستورد أغلب ما تأكله، هذا فضلا عن اعتماد الصناعة على سلع وسيطة يغلب استيرادها على توفرها محلياً ما يزيد في أسعار المنتجات المصرية.

ومن جهة أخرى، فإن الحكومة المصرية أقدمت بنسب متفاوتة على رفع الدعم عن الطاقة (الكهرباء والمحروقات، ما أدى لزيادة متسلسلة في الأسعار. وأدى ارتفاع سعر الدولار إلى اتجاه الحكومة لترشيده، وهو اتجاه حكيم لم يقترن باستعداد، وانتهى لمنع سلع بعضها أساسي وليس لبعضها بديل محلي، ما أدى للتضخم أيضاً16.

أما عن الروافد المستجدة والمتجددة، فيمكن توضيحها فيما يلي:

1. ضريبة القيمة المضافة:

وهي ضريبة مركبة تُفرض على الفرق بين سعر التكلفة وسعر البيع للسلع المحلية والمستوردة، وسيساهم التحول لنظام القيمة المضافة في التوسع في إخضاع كل السلع والخدمات لهذه الضريبة، ما عدا السلع والخدمات التي ينص القانون على إعفائها، سواء مرحليا أو كليا. وتتوقع مصلحة الضرائب المصرية أن تؤدي تعديلات القانون إلى زيادة الحصيلة الضريبية بنحو 30 مليار جنيه محسوبة على أساس أن يكون سعر الضريبة 14%. وهذه الـ 14% تمثل أحد 4 سيناريوهات مختلفة لسعر الضريبة، يتراوح بينها سعر الضريبة ما بين 11% إلى 14% في تلك السيناريوهات، وأنه على الأرجح سيتم اختيار نسبة 14% أو 13% على أقل تقدير، وذلك مقابل 10% ضريبة المبيعات المطبقة حالياً.

وبحسب رئيس وحدة البحوث والسياسات الضريبية بمصلحة الضرائب ووكيل أول وزارة المالية، فإن الوزارة تتوقع أثرا تضخميا “مباشرا” لتطبيق الضريبة يتراوح بين 1.2% و2% عند التطبيق، وكان وزير المالية السابق، هاني قدري دميان، يتوقع أن تتراوح الآثار التضخمية للضريبة (مباشرة وغير مباشرة) ما بين ٢% إلى ٣.٥٪17.

وفي سياق حرصها على عدم تضرر كتلة جماهيرية حرجة جراء تطبيق الضريبة، فقد أعدت وزارة المالية قائمة من 52 مجموعة من السلع والخدمات التي لن تخضع للضريبة، منها 32 مجموعة سلعية و20 مجموعة خدمية18.

2. عدم وضع خطة متكاملة لمعالجة أزمة الدولار:

المصدر الثاني للتخوفات من احتمال التضخم تتعلق بعدم توفر علاج هيكلي في الأجل القصير والمتوسط لأزمة الدولار. بالرغم من القرارات التي أصدرها البنك المركزي مؤخرا، والخاصة بتشديد العقوبة على محلات الصرافة بالسوق السوداء، إلا أنه لا يوجد لها أي تأثير حتى الآن، حيث يواصل سعر الدولار فى السوق “الموازية” ارتفاعه، وكسر في 20 يونيو 2016 حاجز الـ 11 جنيها مسجلا 11.05 جنيه. بينما لا يزال سعر الدولار رسميا ثابتا عند 8.85 جنيها19.

ومن المتوقع استمرار الأثر التضخمي لسعر الدولار، حيث إن هذا السر ليس متوقعا انخفاضه في الأجل القصير، وإن كانت الحكومة تعمل على ترشيد الاستيراد لمنع العملة الأمريكية من إنتاج ضغط نوعي على الجنيه.

وبرغم سلامة قرار الترشيد، إلا أن أثره يكاد يكون منعدما.

فمن ناحية، انصرف المنع لمجموعة من السلع ليس لها بديل محلي، ومن شأن استمرار الطلب على هذه السلع أن يزيد الإقبال على العملة الخضراء خارج المسار الرسمي، ويزيد الضغوط التضخمية بعيدا عن أعين “الأرقام الرسمية”.

ومن ناحية أخرى، فإن الاتجاه لإنتاج سلع بديلة لتلك التي رفعت رسومها الجمركية يصطدم بارتفاع سعر الفائدة على القروض، ما يعني ارتفاع تكلفة الإنتاج، فتزيد في النهاية ارتفاع أسعار المستهلكين. كما أن المستوردين المصريين يحاولون من خلال مكاتبهم في الخارج شراء الدولار من المنبع، فيجمعون تحويلات المصريين من الخارج بسعر السوق السوداء، ويوفرونها لذويهم في مصر بهذا السعر20.

وتأتي هذه الخطوة بسبب صيت مصر فيما يتعلق بتحويل الدولار، حيث تزداد قائمة الانتظار لفترة طويلة، وهو ما لا يلائم مصالح موردي السلع المستوردة، فباتوا يطلبون من المستوردين المصريين التعامل نقدا. ولا يبدو أن هناك خطة واضحة المعالم لمواجهة الأزمة الهيكلية للدولار21. هذا فضلا عن وجود اتجاه لتراجع مصادر مصر من الدولار22، وبخاصة مع اتجاه دول الخليج للاستغناء عن العمالة، وعلى رأسها العمالة المصرية.

3. تجدد مصادر تفاقم عجز الموازنة:

برغم طموح الحكومة المصرية لخفض العجز في الموازنة23، إلا أنه لم تكد الموازنة تطرح أمام مجلس النواب المصري حتى بدأت تحديات زيادة هذا العجز. وبلغ العجز في الموازنة الجديدة نحو 319.5 مليار جنيه، بنسبة 9.8%، مقارنة بموازنة 2105/2106، والتى بلغ العجز فيها نحو 11.5%24. ويجدر هنا ان نشير إلى أن موازنة العام الماضي 2015/2016 قد أقرت بعجز بلغ نحو 9.9%، وتطور لاحقا ليبلغ 11.5%25.

وأفاد عدد من الخبراء أنه من المتوقع أن تساهم الخطوة التي اتخذها البنك المركزي برفع أسعار الفائدة 100 نقطة أساس للسيطرة على معدلات التضخم المتصاعدة، في زيادة نفقات الدولة على فوائد ديونها، والتي تقدرها الحكومة بنحو 31% من مصروفات الموازنة العامة للدولة في موازنة 2016/2017. وكانت الحكومة تعتبر أن نفقات فوائد الديون المتوقعة في مشروع موازنة 2016/2017 قبل قرار الفائدة الأخير، مرتفعة بما “يؤثر على قدرة توجيه موارد الدولة إلى المجالات التنموية والاجتماعية المستهدفة”، بحسب البيان المالي لمشروع الموازنة26.

والتخوفات حيال عجز الموازنة من بوابة استفحال الدين العام تعني فيما تعني إمكان اتجاه البنك المركزي المصر لطباعة النقد المحلي، أو ما يسمى «التمويل التضخمي» لعجز الموازنة، ما يؤدي لزيادة حجم المعروض النقدي من الجنيه دون زيادة حقيقية تقابلها في الإنتاج، وبالتالي تقل قيمته وتنخفض قوته الشرائية27، وهو ما سيؤدي لموجة زيادة تضخمية، وبخاصة مع تخطيط الموازنة بناء على الزيادة الناجمة عن تعديل قانون القيمة المضافة وفق سعر ضريبة بلغ 14%.

ثالثاً: الدولرة الهدف الآخر لقرار المركزي:

وظائف النقود الأساسية ثلاث، وهي: أنها وسيط للتبادل (البيع والشراء)، كما أنها مقياس للقيم (تقييم ثمن سلعة ما)، فضلا عن كونها مخزنا للثروة أو القيم (الادخار/ الاكتناز). والشرط الضروري لقيام النقود بهذه الوظائف بكفاءة هو أن تحتفظ بقيمتها. فإذا كانت النقود تفقد هذه القيمة – مع التضخم – فإنها لا تستطيع أن تقوم بأية وظيفة من وظائف النقود بكفاءة. فلو كان سعر عملة ما يتناقص باستمرار، فمعنى ذلك أن البائع الذي يتنازل عن سلعته لن يحصل بهذه النقود على ثمن يمكنه من تعويض ما باعه في المستقبل بالنظر إلى انخفاض قيمة هذه النقود. وأيضا، إذا كانت الأسعار ترتفع باستمرار، فإن النقود لا تصبح قادرة على قياس القيم. وأخيراً فإن النقود تفشل تماماً في القيام بدور مخزن القيم إذا كانت هذه القيمة تتدهور عبر الزمن. حيث لن يقبل أحد أن يدخر ثروته في أصل تتآكل قيمته بشكل مستمر28.

وهذا سبب تناولنا لقضية التضخم كتمهيد للحديث عن “الدولرة”، ومدى قدرة البنك المركزي المصري على تقديم علاج لها.

و”الدولرة” هي اتجاه مواطني بلد ما، نامية في الغالب، للعملة الأجنبية جنبا إلى جنب، أو بديلا عن العملة المحلية كمخزن للقيمة، أو كوسيلة للدفع داخل الاقتصاد المحلي. وبرغم أن المصطلح مشتق من اسم العملة الأمريكية، إلا أن عملية الدولرة لا تقتصر على اللجوء للدولار الأمريكي، حيث تُطلق على أية عملية لاستخدام أية عملة أجنبية، كاليورو أو اليوان، وإلى حد أقل الجنيه الإسترليني. كما أن استبدال العملة قد يكون جزئيا على نحو ما شهدته عدة دول عبر العالم في أزمة عملتها مع العملة الأمريكية، ومن بينها مصر خلال الفترة من أبريل 2015 وحتى فبراير 2016. وقد يحدث بشكل كامل على نحو ما شهدته دول أمريكا اللاتينية التي أفرطت في الاعتماد على دولار الولايات المتحدة29.

وبالرغم من محاولات البنك المركزي المصري القضاء على هذه الظاهرة، وبخاصة عبر رفع سعر الفائدة على الجنيه المصري، إلا أن السوق المصري كان متخوفا من الإقبال على الودائع الجديدة30.

وتتعدد أسباب تمسك حائزي الدولار بهذه العملة، ومنها معرفتهم بالعجز الموجود لدى الجهاز المصرفي بالعملات الأجنبية، وهو ما أدى لطول فترة انتظار من يرغب في الحصول على الدولار بالسعر الرسمي. هذا فضلا عن شيوع الإدراك بأن إجراءات البنك المركزي بالخفض أو الرفع لسعر الصرف لجذب الدولار هى مجرد مسكنات لن تحل المشكلة الأصلية، وهي نقص الموارد عن الطلب على الدولار، وأن هناك صعوبات لزيادة حصيلة الصادرات أو السياحة أو قناة السويس، أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة بالأجل القصير.

وقد قدر بعض الخبراء حجم العجز خلال الفترة من نوفمبر 2015 وحتى يناير 2016 بنحو 3.5 مليار دولار31، رغم الحصول على قروض خارجية. كما أن أكثر من 50% من الاحتياطي بالمركزي غير مملوك له، بل في صورة ودائع لدول أجنبية يستحق سدادها في مواعيد محددة مع فوائدها32، وأن كثرة عروضه مرتفعة العائد دليل على عمق المشكلة.

بل إن شركة بلتون القابضة للاستثمارات المالية كشفت في ورقة بحثية لها أن البنوك المصرية أودعت نحو 3.6 مليار دولار من ودائع عملائها بالبنك المركزي، لإخفاء انكماش حاد في أرصدة الاحتياطي الأجنبي خلال الربع الثاني من العام المالي 2015/201633. وأعلن خبير أجنبي أن البنوك التجارية اضطرت لبيع بعض أصولها الخارجية لتودع تلك الودائع في البنك المركزي، ونتيجة لذلك تدهور صافي الأصول الأجنبية الخارجية لدى البنوك التجارية34.

وينبغي أن نلاحظ هنا أننا نتحدث عن الأسواق، حيث لا يلتفت الأفراد المتعاملون فيها لما قد يلحق بالاقتصاد القومي من مضرة أو فائدة، وإنما فقط يريد أن تقوم هذه النقود التي يستخدمها بوظائف النقود المحلية على أكمل وجه، فهو لا يحصل عليها مجاناً بل يتحمل تكلفة في سبيل الحصول عليها، ويريد أن يتأكد من أن أنها تؤدي وظيفتها بصورة كاملة35. وهكذا يتضح أن الدولرة هي موقف السوق أو ردة فعله إزاء السلطة النقدية وسياستها وممارستها.

والدولرة بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقا تعني أن إجراءات البنك المركزي لن تستطيع السيطرة عليها إلا بالعمل على جعل قيمة العملة مستقرة، حتى تكون قادرة على أداء وظيفتها كمخزن للقيمة ومقياس للقيم بصورة أساسية. وهذا سبب أصيل لتمسك المركزي بتثبيت سعر الدولار مقابل الجنيه في العطاءات الرسمية. وبالنظر لضغوط الدولة في هذا الإطار، فإنه ما من تقرير صادر عن أسعار العملات في مصر إلا ويُذَّيل بالإشارة إلى أن السعر الرسمي ما زال ثابتاً عند معدل 8.85 جنيها للدولار الواحد.

رابعاً: التداعيات المستقبلية:

هناك علاقة بين أزمة الدولار والتضخم، فانخفاض قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي من أهم العوامل التي تؤدي للتضخم. حيث يزداد عجز الميزان التجاري، بسبب ارتفاع قيمة الواردات التي يتم تسوية عملياتها بالدولار عن قيمة الصادرات، ما يؤدي لزيادة الطلب على الدولار في مقابل عرض الجنيه المصري فيرتفع سعر الدولار وينخفض سعر الجنيه.

ونتيجة لذلك ترتفع أسعار الواردات ما لم يتدخل البنك المركزي لإحداث توازن بين المطلوب من الدولار والمعروض منه، وذلك عبر طرح الدولار في الأسواق اعتمادا على ما يمتلكه منه في الاحتياطي الأجنبي المتراكم من إيرادات قناة السويس والسياحة وتحويلات المصريين العاملين في الخارج. ومع تراجع إيرادات هذه المصادر يعجز البنك المركزي عن التدخل لإحداث مثل هذا التوازن. ويحدث التضخم، وتقل قيمة العملة، ما يهدد وظيفتها كمقياس للقيم أو كمخزن لها.

ومن جهة ثانية، فإن استمرار الأزمة لوقت طويل يؤدي إلى إنهاك العملة المحلية، وإنهاك المجتمع الاقتصادي من ورائها، جراء السعي لتوفيرها. ومع هذا الإنهاك، تزداد المطالب بخفض قيمة العملة. وفي حال أقدم البنك المركزي على تخفيض قيمة الجنيه، فإن ذلك يصب مباشرة في قيمة هذه العملة، وبالتالي يؤثر على وظيفتها كمخزن للقيم ومقياس لها.

ومن ناحية ثالثة، فلو أضفنا لذلك أن إجراء رفع الفائدة يرفع التضخم من باب رفع تكلفة الإنتاج، حيث يؤدي رفع سعر الفائدة على القروض إلى ارتفاع أسعار السلع المنتجة، وذلك بسبب ارتفاع تكلفة الاستثمار والإنتاج. ولو تباطأ الإنتاج، فإن البديل يتمثل في الاعتماد على الاستيراد، وهو ما يسبب أزمة مزدوجة، إذ أنه سيؤدي لارتفاع الأسعار بسبب زيادات الجمارك، كما سيؤدي كذلك لمفاقمة أزمة الدولار، وهي الحلقة المفرغة التي تمثل مثار انتقاد للسياسة النقدية المصرية36.

ومن ناحية رابعة، فإن أخطر تداعيات قرار رفع سعر الفائدة، أن قطاع واسع من أصحاب الودائع الدولارية، كما سبق وأشرنا، لن يُقدِموا على تبديل ودائعهم، والبقية الباقية سيجدون أنفسهم بين نارين، فالفارق بين السعر الحقيقي والسعر الرسمي للدولار يبلغ نحو 23% من قيمة السعر الرسمي، وهو ما يعني أنه بمجرد تحويل الودائع الدولارية لودائع بالجنيه سيخسرون 23% من قيمة هذه الودائع، ويكون البديل المناسب هو سحب الوديعة الدولارية وتبديلها من السوق الموازي، ثم إيداعها مجددا بالجنيه، وهو ما لن يتمكنوا من فعله، حيث إن قوائم انتظار التحويل من الجنيه للدولار بالسعر الرسمي قائمة طويلة، وتحكمها أولويات التركيز على احتياجات مصر من السلع الاستراتيجية. ويتبقى فريق ثالث يحوز الدولار من دون إيداعه بالبنوك، وهو ما يعني أن إغواءهم بإيداع دولاراتهم في البنوك المصرية بالعملة المحلية سيدفعهم للجوء للسوق الموازي لتحويل دولاراتهم إلى جنيهات، لئلا يخسروا 23% من قيمة دولاراتهم. وهو ما سيزيد الطين بلة، حيث يشكل مزيداً من الضغط على العملة المحلية، ويهدد بمزيد من احتمالات انخفاض قيمتها في المستقبل. وهذه الاعتبارات جميعها تؤدي إلى تراجع قيمة الجنيه كمعيار أو مقياس للقيمة أو كمخزن لها، وهو ما يعني أن الدولرة ما زالت أحد خيارات المصريين لتخزين القيمة (37).

————————————

الهامش

(1) انظر بيان لجنة السياسات النقدية على موقع البنك المركزي المصري بتاريخ 16 يونيو 2016.

(2) انظر بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بخصوص مستوى أسعار المستهلكين لشهر مايو 2016، بموقع الجهاز.

(3) ممدوح الولي، هل يتخلى المصريون عن الدولار؟!، الجزيرة مباشر نت، 26 مارس 2016.

(4) بيان لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المنشور بتاريخ 16 مارس 2016.

(5) رويترز، المركزي المصري يخفض سعر الجنيه 112 قرشا مقابل الدولار، 14 مارس 2016.

(6) انظر قرار البنك المركزي

(7) ويكيبيديا، مادة: سعر السوق.

(8) محمد رضا، ما فعله البنك المركزي بالاقتصاد المصري كارثة، بوابة مصر العربية، 17 يونيو 2016.

(9) محمد مقلد، خبراء: رفع البنك المركزي لأسعار الفائدة كارثة تهدد الاقتصاد المصري، شبكة أخبارك نت، 17 يونيو 2016.

(10) باسل باشا، قرار جمهوري في 28 صفحة لزيادة جمارك أكثر من 500 صنف سلع مستوردة، موقع البداية، 31 يناير 2016.

(11) محمد علي، خبراء يحذرون: خفض الجنيه يهدد السيولة، أخبارك نت، 16 مارس 2016.

(12) انظر بيان البنك المركزي حول الدين العام الإجمالي المحلي، بتاريخ 8 يونيو 2016.

(13) محمد صفاء الدين، ديون مصر تسيطر على الاقتصاد.. 103% نسبة الدين العام للناتج المحلي، موقع البديل، 16 يونيو 2016.

(14) محمد رضا، إشارة سابقة.

(15) محمد صفاء الدين، ديون مصر تسيطر على الاقتصاد.. 103% نسبة الدين العام للناتج المحلي، موقع البديل، 16 يونيو 2016.

(16) انظر بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بخصوص مستوى أسعار المستهلكين لشهر مايو 2016، بموقع الجهاز.

(17) ميريت مجدي، الحكومة تقترب من تطبيق “القيمة المضافة” بنسبة 14%. وتتوقع ارتفاع الأسعار 2%، أصوات مصرية، 16 يونيو 2016.

(18) وكالات، المالية: إعفاء 52 مجموعة سلعية من الضريبة على القيمة المضافة، صحيفة الوفد، 20 مايو 2016.

(19) هبة حسام، سعر الدولار الاثنين 20/6/2016 فى السوق السوداء، بوابة اليوم السابع، 20 يونيو 2016.

(20) محمد مصطفى، جديد أزمة الدولار.. المضاربون يشترون العملة الخضراء من المنبع، أخبارك نت، 3 مارس 2016.

(21) أحمد بشارة، «فيتش»: خفض الجنيه إيجابي.. وخبير: توليد الموارد التحدي الأكبر، بوابة مصر العربية، 21 مارس 2016.

(22) مصطفى بسيوني، العملة الصعبة تزداد صعوبة، السفير اللبنانية، 16 مارس 2016.

(23) سليم علي، وزير المالية: نستهدف خفض عجز الموازنة للسنة المالية الجديدة لـ 9.9%، اليوم السابع، 19 أبريل 2016.

(24) عبد القادر إسماعيل، عجز الموازنة يرتفع إلى 320 مليار جنيه والمالية تحذر من خطورة 2017، بوابة الوفد، 22 مايو 2016.

(25) وكالات، مصر.. الموافقة على الموازنة بعجز 9.9%، سكاي نيوز، 18 مايو 2015.

(26) محمد جاد، زيادة أسعار الفائدة تسير في الاتجاه المعاكس لمكافحة عجز الموازنة، موقع أصوات مصرية، 19 يونيو 2016.

(27) أشرف إبراهيم، التضخم في مصر.. شبح اقتصادي مُخيف يلتهم «الأموال» في نهم، ساسة بوست، 7 يونيو 2016.

(28) حازم الببلاوي، عن الدولرة، صحيفة الأهرام المصرية، 14 مارس 2004.

(29) أحمد بشارة، ما هي الدولرة؟، بوابة مصر العربية، 16 مارس 2016.

(30) محمد علي، تعرف على 3 فئات لن تبيع ما بحوزتها من الدولار، بوابة مصر العربية، 16 مارس 2016.

(31) ممدوح الولي، الإشارة السابقة.

(32) أحمد واضح، 23 مليار دولار دعم الخليج لمصر.. و50 % من الاحتياطي الأجنبي «ودائع»، صحيفة المصريون، 23 أبريل 2016.

(33) عبد القادر رمضان، ديون الجهاز المصرفي بالدولار تفوق أصوله الأجنبية للشهر الثاني على التوالي، أصوات مصرية، 19 فبراير 2016.

(34) محمد جاد، أزمة الدولار.. لا نمو ولا إفلاس، أصوات مصرية، 2 مارس 2016.

(35) حازم الببلاوي، الإشارة السابقة.

(36) محمد رضا، إلى قيادات البنك المركزي، ماذا تفعلون، بوابة مصر العربية، 15 يونيو 2016.

(37) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close