fbpx
تقارير

عالم مضطرب: خرائط الاحتجاجات والمآلات (2)

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مقدمة:

تناولنا في الجزء الأول من هذه السلسلة ظاهرة تنامي الاحتجاجات الشعبية والأزمات السياسية التي ضربت الكثير من الدول عبر العالم نتيجة الأزمات الاقتصادية التي أصبحت تعاني منها تلك الدول نتيجة موجات التضخم المتصاعدة ، والتي ترتبت على تسارع ارتفاع أسعار الطاقة والسلع الغذائية في أعقاب جائحة كورونا ثم اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.

وذكرنا أن هذه الاحتجاجات قد “اندلعت بشكل متزامن، وفي نطاقات جغرافية متباعدة، بما قد يشكل ظاهرة عالمية متنامية، لكن أبعادها ومآلاتها لاتزال غير واضحة”. وأننا في هذه السلسلة من المقالات نرصد “أهم تطورات هذه الاحتجاجات ومآلاتها بمرور الوقت، لما يمكن أن تؤشر عليه من انتشار هذه الظاهرة في بلدان أخرى قد تمر بظروف مشابهة في الكثير من بلدان العالم، خاصة بعدما حدث في سريلانكا في ظل إعلان إفلاسها واحتدام أزماتها الاقتصادية والسياسية”.

وتستعرض هذه المقالات ببعض التفصيل أهم تطورات هذه الاحتجاجات وجذور الأزمات وتداعياتها في عدد من البلدان. وقلنا إن الأمور تتجه بوتيرة متسارعة من سيئ إلى أسوأ في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ينذر مثل هذا الوضع الخطر بمزيد من الارتفاع في مستويات التضخم في الاقتصاد العالمي، في ظل تصاعد أسعار المواد الغذائية والوقود، أو التهديدات الماثلة في شحها حتى بانخفاض أسعارها نتيجة اقتراب الركود العالمي أيضا، خاصة أن روسيا وأوكرانيا تعدان مصدّرين رئيسيين للعديد من السلع الأساسية، بما في ذلك الغاز والنفط والفحم والأسمدة والقمح والذرة والزيوت النباتية، وأن العديد من الاقتصادات في أوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط وأفريقيا تعتمد اعتماداً شبه كامل على روسيا وأوكرانيا للحصول على وارداتها من القمح بالذات. وستعرِّض هذه التداعيات الدول الأقل دخلاً لخطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي، في ظل اضطراب سلاسل الإمداد وارتفاع الأسعار، والذي يؤدي أيضاً إلى تفاقم الضغوط الناجمة عن التضخم واتساع نطاقها.

وفي هذا المقال نواصل رصد الظاهرة وتنامي نطاق تداعياتها:

احتجاجات وإضرابات

في 24 يوليو، نشرت بلومبيرج الأمريكية تقريراً بعنوان “العاملون الرئيسيون في العالم يهددون بضرب الاقتصاد من حيث يوجع”، من إعداد أوجستا سرايفا وبريس باشوك،  قالت فيه “إن جائحة كوفيد-19 قد فرضت ضغوطاً غير مسبوقة على سلاسل التوريد العالمية، وكذلك على العمال الذين حافظوا على تشغيل هذه الأنظمة في ظل ظروف صعبة. ولكن يبدو أن الكثير منهم قد طفح به الكيل.” ويشير التقرير إلى أن تصاعد الإضرابات والاحتجاجات العمالية الأخرى بات يهدد الصناعات في جميع أنحاء العالم، وخاصة تلك التي ترتبط بنقل البضائع والأشخاص والطاقة، “فمن عمال السكك الحديدية والموانئ في الولايات المتحدة إلى العاملين في حقول الغاز الطبيعي في أستراليا وكذلك سائقي الشاحنات في بيرو، يطالب العاملون بضرورة التوصل لاتفاق أفضل لتلافي الأثر الذي يتركه التضخم على قيمة أجورهم.”

عالم مضطرب: خرائط الاحتجاجات والمآلات (2)-1

ويشير التقرير إلى أن هؤلاء العاملين على وجه التحديد يتمتعون بنفوذ كبير على طاولة المفاوضات لأن عملهم شديد الأهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، في ظل حقيقة أن سلاسل التوريد لا تزال هشة وأسواق العمل لا تزال محصورة؛ وفي هذه الحالة، فإن أي اضطرابات ستنجم عن أي خلافات عمالية يمكن أن تزيد من معدلات النقص وارتفاع الأسعار، مما يهدد بالتسبب في حدوث ركود، وهذا ما يشجع العاملين في مجال النقل والخدمات اللوجستية، والتي تشمل كل شيء من المستودعات إلى النقل بالشاحنات، للوقوف في وجه رؤسائهم، كما ترى كاتي فوكس هوديس، المُحاضر في علاقات العمل بكلية الإدارة، في جامعة شيفيلد في المملكة المتحدة. والتي تشير أيضاً إلى ظروف العمل الصعبة بالفعل في الصناعة بعد سنوات من رفع الضوابط التنظيمية.

العمال يتحملون العبء الأكبر

وتقول كاتي فوكس هوديس: “لم تتم إعداد سلاسل التوريد العالمية للتعامل مع أزمة مثل جائحة كورونا، وقد حمَّل أرباب العمل تلك الأزمة بالفعل  على كاهل العمال”. ومن جانبهم، كان ينتاب محافظي البنوك المركزية القلق بشأن حصول العمال على رواتب أكثر من اللازم، مما يؤدى إلى حدوث ارتفاع كبير في معدلات الأجور مثلما حدث في السبعينيات وأدى إلى ارتفاع أكبر في نسبة التضخم . ولكن في الواقع، ليس هناك كثير من الدلائل التي تؤيد ذلك، حيث تتخلف زيادات الأجور في العموم عن معدل ارتفاع الأسعار، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن قوة العمل المنظَّم بشكل عام أقل مما كان عليه الحال في ذلك الوقت.

لقد فَقَد العمال في معظم الدول دخلهم بسبب الجائحة

 التغير الحقيقي في دخل العمالة في عامي 2020 و 2021

 التغير الحقيقي في دخل العمالة في عامي 2020 و 2021

المصدر: منظمة العمل الدولية (ملاحظة: هذا باستثناء الصين)

ولكن هذا قد يُخفي وراءه مشكلة مختلفة. فالكثير من التضخم اليوم ينبع من نقاط اختناق محددة، ويمكن أن يكون للاضطرابات العمالية في تلك الصناعات الرئيسية تأثيرات مضاعفة بشكل أوسع على مستوى الأسعار. وقد أدى تهديد بالإضراب من قِبل عمال الطاقة النرويجيين في وقت سابق من هذا الشهر، على سبيل المثال، إلى حدوث هزات جديدة في أسواق الغاز الطبيعي الأوروبية.

وهناك أيضاً أخطار على إعادة توازن الاقتصادات. ففي ظل الجائحة، دأب الناس على شراء المزيد من السلع على حساب الخدمات مثل تذاكر الطائرات أو غرف الفنادق، مما أدى إلى الضغط على سلاسل التوريد وإذكاء التضخم بشكل كبير. ومن المتوقع أن تعود عادات الإنفاق إلى طبيعتها، مع رغبة المستهلكين في القيام برحلات مرة أخرى. لكن الإضرابات التي قام بها مثلا موظفو المقصورة في شركة ريان إير القابضة العامة المحدودة، أو عمال المطار في باريس ولندن، تزيد من اضطرابات السفر التي قد تؤدي إلى إبعاد السائحين المحتملين.

وقد أورد تقرير بلومبيرج موجزاً عن بعض النقاط الساخنة للاضطرابات العمالية التي تهز الاقتصاد العالمي، وذلك على النحو التالي:

القطارات والشاحنات

في الولايات المتحدة – حيث تظهر الحركة العمالية المتراجعة منذ فترة طويلة بوادر نهوض من جديد، حيث تهيئ النقابات لنفسها موطئ قدم في شركات مثل شركة ستاربكس وشركة أمازون دوت كوم – فإن بعض أكبر الخلافات مع تلك الشركات هي في صناعة النقل. ويلوح في الأفق فيما يخص سلاسل التوريد المنهارة بالفعل في البلاد، تهديد بالإضراب بالسكك الحديدية، والذي يمكن أن يشل حركة البضائع.

فبعد عامين من المفاوضات التي لم تتكلل بالنجاح مع أكبر خطوط السكك الحديدية في البلاد، كوَّن الرئيس جو بايدن هذا الشهر لجنة لحل خلاف عميق بين 115 ألف عامل وأرباب أعمالهم. ويبقى أمام مجلس الطوارئ الرئاسي فرصة حتى منتصف أغسطس للتوصل إلى خطة عقد مقبولة لكلا الجانبين.

وقال إيلي فريدمان الأستاذ المساعد بجامعة كورنيل: إن “هناك سوق عمل محصورة للغاية، مما يضع العمال في وضع تتراكم فيه الكثير من المظالم ويشعرون بالقوة”. وقد رصدت الجامعة 260 إضراباً وخمسة عمليات إغلاق في الولايات المتحدة شملت حوالي 140 ألف موظف في عام 2021، مما أدى إلى حوالي 3.27 مليون يوم إضراب.

وفي المملكة المتحدة، يقول سائقو القطارات إنهم سيضربون في 30 يوليو الجاري، كما تخطط نقابتان أخريان للنقل والمواصلات للإضراب على مدار 24 ساعة الأسبوع المقبل. وفي هذه الحالة، فليس الركاب وحدهم من سيعانون: حيث حذرت شركة إيه بي مولر-ميرسك إيه / إس، ثاني أكبر خط شحن حاويات في العالم، من أن هذه الإجراءات ستؤدي إلى “اضطراب كبير” في حركة الشحن.

وشهدت كندا أيضاً إضرابات في السكك الحديدية – وهي جزء من أكبر موجة من الصراع العمالي في البلاد منذ عقود. كما ترك عشرات الآلاف من عمال البناء وظائفهم في وقت سابق من هذا الصيف. وفي مايو، كان هناك 1.1 مليون يوم عمل ضائع بسبب حالات التوقف عن العمل، وهو أعلى إجمالي شهري منذ نوفمبر 1997.

وفي العديد من الدول كان سائقو الشاحنات الذين يحتجون على ارتفاع تكلفة الوقود في طليعة تلك الاضطرابات العمالية. حيث ينظم سائقو الشاحنات في بيرو إضراباً على مستوى البلاد هذا الشهر. وفي الأرجنتين، استمرت حواجز الطرق التي وضعها السائقون في يونيو لمدة أسبوع، مما أدى إلى تأخير نقل حوالي 350.000 طن من المحاصيل – أي ما يقرب من 10 شحنات سفن صغيرة. وفي جنوب إفريقيا، أغلق السائقون الطرق بما في ذلك رابط تجاري رئيسي إلى موزمبيق المجاورة، في مظاهرة ضد الارتفاع القياسي للأسعار.

الموانئ والسفن

النزاع العمالي الذي يقلق مراقبي الاقتصاد الأمريكيين أكثر من غيره هو النزاع الذي يشمل أكثر من 22000 عامل في الموانئ على الساحل الغربي للبلاد. حيث انتهت عقودهم في بداية شهر يوليو، ويتفاوض الاتحاد الدولي للمخازن والمستودعات على التوصل إلى عقد جديد. ويقول الجانبان إنهما يريدان تجنب التوقفات التي قد تغلق الموانئ التي تتعامل مع ما يقرب من نصف واردات الولايات المتحدة.

في هذه الأثناء، اضطر ميناء أوكلاند، ثالث أكثر مدن كاليفورنيا ازدحاماً، إلى إغلاق بعض بواباته ومحطاته في الأسبوع الماضي – مما زاد من وقت انتظار السلع المستوردة – وذلك لأن سائقي الشاحنات منعوا الوصول إلى هناك احتجاجاً على قانون العمل المؤقت الذي قد يؤدي إلى إزالة 70.000 سائق من الطُرُق.

وتحث الموانئ الألمانية الخطى بعد إضراب استمر يومين في وقت سابق من هذا الشهر مما أدى إلى تفاقم الاختناقات التي تعيق الشحن وتضر بأكبر اقتصاد في أوروبا.

وفي كوريا الجنوبية، شهدت صناعة بناء السفن زيادة في الطلب وسط أزمة سلاسل التوريد. حيث ظل العمال يحتجون منذ عدة أسابيع في رصيف لشركة دايو لبناء السفن والهندسة البحرية في مدينة جيوجي الجنوبية، مطالبين بزيادة في الأجور بنسبة 30% وتخفيف عبء العمل عليهم. وقد أدى هذا الإجراء بالفعل إلى تأخير إنتاج وإطلاق ثلاث سفن، وحث الرئيس يون سوك يول الوزراء على حله المشكلة. ويبدو أنه سيصدر قرار قريباً بهذا الشأن، اعتباراً من نهاية هذا الأسبوع.

فوضى السفر الجوي

وساهمت النزاعات العمالية في فوضى السفر الصيفي في أوروبا، حيث تعاني شركات الطيران والسكك الحديدية بالفعل من نقص في الموظفين بعد الضغط الذي شكلته الجائحة على أسواق العمل. وقد تعطلت جداول شركات النقل بما في ذلك رايان إير، وإيزي جيت، وإسكندنافيا ساس بسبب تلك الإضرابات.

واضطر الإضراب الذي تم تنظيمه في مطار شارل ديجول خارج باريس إلى إلغاء الرحلات الجوية، وبدا مطار هيثرو بلندن في خطر التعرض لمصير مماثل قبل أن تلغي نقابة يونايت يونيون إضراباً مقترحاً يوم الخميس، قائلة إنها تلقت “عرضاً محسناً بشكل مستدام” بشأن زيادة الأجور .

وحتى في جامايكا التي تتسم بالهدوء والأريحية في العادة، فقد نظم مراقبو الطيران إضراباً لمدة يوم واحد في 12 مايو للشكوى من تدني الأجور وساعات العمل الطويلة، مما أدى إلى إغلاق المجال الجوي الجامايكي وتعطيل سفر أكثر من 10000 شخص في الجزيرة الكاريبية. وتم إجبار طائرة واحدة على الأقل على العودة إلى كندا وهي في منتصف الرحلة.

أزمة الطاقة

وهدد إضراب عمال النفط في النرويج بتوجيه ضربة أخرى لإمدادات الطاقة في أوروبا، التي تضررت بالفعل بسبب الحرب في أوكرانيا، في ظل انخفاض تدفقات الغاز من روسيا. وتم حل الخلاف عندما تدخلت الحكومة باقتراح مجلس إلزامي للأجور. وقالت وزيرة العمل في البلاد إنه ليس لديها خيار سوى التدخل لحل الأمر، بسبب احتمالية حدوث “تأثيرات مجتمعية بعيدة المدى في جميع أنحاء أوروبا”. وكان من الممكن أن يؤدي تصعيد آخر للإضراب إلى إغلاق أكثر من نصف صادرات الغاز النرويجية.

وفي أستراليا، أحد أكبر مصدري الغاز الطبيعي المسال في العالم، مدّد العمال في منشأة إنتاج الغاز الطبيعي المسال العائمة التابعة لشركة شل بي إل سي في غرب أستراليا نشاطهم الصناعي حتى 4 أغسطس، وفقاً لاتحاد التحالف البحري. وكان الإضراب قد أدى إلى توقف التحميل في أحد منشآت التصدير، مما أدى إلى تفاقم النقص العالمي في الوقود.

وقد نجحت مجموعات العمل في شركة المرافق المملوكة للدولة في جنوب إفريقيا، إسكوم (إس أو سي) القابضة المحدودة، في الفوز بزيادة في الأجور تواكب التضخم تقريباً بعد إضراب دام أسبوعاً أدى إلى تفاقم انقطاع التيار الكهربائي في البلاد – مع أنه كان غير قانوني، حيث تمنع القوانين العاملين في إسكوم من الإضراب لأن إتاحة إمداد الكهرباء تعتبر خدمة أساسية.

إن كل الأزمات والإضرابات والمشاكل المشار إليها أعلاه سوف تفاقم من اضطراب الأوضاع عالميا، وتزيد الأحوال الاقتصادية سوءا، بما سيساهم في رفع وتيرة الاحتجاجات السياسية والمجتمعية المتنامية على مستوى العالم.

وفيما يلي نستكمل ما بدأناه في الجزء الأول واستعراض التطورات التي جرت في بعض الدول، التي تعرضت لاحتجاجات شعبية واضطرابات سياسية بسبب التضخم وزيادة الأسعار في الطاقة والغذاء، في ظل ارتفاع نسبة التضخم في الاقتصاد العالمي وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وعلى رأسها سريلانكا التي تصاعدت فيها الاحتجاجات حتى أرغمت رئيس البلاد على الهرب خارج البلاد ثم تقديم استقالته عبر البريد الإلكتروني:

أولاً: سريلانكا

بخصوص آخر التطورات في سريلانكا، التي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة، بعد أن أجبرت الاحتجاجات الشعبية رئيس البلاد، جوتابايا راجاباكسا على الهرب إلى الخارج، وقيام البرلمان السريلانكي باختيار رئيس الوزراء السابق رانيل ويكرمسينج ليحل محل الرئيس المتنحي، حيث أدى ويكرمسينج في 21 يوليو اليمين الدستورية كرئيس جديد لسريلانكا أمام رئيس المحكمة العليا جايانثا جاياسوريا في مجمع البرلمان – باعتباره الرئيس التنفيذي الثامن للبلاد.

وفي اليوم التالي، في 22 يوليو، أدى مجلس الوزراء الجديد اليمين الدستورية  في مكتب رئيس الوزراء في كولوبيتيا، بعد أن تولى رئيس الوزراء السابق رانيل ويكرمسينج مهامه كرئيس لسريلانكا خلفاً لجوتابايا راجاباكسا الذي أطاحت به الجماهير.

أدى ويكرمسينج في 21 يوليو اليمين الدستورية كرئيس جديد لسريلانكا

 ومن جانبهم، قرر المتظاهرون المحتشدون في الساحة المعروفة باسم “نو ديل جاما”، إخلاء موقع الاحتجاج، بعد هذه الأحداث والتطورات.

وجدير بالذكر أن حكومة راجاباكسا كانت مترددة بشدة في اللجوء لصندوق النقد الدولي وطلب المساعدة منه، كونها تنطوي على إجراءات تقشف لها مردودات غير مرحب بها شعبيا، ولكنها في الوقت نفسه سعت للحصول على مساعدات من الهند. وكان وزير المالية آنذاك قد أبلغ البرلمان في مايو الماضي أن أي برنامج لصندوق النقد الدولي سيستغرق ستة أشهر للبدء فيه، واستدرك بالقول بأنه “قد يستغرق الأمر عامين حتى تخرج البلاد من تلك الأزمة”، حيث كانت حالة عدم اليقين السياسي قد أثارت العديد من التساؤلات حول طبيعة المحادثات مع صندوق النقد الدولي حول خطة محتملة للإنقاذ. وكان كثير من كثير من الناخبين يعتبرون الرئيس المتنحي راجاباكسا، الضابط السابق بالجيش، بطل الحرب الأهلية بلا منازع عندما استطاع حسم الصراع الممتد مع متمردي نمور التاميل. ولكن ماذا حدث في نهاية المطاف بعد كل هذا الفشل في إدارة البلاد؟ تم إجباره على الهرب خارج البلاد واضطر إلى تقديم استقالته من الخارج عبر البريد الإلكتروني بعد أشهر من الاحتجاجات التي اندلعت ضده.

“أزمة تحتاج دعماً دولياً”

يرى مجموعة من الخبراء الحقوقيين أن الأزمة الاقتصادية في سريلانكا تتطلب “اهتماما عالميا فوريا”. حيث نشرت وكالة Adaderana الإخبارية السريلانكية في 21 يوليو تقريراً بعنوان “خبراء حقوقيون: الأزمة الاقتصادية في سريلانكا تتطلب اهتماما عالميا فوريا” قالت فيه إن مجموعة من خبراء حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة ناشدوا الأربعاء ٢٠ يوليو المجتمع الدولي بأنه يجب تقديم دعم أكبر لسريلانكا في الوقت الذي تواجه فيه البلاد أزمة اقتصادية واضطراب سياسي. وبحسب التقرير، فقد قال خبراء حقوق الإنسان في البيان الذي أصدروه بأن “الانهيار الاقتصادي في سريلانكا يحتاج إلى اهتمام عالمي فوري، ليس فقط من الوكالات الإغاثية الإنسانية، بل أيضاً من المؤسسات المالية الدولية والمقرضين من القطاع الخاص والدول الأخرى التي يجب أن تأتي لمساعدة البلاد”. وأعرب الخبراء التسعة عن قلقهم من ارتفاع معدلات التضخم في سريلانكا، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، ونقص الطاقة، وأزمة الوقود المعوِّقة، والانهيار الاقتصادي، في الوقت الذي تكافح فيه البلاد في مواجهة اضطرابات سياسية غير مسبوقة.

فجوات بنيوية

وقال الخبراء أيضاً إن تلك الأزمة كان لها تأثير خطير على حقوق الإنسان. فقد أدى انقطاع الوصول إلى الغذاء والرعاية الصحية لفترات طويلة إلى التأثير بشدة على المرضى والحوامل والمرضعات اللائي هن في حاجة ماسة إلى المساعدة على الحياة.

وقالت عطية واريس، الخبير المستقل المختص بالديون الخارجية وحقوق الإنسان في الأمم المتحدة: “رأينا مراراً التداعيات المنهجية الخطيرة لأزمة الديون على تلك البلدان، حيث كشفت فجوات بنيوية عميقة في النظام المالي العالمي، وأثرت على إعمال وتفعيل حقوق الإنسان .”

وفي أبريل، حث خبراء الأمم المتحدة الحكومة على ضمان الحقوق الأساسية للتجمع السلمي والتعبير أثناء الاحتجاجات السلمية، حيث تجمع الآلاف أمام مكتب الرئيس للمطالبة باستقالته بسبب الفساد وسوء التعامل مع الأزمة الاقتصادية. وأدانت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ميشيل باشليت أعمال العنف التي اندلعت في جميع أنحاء البلاد، وأسفرت عن مقتل سبعة أشخاص على الأقل.

حقوق الإنسان

ومع نضوب الاحتياطيات الأجنبية، تخلفت سريلانكا عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار في مايو. واتخذت الحكومة خطوات لإعادة هيكلة الديون مع صندوق النقد الدولي، الذي أشار في يونيو إلى إحراز تقدم كبير بهذا الصدد. وقالت السيدة واريس: “إن أي استجابة للتخفيف من الأزمة الاقتصادية يجب أن تكون حقوق الإنسان في جوهرها، بما في ذلك في سياق التفاوض مع صندوق النقد الدولي”.

لقد تم إبراز قضية الديون المؤسسية المتزايدة في سريلانكا في تقرير صدر بعد زيارة أحد الخبراء للبلاد في عام 2019. وكشف التقرير الذي أعده الخبير أن سداد الديون كان أكبر بند للإنفاق في البلاد، وسلط الضوء على الحاجة إلى إيجاد بدائل تكميلية واتباع سياسات أقل ضررا. وكان التضخم قد سجل رقما قياسيا بلغ 54.6% هذا الشهر، بينما ارتفع تضخم أسعار الغذاء إلى 81 في المائة.

فشل الحكومة

وقال الخبراء إن “أزمة الاقتصاد والديون المتصاعدة” قد تعمقت بسبب التحول الزراعي المتسارع والفاشل الذي قامت به الحكومة السابقة، مضيفين أن برنامج الغذاء العالمي أطلق برنامج لتوفير استجابة طارئة، حيث يحتاج ما يقرب من 62 ألف مواطن إلى تلقي مساعدة عاجلة. وعلى الرغم من أن الخبراء الذين أصدروا هذا البيان يتلقون تكليفاتهم من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومقره جنيف، إلا أنهم يعملون بصفتهم الفردية وليسوا من موظفي الأمم المتحدة، حيث لا تدفع لهم المنظمة الدولية أي مقابل لعملهم.

ومن غير الواضح الآن مدى استطاعة الحكومة الجديدة التقليص من حدة الأزمة الاقتصادية، وأثر ذلك على تنامي الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، وهو ما يجب متابعته عن قرب كدراسة حالة لبلد تعرض بالفعل للإفلاس ومآلات هذه الحالة على المدى الزمني المنظور.

ثانياً: الأرجنتين

في الجزء الأول ذكرنا أن التضخم في الأرجنتين قد أصبح خارجا عن السيطرة، بالنظر إلى ارتفاعه بشكل متسارع، مما أثار احتجاجات ضخمة ضد الحكومة ورئيس البلاد، حيث سارت الحشود في التاسع من يوليو، الذي يصادف عيد استقلال البلاد، إلى القصر الرئاسي، المعروف باسم “البيت الوردي”، في العاصمة بوينس آيرس، للتعبير عن غضبهم من ارتفاع الأسعار والديون الوطنية التي قالوا إنها أيضاً بدأت تخرج عن نطاق السيطرة، خاصة صفقة الديون التي أبرمتها الأرجنتين هذا العام مع صندوق النقد الدولي، وتُقدر قيمتها بـ 44 مليار دولار. وحمل المتظاهرون لافتات تدعو الحكومة الأرجنتينية إلى ضرورة “الابتعاد عن صندوق النقد الدولي”. وقاموا بقرع الأواني والمقالي، وهو شكل شائع من الاحتجاج هناك، وأغلقوا الشوارع ودعوا الحكومة إلى وقف جميع مدفوعات الديون، وهددت الأحزاب اليسارية بتنظيم إضراب عام لفرض مطالبهم.

وبحسب تقرير نشرته بلومبيرج في 14 يوليو، فإن توقعات التضخم في الأرجنتين قد قفزت بشكل كبير بعد الخروج المفاجئ لوزير الاقتصاد الأرجنتيني مارتن جوزمان، في الوقت الذي كانت النقابات العمالية تطالب بإبرام عقود جديدة لتلافي آثار التضخم. وكان التضخم السنوي هناك قد بلغ  64% في يونيو، وهو أعلى معدل في 30 عاماً، وفقاً لبيانات حكومية تم نشرها في 14 يوليو. ويواجه الأرجنتينيون احتمالات تضخم بنسبة 90% بنهاية العام. وستكون هذه أسرع وتيرة لارتفاع التضخم منذ التضخم الكبير الذي أصاب البلاد قبل ثلاثة عقود، كأعلى معدل على مستوى العالم، وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي.

ويرى محللون أن حكومة الرئيس ألبرتو فرنانديز لا تملك أدوات أو استراتيجية ذات مصداقية لتهدئة التضخم. ويتوقع البعض أن يقوم البنك المركزي الأرجنتيني بالإسراع بتخفيضاته اليومية لقيمة البيزو، الأمر الذي سيسمح له بإنفاق أموال أقل للدفاع عن نظام تعديل سعر الصرف، على الرغم من أن هذا الأمر سيكرس مزيداً من الضغط على الأسعار. وفي ظل هذه الأوضاع، قد تعيد النقابات العمالية القوية في الأرجنتين التفاوض بشأن التوصل إلى زيادات في أجور العمال للتعويض عن الارتفاع المستمر للأسعار.

وفي هذا السياق، نشرت وكالة آي بي إس في 27 يوليو مقالاً لدانيال جوتمان تحت عنوان: “المخاوف تعود إلى الأرجنتين، ومرة أخرى تقف البلاد على حافة الهاوية”، حيث أوضح كيف أن استشرى الفقر ليشمل معظم الأرجنتينيين، مع ما سبّبه ذلك من تصاعد الاضطرابات الاجتماعية في البلاد.

توالى تفجُّر المشاكل بشكل مستمر في

وقد ذكر جوتمان أنه خلال هذا الشهر، توالى تفجُّر المشاكل بشكل مستمر في هذا البلد الواقع  في أمريكا الجنوبية، حيث ازدادت الغالبية العظمى من السكان فقراً على مدى السنوات الأربع الماضية، بالإضافة إلى تصاعد الاضطرابات الاجتماعية في البلاد، وذلك في ظل أزمة نقدية (بشأن سعر صرف العملة المحلية أمام الدولار) وأزمة مالية عامة تسببت في شيوع قدر هائل من عدم اليقين حول ما ينتظر هذه البلاد في المستقبل.

لقد نفدت الدولارات من البنك المركزي؛ وبالتالي تم فرض أقصى حد من القيود  على الواردات، التي تشكل في جزء كبير منها مصدر مدخلات الإنتاج المحلي. والنتيجة هي انتشار الخوف، والمضاربة، والاضطراب الاجتماعي المتزايد، والتضخم الخارج عن السيطرة، مما يتسبب في ضياع مرجعيات الأسعار، حيث تقوم بعض الشركات والأعمال بالتحوط في رهاناتها على السوق من خلال فرض زيادات وقائية على الأسعار، أو حتى إنها قررت التوقف عن البيع البتة.

واليوم، فإن الأسئلة المطروحة في الشوارع وفي وسائل الإعلام هي ما إذا كانت البلاد على وشك مواجهة تفسخ وانهيار اجتماعي، وما إذا كان الرئيس ألبرتو فرنانديز، المعزول سياسياً لدرجة كبيرة بحيث يتم التشكيك فيه من قبل ائتلافه الحكومي، سيستمر حتى نهاية فترة حكمه في ديسمبر 2023.

في هذه الأجواء، ستحتفل الأرجنتين بمرور 40 عاماً على الديمقراطية في البلاد، والتي تميزت بسلسلة من الأزمات الاقتصادية التي خلّفت عواقب تمثلت في تصاعد عدم المساواة بين المواطنين وتسببت في انتشار انعدام الثقة بسهولة في المجتمع، بمجرد ظهور بوادر على أن الأمور لا تسير على ما يرام.

وقد تعمّقت الأزمة في بداية هذا الشهر، عندما تسببت استقالة وزير الاقتصاد آنذاك مارتن جوزمان في 2 يوليو في انخفاض بنسبة 50% في سعر الصرف الموازي – المعروف محلياً باسم الدولار الأزرق – وهو السعر الوحيد الذي يمكن الحصول عليه بحرية في دولة تخضع لضوابط على أسعار الصرف، وهذا بدوره أدى إلى زيادة التضخم، الذي بلغ 50% في عام 2021، ومن المتوقع ألا ينتهي هذا العام إلا وقد قفز إلى أكثر من 90%.

وقال سيرجيو تشوزا، وهو اقتصادي وعضو تدريس في جامعة بوينس آيرس العامة، “كانت هناك سلسلة من الاختلالات في الاقتصاد الكلي للأرجنتين لسنوات، مما يعني أن الحكومة اليوم ليس لديها الأدوات للتعامل مع سعر الصرف والضغوط المالية”.

“في هذه البلاد، تهيمن قيمة الدولار على التوقعات بشأن الأسعار؛ ونتيجة لذلك، فمن الصعب بشكل متزايد تجنب “دوامة ” التضخم. وفي الوقت نفسه، انهارت السندات الحكومية وأخذت تدر بالفعل أقل من تلك التي حتى في أوكرانيا.

ويقول تشوزا “إن جائحة كوفيد -19 كان أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في إثارة موقف يبدو أنه خرج عن نطاق السيطرة.”

ويشرح الخبير الاقتصادي ذلك بقوله، “كان هناك توسع في الإنفاق العام، كما هو الحال في معظم أنحاء العالم. لكن المشكلة هي أنه في حين أن معظم البلدان مولت إنفاقها باتباع نظام الائتمان، لم تستطع الأرجنتين فعل ذلك لأنها كانت بالفعل مثقلة بالديون”.

الاحتجاجات الاجتماعية

تكتظ الساحة الواقعة أمام قصر العدل، في قلب وسط مدينة بوينس آيرس، بالناس الذين تجمعوا للتظاهر ضد الحكومة. ويحمل المتظاهرون الأصغر سناً لافتات أعدتها حركات اجتماعية جاءت من الأحياء الفقيرة النائية، ولكن هناك أيضاً عائلات بأكملها تحمل أطفالها الصغار بين أذرعها. وقد تم قطع حركة المرور في المنطقة المحيطة للساحة تماماً، في ظل استمرار تدفق طوابير من المتظاهرين.

إنه أحد أيام الخميس من شهر يوليو، لكن هذه صورة يمكن رؤيتها عملياً كل يوم في العاصمة الأرجنتينية، حيث تنظم القطاعات الاجتماعية الأكثر ضعفاً سلسلة من الاحتجاجات لأن الحكومة، في خضم الأزمة، علّقت توسيع برنامج “تعزيز العمل”.

هذا هو اسم البرنامج الوطني للإدماج الاجتماعي-الإنتاجي والتنمية المحلية، والذي يقدم راتباً من الحكومة مقابل أربع ساعات من العمل في المؤسسات الاجتماعية، مثل مطابخ الحساء أو تعاونيات إعادة تدوير النفايات في المناطق الحضرية.

وقال فرناندو الذي رفض ذكر اسمه الأخير في تصريح له إلى وكالة آي بي إس: “كانت الأمور في حيائنا صعبة للغاية على مدى سنوات عديدة، ولكن الأمور تزداد سوءاً الآن لأننا لم نعد قادرين على وضع الطعام على الطاولة”. وفرناندو هو شاب من لافيري، إحدى أفقر المناطق في ضواحي بوينس آيرس، وكان يعمل نادلاً في حانة قبل أن يصبح عاطلاً عن العمل في عام 2021. واليوم يقوم بأعمال البناء من حين لآخر.

وقال سانتياجو بوي، الباحث في مرصد الديون الاجتماعية في الجامعة الأرجنتينية الكاثوليكية الخاصة، إن الأجور قد فقدت حوالي 20% من قوتها الشرائية منذ عام 2018 بسبب انخفاض قيمة العملة والتضخم.

وبلغ معدل الفقر حوالي 25% في عام 2017، وارتفع إلى 40% في عام 2019 وظل ثابتاً بعد ذلك. واليوم، هناك شعور بالفقر على نطاق واسع في البلاد، على الرغم من حقيقة أن معدل البطالة هو 7 % فقط، لأن 28% من العمال فقراء،” كما يقول بوي، وهو يصف الوضع في بلاده التي يبلغ عدد سكانها 47.3 مليون نسمة.

وبعد تجاوز ذروة جائحة كورونا في عام 2020، تحسنت المؤشرات الاجتماعية في عام 2021، لكنها ساءت مرة أخرى هذا العام ولا يبدو أن شبكة المساعدة الاجتماعية الواسعة كافية للحد من هذا الانخفاض.

يقول بوي: “المساعدة الاجتماعية لن تحل الأمور في الأرجنتين، لأن الاقتصاد الكلي هو مصنع دائم للفقر”.

إحدى العمليات التي نفذها موظفو وزارة الاقتصاد في نهاية الأسبوع الماضي كانت في محلات السوبر ماركت في بوينس آيرس، من أجل السيطرة على ارتفاع أسعار المنتجات الأساسية و”تفكيك مناورات المضاربة”، حسب ما ورد من وزارة الاقتصاد.

سباق الأسعار

ويقول فرناندو سافور، رئيس اتحاد متاجر البقالة في مقاطعة بوينس آيرس، الاتحاد الذي يضم 26000 شركة في أكثر مناطق البلاد اكتظاظاً بالسكان: “أشعر بالخجل من تحديد بعض الأسعار التي يجب أن أبيع بها أشياء أساسية مثل الخبز أو الدقيق أو السكر”.

ويقول سافور إنه “منذ بداية العام، كانت ارتفاعات الأسعار من الموردين ثابتة، لكنها ارتفعت في الأسبوع الأول من يوليو، بعد استقالة وزير الاقتصاد.

لقد شهدنا زيادات بأكثر من 10% في المواد الغذائية وأكثر من 20% في منتجات التنظيف. ولا أعتقد أن هناك ما يبرر ذلك، ولكن في كل مرة يرتفع فيها الدولار، ترتفع الأسعار.” ويُضيف سافور بأن بائعي البقالة يترددون في بيع بعض المنتجات بسبب عدم اليقين بشأن تكاليف إعادة تخزينها.

وفي سياق التوتر العام السائد في البلاد، تقوم الحكومة بشكل غير رسمي بتسريب شائعات حول التدابير الاقتصادية، والتي لا تتحقق بعد ذلك ولكنها تغذي الشعور بعدم اليقين.

وقال الرئيس فرنانديز إن نقص الدولارات سيتم حله إذا باع المنتجون الزراعيون جزءاً كبيراً من محصول فول الصويا، الذي يحجزونه حالياً، بقيمة 20 مليار دولار.

إنهم ملزمون بالتصدير بسعر الصرف الرسمي، الذي وصلت فجوته مع الدولار الموازي إلى مستوى قياسي بأكثر من 150 في المائة، ويبدو أنهم ينتظرون تخفيض قيمة العملة.

وفي 25 يوليو، التقت وزيرة الاقتصاد الجديدة، سيلفينا باتاكيس، في واشنطن بالعضو المنتدب لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، لتؤكد لها أن هذا البلد سوف يمتثل للاتفاقية الموقَّعة مع الصندوق هذا العام، والتي تتضمن مستهدفات لتقليص العجز المالي وزيادة احتياطيات البنك المركزي. لكن هناك قلة من الناس في الأرجنتين الذين يجرؤون على توقع اتجاه الأزمة الاقتصادية الحالية، ومدى سرعة تطورها.

ثالثاً: الإكوادور

منذ اندلاع الاحتجاجات في الإكوادور في 13 يونيو، ندد المتظاهرون بارتفاع أسعار الوقود ونقص الوظائف أو منح امتيازات تعدين في مناطق السكان الأصليين، وطالبوا أيضاً بضبط أسعار المنتجات الزراعية وإعادة التفاوض بشأن ديون الفلاحين مع البنوك. ودفع ارتفاع التضخم والبطالة العديد من الجماهير للانضمام إلى الاحتجاجات، بعد سنوات من التداعيات الخطيرة لجائحة كوفيد-19. وخلال فترة الاحتجاجات التي امتدت لأكثر من أسبوعين، أغلق المحتجون الطرق ووضعوا نقاط تفتيش مؤقتة وحواجز في 11 مقاطعة على الأقل من مقاطعات البلاد البالغ عددها 24 مقاطعة، مما قطع جزئياً فرص الوصول إلى العاصمة كيتو.  وطالب المتظاهرون بخفض تكاليف الوقود، وإتاحة وظائف للعاطلين، وضبط أسعار المواد الغذائية، والمزيد من الإنفاق العام على الرعاية الصحية والتعليم. ويُعاني أكثر من ربع الإكوادوريين من الفقر، وفقاً لبيانات صدرت عام 2021؛ وهناك حوالي واحد من كل ثلاثة فقط من لديه فرصة “عمل مناسب”، في بلد به قطاع عمل غير رسمي ضخم.

وبعد أسبوعين من الاحتجاجات، في ٢٧ يونيو، بدأت مفاوضات مع الحكومة لإنهاء المظاهرات. وفي نهاية شهر يونيو، أُعلن أن حكومة الإكوادور وقادة السكان الأصليين قد توصلوا إلى اتفاق لإنهاء المظاهرات الجماهيرية التي أصابت أجزاء من الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية بالشلل منذ منتصف يونيو تقريباً، حيث يشمل الاتفاق خفض أسعار الوقود وامتيازات أخرى، مما ينهي أسابيع من التظاهرات المناهضة للحكومة. ووقّع الاتفاق يوم الخميس 30 يونيو الوزير فرانسيسكو خيمينيز وزعيم السكان الأصليين ليونيداس إيزا ورئيس مؤتمر الأسقفية المونسنيور لويس كابريرا الذي لعب دور الوسيط. وأعلن إيزا بعد التوقيع: “سنعلق” المظاهرات.

وفي مقال لها نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، توقعت كاثرين أوزبورن، المتخصصة في شؤون أمريكا اللاتينية، أن يتردد صدى احتجاجات الإكوادور في جميع دول المنطقة. حيث قالت “بينما يبدو أن الاحتجاجات في الإكوادور هي أول اضطرابات سياسية كبرى في أمريكا اللاتينية متعلقة بالتضخم الحالي في كل من الغاز والغذاء – من تداعيات جائحة كوفيد -19، والذي تفاقم بسبب الحرب في أوكرانيا – فمن غير المرجح أن تكون هي الأخيرة في المنطقة. ففي الشهر الماضي، احتج سائقو الشاحنات في كل من الأرجنتين وبيرو. وقد تنجح الجهود المستمرة التي تبذلها المعارضة في بيرو لعزل الرئيس بيدرو كاستيلو في نهاية المطاف.”

وقالت صحيفة لوموند الفرنسية إن حكومة الإكوادور أُجبرت على التفاوض مع السكان الأصليين لإنهاء الأزمة، على الرغم من أن رد الفعل الأولي للسلطات كان هو القمع، كما حدث في انتفاضة 2019 الشعبية، بعد أن دعت منظمة السكان الأصليين (كوناي) في 13 يونيو إلى تنظيم إضراب لأجل غير مسمى، مع مطالب تضمنت خفض أسعار الديزل والبنزين بمقدار 40 سنتاً –لكن الرئيس جييرمو لاسو اضطر للرضوخ لمطالب المحتجين بشأن خفض أسعار الوقود، وضوابط أسعار السلع الأساسية، والقيود المفروضة على التعدين في المناطق المحمية.

  ورغم هشاشة الوضع الاقتصادي في البلاد، لم ترد أي أنباء عن اضطرابات في الإكوادور منذ توصل الحكومة إلى اتفاق مع منظمة السكان الأصليين في الثلاثين من يونيو، لإنهاء المظاهرات الجماهيرية التي أصابت أجزاء من الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية بالشلل منذ منتصف يونيو. وفي إطار البرنامج الذي تم التوصل إليه بين حكومة الإكوادور وصندوق النقد الدولي، أصدر الصندوق في 15 يوليو تقريرا عن الوضع الاقتصادي في البلاد بعد المراجعتين الرابعة والخامسة التي أجراها فريقه، في إطار برنامج تسهيل الصندوق الموسع، حيث طلب التقرير تجاوز عدم الامتثال لمعيار الأداء، وإعادة صياغة الوصول، ومراجعة ضمانات التمويل. وقال التقرير إن الاقتصاد في الإكوادور كان قد انتعش بقوة تفوق المتوقع في عام 2021 بنسبة 4.2%، نتيجة إدارة الحكومة لحملة تطعيم جيدة التنفيذ سمحت بإعادة فتح الاقتصاد بشكل مطرد. وتوقع التقرير أنه سيستمر التعافي في عام 2022، ولكن بوتيرة أقل قد تبلغ 2.9%. وقال أيضاً إنه من المتوقع أن تزداد ضغوط التضخم، التي تُعزى في الغالب إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وأضاف التقرير أن الحكومة الأكوادورية لا تزال ملتزمة بالبرنامج المدعوم من الصندوق في إطار برنامج تسهيل الصندوق الموسع الذي وافق عليه المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي في 30 سبتمبر 2020.

رابعاً: بنما

كما ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة، فإن اقتصاد بنما كان هو الأسرع نمواً والأكبر من ناحية دخل الفرد في منطقة أمريكا الوسطى قاطبة. ولكن في ظل التداعيات الاقتصادية الشديدة إثر جائحة كورونا ثم الحرب على أوكرانيا، اندلعت الاحتجاجات في بنما مثلها مثل العديد من الدول. حيث نزل آلاف المتظاهرين في ١١ يوليو إلى شوارع بنما لمطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات ضد التضخم والفساد. ودفع ذلك الرئيس لورنتينو كورتيز إلى الإعلان في خطاب وطني يوم الاثنين 11  يوليو عن خفض أسعار البنزين للسيارات الخاصة إلى 3.95 دولار للجالون اعتبارا من 15 يوليو ( أي بنسبة 24% عن الأسعار في نهاية يونيو) وتثبيته عند هذا السعر، بالإضافة إلى تجميد أسعار عشرات السلع الأساسية. وأمر الرئيس البنمي المؤسسات العامة بالبدء في خفض المرتبات الحكومية بنسبة 10% وخفض النفقات التقديرية المتغيرة.

وقد ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 4.2% على أساس سنوي في مايو الماضي في الاقتصاد البنمي  المدولر، وعلى رأس ذلك أسعار النقل التي ارتفعت بنسبة 16.1%. ومع ذلك، فإن معدل التضخم في بنما لا يزال أقل بكثير من معدل التضخم في البرازيل والمكسيك وكولومبيا وبيرو وتشيلي. وفي تقرير لصحيفة واشنطن بوست، قال ميجيل أنطونيو برنال، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنما، “كأس الصبر والتسامح الذي أظهره الشعب البنمي خلال الإدارات المختلفة فاض بأسعار الوقود، وهو أمر مسيء، من بين أمور أخرى، أبرزها الفساد الذي أطل برأسه”.

ووفقاً لصحيفة ذا ريو تايمز، فبعد 15 يوماً من الاحتجاجات ضد ارتفاع تكاليف المعيشة، اتفقت الحكومة البنمية وقادة الاحتجاجات على خفض سعر الوقود مقابل رفع الحواجز. ولكن المشكلة أن بعض المنظمات المحتشدة في الشوارع لا تعترف بالاتفاق، بحسب الصحيفة. وبذلك، تستمر الفوضى مع استمرار الاحتجاجات في البلاد، دون تقديم حلول لمشكلاتها الاقتصادية. واستمرار الفوضى هذا يؤدي بدوره إلى مزيد من نقص الإمدادات، وهو ما سيقود في نهاية الأمر حتماً إلى انهيار الحكومة.

خامساً: غانا

في غانا، اندلعت أيضاً احتجاجات في أواخر شهر يونيو بسبب الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. حيث احتشد المئات في الشوارع للتعبير عن استيائهم من الوضع في البلاد؛ وقاد الاحتجاجات جماعة ضغط محلية يُطلق عليها “انهضي غانا“، بهدف التنديد بالصعوبات الاقتصادية. وقد اندلعت المظاهرات الشعبية في غانا احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود، وفرض ضريبة على المدفوعات الإلكترونية وغيرها من الرسوم، في الوقت الذي كانت تعاني فيه البلاد من انكماش اقتصادي. وقد شهد الغانيون في الآونة الأخيرة تضخماً قياسياً نجم بشكل رئيسي عن تداعيات الحرب الأوكرانية وسط تخفيضات في الإنفاق الحكومي لمواجهة أزمة الديون.

وقبل الاحتجاجات في غانا، كان النمو الاقتصادي في البلاد قد تباطأ إلى 3.3% على أساس سنوي في الربع الأول من العام، وسجل التضخم رقماً قياسياً جديداً، حيث بلغ 27.6% في مايو، على الرغم من التخفيضات الكاسحة في الإنفاق وغيرها من الإجراءات التي تم اتخاذها لتصحيح الوضع المالي. وتعاني غانا أيضاً من ارتفاع نسبة الديون وانخفاض قيمة العملة المحلية. ووسط أزمة الديون الوشيكة، استبعدت الحكومة الغانية باستمرار طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي. وفي هذا السياق، تساءل موقع  “ذي أفريكا ريبورت” في تقرير نشره في النصف الأول من يونيو عما إذا كانت  الموجة الجديدة من الاحتجاجات ستُجبر الرئيس أكوفو أدو على تغيير مساره والتفاوض مع صندوق النقد الدولي. وكان آلاف من الشباب الغانيين قد نزلوا إلى شوارع أكرا احتجاجاً على ارتفاع أسعار الغذاء والوقود ومشاكل تكاليف المعيشة، قبل أيام قليلة من إعلان الرئيس نانا أدو أكوفو-أدو في الأول من يوليو أن وزير ماليته سيدخل، مُرغماً، في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

وفي تقرير نشرته وكالة بلومبيرج، قالت الوكالة الأمريكية إن ارتفاع التضخم في غانا كان هو المحفز الرئيسي لاندلاع الاحتجاجات في البلاد. وينسب تقرير بلومبيرج إلى كويسي بوتي، الخبير الاقتصادي في جي سي بي كابيتال المحدودة التي تتخذ من أكرا مقراً لها، قوله: “يود بنك غانا الاحتفاظ بسعر الفائدة كما هو ليرى كيف يؤثر تدخله على السوق، خاصةً أن معظم ما يحدث مدفوع بجانب العرض”. وقال إنه سيتيح أيضاً للجنة السياسة النقدية وقتاً لتقييم تأثير سياسات التأثير التي أعلنتها وزارة المالية في مراجعتها لميزانية منتصف المدة في وقت لاحق من هذا الشهر على ترويض التضخم.

وكانت غانا، ثاني أكبر منتج للكاكاو في إفريقيا، قد أرجأت مراجعة الميزانية إلى حين اكتمال الاجتماعات الأولية مع صندوق النقد الدولي حول برنامج اقتصادي. حيث تواصلت الحكومة “مرغمة” مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض، على عكس مسارها من رفض التعامل معه من قبل، حيث تسعى الآن للحصول على ما يصل إلى 1.5 مليار دولار من الصندوق لدعم مواردها المالية. وكان الارتفاع السنوي في أسعار الغذاء قد تسارع ليصل إلى 30.7%، مقابل 30.1٪ في مايو.

وتسارع التضخم غير الغذائي ليصل إلى 29.1% في يونيو، مقابل 25.7% في الشهر السابق، مع ارتفاع تكاليف النقل بنسبة 41.6%. وارتفعت الأسعار بنسبة 3% في الشهر. وتسارع أيضاً معدل التضخم السنوي في غانا ليصل إلى 29.8% في شهر يونيو، مقابل 27.6% في الشهر السابق عليه، حسبما صرح الإحصائي الحكومي صمويل كوبينا أنيم في 12 يوليو. وكان متوسط معدل التضخم بحسب سبعة من الاقتصاديين في استطلاع أجرته وكالة بلومبرج هو 29.9%.

وبمناسبة تصريح الرئيس الغاني نانا أدو أكوفو-أدو في الأول من يوليو أن وزير ماليته سيدخل، مُرغماً، في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، نشرت وكالة رويترز للأنباء في 7 يوليو تقريراً أعده كوبر إنفين وراشيل سافاج تحت عنوان “لماذا عادت غانا إلى صندوق النقد الدولي؟”، جاء فيه أن “السلطات الغانية تأمل في أن يخفف برنامج صندوق النقد الدولي عجز ميزان مدفوعات غانا البالغ نحو مليار دولار، والذي قال محافظ البنك المركزي إرنست أديسون في مايو إنه ناتج عن هجرة رأس المال بسبب عوامل عالمية. لكن خبراء يقولون إن أصل المشكلة في غانا أنها على الأرجح مشكلة مالية، لأنها تستخدم قروضاً أكبر باستمرار لسد عجزها المالي المكون من رقمين.”

وجاء في التقرير أنه بعد أيام من نزول المئات من الغانيين إلى شوارع العاصمة أكرا (في أوائل يوليو) للاحتجاج على تدهور اقتصادها، أعلنت حكومة غانا، إحدى أكثر دول غرب إفريقيا ازدهاراً، أنها ستشرع في محادثات رسمية مع صندوق النقد الدولي للحصول على الدعم.

بلغ التضخم في غانا أعلى مستوى له في 18 عاماً عند حد 27.6% في شهر مايو،

وقد اعتقد العديد من المحللين أن القرار كان  أمراً لا مفر منه، على الرغم من التعهدات المتكررة التي صدرت عن وزير المالية الغاني كين أوفوري-أتا بعدم السعي مرة أخرى للحصول على أي مساعدة من صندوق النقد الدولي. فلماذا عكست غانا مسارها، وماذا يمكن أن يطلبه صندوق النقد الدولي في المقابل؟

لماذا الآن؟

بلغ التضخم في غانا أعلى مستوى له في 18 عاماً عند حد 27.6% في شهر مايو، متوجاً عاماً من تسارع ارتفاع الأسعار. وتباطأ النمو ليصل إلى 3.3% في الربع الأول من العام، وانخفضت قيمة العملة “سيدي” بنسبة 23.5% مقابل الدولار منذ بداية العام فقط.

وفي بيان أوجزت خطتها للتعامل مع صندوق النقد الدولي، ألقت الحكومة باللوم في مشاكلها على مجموعة من القوى الخارجية التي برزت خلال الأعوام الأخيرة، بما في ذلك جائحة كوفيد-19، وأزمة أوكرانيا، والركود الاقتصادي الأمريكي والصيني.

وقد أبلغ وزير المالية كين أوفوري-أتا المشرعين الشهر الماضي أن النفقات المتعلقة بالجائحة بلغت 18.19 مليار سيدي (أي ما يعادل 2.26 مليار دولار) اعتباراً من شهر مايو 2022. وتلقت البلاد 1.23 مليار دولار في إطار تمويل إغاثة كوفيد-19 من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خلال تلك الفترة، بحسب قوله.

وارتفعت أسعار السلع المستوردة ليفوق سعرها تلك المنتجة محلياً للشهر الثاني على التوالي في مايو، حيث شهدت الحبوب – التي تستورد غانا 20% منها من روسيا – بعض أكبر الارتفاعات في الأسعار مراراً وتكراراً. وتضاعفت أسعار البترول تقريباً على أساس سنوي.

وقال أماكا أنكو، رئيس مجموعة أوراسيا أفريقيا في مذكرة، إن السلطات كانت لا تزال غير متأكدة من السعي للحصول على دعم من صندوق النقد الدولي قبل أسبوعين فقط، لكنها وجدت أن أيديها مقيدة بعد أن توقف المشرعون عن قرض بمليار دولار؛ وضريبة المدفوعات الإلكترونية التي لا تحظى بشعبية والتي تهدف إلى تحقيق إيرادات، كانت ضعيفة الأداء.

الديون والعجز

تأمل السلطات الغانية في أن يخفف برنامج صندوق النقد الدولي عجز ميزان مدفوعات غانا البالغ نحو مليار دولار، والذي قال محافظ البنك المركزي إرنست أديسون في مايو إنه ناتج عن هجرة رأس المال بسبب عوامل عالمية.

لكن خبراء يقولون إن أصل المشكلة في غانا أنها على الأرجح مشكلة مالية، لأنها تستخدم قروضاً أكبر باستمرار لسد عجزها المالي المكون من رقمين.

وقال ويليام دنكان، مؤسس شركة “سبير كابيتال & أدفيسوري”، ومقرها غانا: “أكبر مشكلتنا هي أن حوالي 60% من نفقاتنا تذهب باستمرار نحو دفع رواتب العاملين في القطاع العام أو مدفوعات الفائدة”. “لقد كانت دائرة مفرغة عبر الحكومات الثلاث الأخيرة”.

وتضاعف رصيد ديون غانا أكثر من الضعف منذ عام 2015، حيث قفز باضطراد من 54.2% من الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام إلى 76.6% في نهاية عام 2021، وفقاً لبيانات حكومية.

وتقع خطة وزارة المالية لاحتواء هذا الدين بشكل مباشر على عاتق صندوق النقد الدولي، والذي قال إنه سيساعد البلاد على استعادة إمكانية الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية وتجديد الديون الحالية بعد خفض التصنيف الائتماني الأخير الذي أدى إلى تهدئة معدل الفائدة المستحقة للمُقرضين.

وقد شكك الكثيرون في استدامة تلك الاستراتيجية. حيث أظهرت أرقام وزارة المالية الغانية أن مدفوعات الفائدة كانت أكبر المصروفات السنوية للحكومة منذ عام 2019، وكانت ثاني أكبر مصروفات الحكومة لمدة خمس سنوات متتالية قبل ذلك.

وبينما ارتفعت سندات اليوروبوند في غانا بعد أنباء عن أن الحكومة ستسعى للحصول على مساعدة من صندوق النقد الدولي، فإن العوائد للجميع باستثناء الإصدار المستحق هذا العام لا تزال أعلى من 10%، وهو المستوى الذي يُنظر إليه على أنه يمنع بلداً ما من إصدار ديون جديدة لأنه يصبح مكلفاً للغاية.

اقتراح البرنامج

عندما طلبت غانا مساعدة صندوق النقد الدولي آخر مرة في عام 2015، تلقت 918 مليون دولار من خلال اتفاقية تسهيلات ائتمانية ممتدة، أي ما يعادل 180% من حصتها.

لكن هذه المرة، اقترحت غانا “برنامجها المحلي المعزَّز” على صندوق النقد الدولي، والذي سيستمر لمدة ثلاث سنوات على الأقل.

وتصر الحكومة الغانية على عدم إحداث أي تخفيضات في البرامج الرئيسية للإدارة، مثل تعهدات الحملة ببناء مستشفيات ومصانع في كل مقاطعة من مقاطعات البلاد، البالغ عددها 216 مقاطعة، ونظام المدارس الثانوية المجانية.

وعلى الرغم من أن تكلفة خدمة الديون كانت تقل قليلاً عن 48% من الإيرادات الحكومية في عام 2021، فإن اقتراح وزارة المالية لا يتطلب إعادة هيكلة الديون.

ولكن، يعتقد الخبراء أن مثل هذه الظروف قد تكون معقدة.

قال المحللون في وكالة موديز إنفستورز سيرفيس، إن “البرنامج سيدعم ثقة الدائنين، ويخفف من ارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومية، ولكنه يأتي بنفس القدر مع شروط ضبط أوضاع المالية العامة التي قد يكون من الصعب الوفاء بها”.

سادساً: موريتانيا

في موريتانيا، التي لم يشملها الجزء الأول من هذه السلسلة، أثار قرار الحكومة الموريتانية زيادة أسعار الوقود بنسبة 30% غضبا شعبياً واسعا في البلاد، وفجَّر احتجاجات ضخمة بالعاصمة نواكشوط ومدن أخرى. حيث اتخذت الحكومة الموريتانية في 15 يوليو قرارا برفع أسعار الوقود بنسبة 30% دُفعة واحدة، مما يثير المخاوف من أن تتسبب هذه الزيادة في رفع أسعار المواد الأساسية التي يشكو الموريتانيون من زيادتها أصلاً. وكانت الحكومة قد بررت قرارها رفع أسعار الوقود بأنه يعود إلى إكراهات تقلب السوق العالمية نتيجة الحرب في أوكرانيا وتداعيات جائحة كورونا.

ولكن قرار زيادة أسعار الوقود هذا فجّر احتجاجات شعبية غاضبة بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، حيث شهد وسط المدينة في 18 يوليو مظاهرات حاشدة تصدت لها قوات الأمن التي انتشرت بشكل مكثف وسط المدينة تحسبا لذلك. وقد دعا حزب “التجمع الوطني للإصلاح والتنمية”، وهو ثاني أكبر حزب ممثل في البرلمان بعد الحزب الحاكم، إلى مسيرة حاشدة السبت 23 يوليو؛ رفضا لقرار الحكومة زيادة أسعار الوقود.

ووصف زعيم المعارضة الموريتانية إبراهيم ولد البكاي، قرار زيادة أسعار الوقود في البلاد بـ “الخطوة الصادمة” للرأي العام الموريتاني. وقال في بيان له  إن القرار قد خلّف استياء عارماً في الشارع، خاصة لدى الطبقات الهشة التي تكتوي بنار الأزمة الاقتصادية في ظل غياب برامج حكومية مؤثرة”. وطالب ولد البكاي الحكومة بالتراجع عن زيادة أسعار الوقود، وتكثيف العمل “لتلافي تدهور أوضاع المواطنين قبل فوات الأوان”.

ودعا “ائتلاف قوى التغيير” في موريتانيا، الذي يضم ثلاثة أحزاب معارضة، إلى التعبئة السلمية لمواجهة قرار الحكومة رفع أسعار الوقود، وأكد أن هذا القرار “يهدد السلم في البلاد”. ووصف الائتلاف المعارض الذي يضم أحزاب “تكتل القوى الديمقراطية”، “اتحاد قوى التقدم”، “التناوب الديمقراطي” زيادة أسعار الوقود بـ “العمل الاستفزازي ضد المواطنين، بكافة فئاتهم الاجتماعية وخاصة الطبقات الفقيرة”. ودعا الائتلاف المعارض، في بيان له، الحكومة إلى “استلهام الإجراءات الإيجابية المتبعة في جميع أنحاء العالم، لا سيما في الجوار الإقليمي، من خلال زيادة الإعانات المباشرة وغير المباشرة لدعم المواد الضرورية، بما في ذلك المحروقات”.

 ودعا رئيس حزب ”الإنصاف” الحاكم في موريتانيا محمد ماء العينين ولد أبيه أيضاً الحكومة إلى العمل من أجل الرجوع إلى الوضعية الطبيعية لأسعار الوقود “التي فرضت الظروف الدولية خفض الدعم الحكومي لها”، بحسب قوله. وأشار في مهرجان لحزبه في نواكشوط إلى أن الدولةن  ما زالت تتحمل عن المواطن جزءا كبيرا من أعبائه، مؤكدا وقوف الحزب إلى جانب المواطنين في هذه المسألة. وشدّد ولد أبيه على أن الحزب يقاسم المواطنين نفس المعاناة، “ولن يدخر جهدا في مطالبة الحكومة بتحسين ظروفهم”.

سابعا: جنوب أفريقيا

 وفي جنوب أفريقيا (لم نتناولها أيضاُ في الجزء الأول)، اندلعت في البلاد مؤخراً احتجاجات سرعان ما تحولت إلى “أعمال الشغب بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وانخفاض مستويات المعيشة”. وخلال مواجهات بين المتظاهرين والشرطة، أطلقت الشرطة النار على المحتجين مما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص وجرح آخرين.

وكان تقرير لـ بلومبيرج في يوليو قد توقع احتجاجات في جميع أنحاء إفريقيا كأحد تأثيرات نقص الوقود في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، خاصة بالنسبة للسكان الذين تمثل تكاليف نقلهم نسبة عالية بشكل غير متناسب من الميزانيات الشهرية. حيث ألقى الموردون باللوم على الدول الأكثر ثراءً في دفعها علاوة على الشحنات، بينما تعود الهوامش المرتفعة بالفائدة على أعمال التكرير لشركات مثل شل بي إل سي.

وقد ارتفعت أسعار ضخ الوقود في جنوب إفريقيا بأكثر من الضعف، في الوقت الذي يضغط  فيه ارتفاع تكاليف الوقود على الدول الأفريقية، في ظل تزايد الاحتجاجات هناك، حيث اندلعت مظاهرات في جنوب إفريقيا وكذلك في موزمبيق، مما دفع الحكومات هناك إلى إعادة تقييم الإعانات لتخفيف أعباء المواطنين. ودفع تصاعد الاحتجاجات في جنوب إفريقيا على ارتفاع تكاليف الوقود الحكومة إلى البحث عن سبل لحل المشكلة وتهدئة الشارع. حيث كان المتظاهرون قد أغلقوا طريق إمداد رئيسي في جنوب إفريقيا وأعاقوا تسليم السلع ، احتجاجا على زيادة أسعار الوقود.

وفي أواخر يوليو، أعلنت حكومة جنوب أفريقيا عن خفض أسعار الطاقة لتبدأ سريانها من 3 أغسطس مما كسر بشكل كبير حدة الاحتجاجات التي كانت قد اندلعت في البلاد. وقد أعلنت وزارة الثروة المعدنية والطاقة، في ٣٠ يوليو عن انخفاض أسعار الوقود بداية من الثالث من أغسطس. وقالت الوزارة في بيان إن العوامل الدولية تشمل حقيقة أن جنوب إفريقيا تستورد كلاً من النفط الخام والمنتجات النهائية بسعر محدد على المستوى الدولي، بما في ذلك تكاليف الاستيراد. وستؤدي هذه الانخفاضات إلى تهدئة الشارع، حيث كان سائقو السيارات وكذلك الركاب يكدون من أجل العثور على ميزانية للتكيف مع الزيادة الهائلة في أسعار الوقود من قِبل وزارة الطاقة في يوليو. حيث سيبدأ تطبيق خفض سعر الوقود اعتباراً من 3 أغسطس 2022.

الخلاصة

كان القاسم المشترك للاحتجاجات الجماهيرية الكبيرة التي اندلعت في الآونة الأخيرة بشكل شبه متزامن في شتى أرجاء العالم النامي، أنها نشأت لأسباب اقتصادية متمثلة بالأساس في ارتفاع نسبة التضخم بما يفوق طاقة الشعوب، وارتفاع نسبة الديون بشكل كبير جعل بعض هذه الدول تتحول إلى دول مفلسة أو تكاد.

ومما جعل هذه الاحتجاجات تتحول إلى شبه ظاهرة عالمية لها سمات متشابهة – على نحو ما يذكّر بتداعي الثورات العربية في 2011 – أنها امتدت من أسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، وكان المحرك الأساسي لها هو العامل الاقتصادي، حيث اتهمت الشعوب الأنظمة الحاكمة في تلك البلدان بالتسبب في الأزمات التي تعيشها بسبب الفساد وسوء الإدارة والتوسع في الإنفاق على مشروعات وأعمال غير ذات أولوية.

واختلف تعامل الحكومات مع هذه الاحتجاجات من بلد لأخر، بين الدخول في جولات تفاوض مع زعماء الاحتجاجات أو قادة المعارضة، بعد فشل الممارسات القمعية في وقف الاحتجاجات، وبالتالي الرضوخ ولو جزئياً لمطالب الشعوب، مما هدأ من وتيرة الاحتجاجات بعض الشئ، كما حدث في تلك الدول التي تتمتع بقدر من الديمقراطية وحرية الرأي – وبين الإصرار على القمع وعدم الاستجابة للمطالب الشعبية، مما أدى لانفجار الأوضاع وتغيير قيادات الحكم كما حدث في سريلانكا، كما اضطرت بعض الدول إلى الدخول في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعد أن كانت تحاول تجنب لهذا الأمر لسنوات طويلة.

استعرض التقرير الأول من هذه السلسلة عينة فقط من هذه الاحتجاجات، وتابع الجزء الثاني التطورات التي جرت في هذه الدول، ورصد احتجاجات جديدة لم يأتي ذكرها في التقرير الأول، مثل موريتانيا وجنوب أفريقيا، إلا أن الكثير من التقارير الدولية تؤكد أن التطورات تنبئ بتفجر المزيد من مثل هذه الأزمات والتي ستؤدي بدورها إلى تصاعد الاضطرابات،  بالنظر إلى أن عددا ليس بالقليل من تلك الدول على وشك الوقوع في دائرة الإفلاس، فضلا عن الدول التي وقعت فيه بالفعل. ولذلك، فمن المبكر التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الحركات الاحتجاجية من ناحية الحجم والتأثير واتساع النطاق والانتشار.

ولكن الواضح أن مثل هذه الاضطرابات تشي بأن العالم على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير الناتج عن عدم الرضا الشعبي عن الحكام وما يتسببون فيه من أزمات، فضلا عن الدور الذي تقوم به القوى الكبرى ومؤسسات التمويل الدولية من المساهمة في تنامي هذه الأزمات. وقد تختلف مألات هذه الاحتجاجات من دولة إلى أخرى حسب حدة الأزمة وحجمها، وكذلك طريقة تعامل الأنظمة الحاكمة مع مطالب شعوبها، سواء بالاستجابة أو بالمزيد من القمع، وكذلك بدرجة الاستجابة “لإرشادات” المؤسسات الدولية. وبدورنا، سنواصل رصد التطورات المتنامية لهذه الظاهرة، وتداعياتها المختلفة، من خلال هذه السلسلة من التقارير، بما يساعد عل توقع مساراتها سواء في الأماكن التي حدثت فيها، أو في الأماكن التي يتوقع أن تعاني منها في المستقبل القريب.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close