fbpx
ترجمات

فورين أفيرز: كيف بعثت حرب غزة محور المقاومة من جديد

نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية في 17 يناير 2024 مقالاً بعنوان: “كيف بعثت حرب غزة محور المقاومة من جديد”، لنرجس باجوغلي، عالمة الأنثروبولوجيا والأستاذة المساعدة في دراسات الشرق الأوسط بكلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز؛ وفالي نصر، أستاذ الشؤون الدولية ودراسات الشرق الأوسط في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز؛ حيث يرى الكاتبان أن إيران وحلفاءها -حزب الله والحوثيون وآخرون- يعملون على تعزيز تحالف قوى بينهم عبر ساحة المعركة الإقليمية (ضد إسرائيل والولايات المتحدة).

وقد جاء المقال على النحو التالي:

في الثاني عشر من يناير، شنت المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضربات عسكرية على أهداف للحوثيين في اليمن. وجاءت هذه الهجمات رداً على هجمات التنظيم على السفن التجارية في البحر الأحمر، والتي أدت إلى تعطيل التجارة العالمية. وبناءً على التصرفات التي يقوم بها الحوثيون أصبحوا خلال فترة وجيزة أبرز الأعضاء في التحالف العسكري الذي أصبح نشطاً على نحو متزايد في مختلف أنحاء المنطقة في أعقاب اغتيال صالح العاروري وعدد من قادة حماس في بيروت في الثاني من شهر يناير. ذلك أنه بعد اغتيالهم، توعد حسن نصر الله، قائد حزب الله، بالانتقام وأعلن أن القتال ضد إسرائيل لا يتطلب أقل من “محور المقاومة”. وفي الساعات التي تلت تعهّد نصر الله، تم تقطيع كلمته إلى مقاطع فيديو تم إنتاجها ببراعة وانتشرت على نطاق واسع. ثم بدأ المحور في الهجوم. فقصف حزب الله قاعدة ميرون للمراقبة الجوية الإسرائيلية بـ 62 صاروخاً؛ وأرسلت جماعة “المقاومة الإسلامية” المتمركزة في العراق طائرات بدون طيار لمهاجمة القواعد الأمريكية في سوريا والعراق واستهدفت مدينة حيفا بصاروخ كروز بعيد المدى؛ وضرب الحوثيون البحر الأحمر؛ واستولت إيران على ناقلة نفط في خليج عمان.

ورغم أن الدول الغربية والإقليمية تزعم أنها لا تريد أن تتحول الحرب في قطاع غزة إلى حريق إقليمي، فإن إيران وحزب الله والحوثيين وغيرهم من أعضاء المحور يلعبون لعبة مختلفة تماماً. إنهم يعملون بصبر ومنهجية على تعزيز تحالف القوى عبر ساحة المعركة الإقليمية. لقد بدأ الأمر بإيران وحزب الله، لكنه يتطور بسرعة إلى شيء أكبر من أجزائه. حيث من بين أعضائها الآخرين الحوثيون في اليمن، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا. ويمثل تشكيل هذا المحور تحدياً مباشراً للنظام الإقليمي الذي أنشأه الغرب ودافع عنه في الشرق الأوسط لعقود من الزمن. كما أنه – كما تظهر الهجمات الإيرانية والحوثية على الشحن في البحر الأحمر – يمثل تهديداً للتجارة العالمية وإمدادات الطاقة.

لقد سلّط هجوم حماس على المستوطنات في غلاف غزة في السابع من أكتوبر الضوء على قدرات المحور ونفوذه، الذي يمتد إلى ما هو أبعد من الأراضي الفلسطينية ليشمل لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران. ويرى الغرب أن طهران هي العقل المدبر وراء هذه الشبكة، ولا شك أن محور المقاومة يعكس النظرة الاستراتيجية لإيران. والواقع أن الحرس الثوري الإيراني زود أعضاء المحور بقدرات عسكرية فتاكة ودعمٍ منسَّق. ولكن طهران ليست سيدة الدمية، حيث يعكس تماسك المحور ودوره الإقليمي أكثر بكثير من إملاءات إيران.

وبدلاً من ذلك، فإن المحور مرتبط ببعضه البعض من خلال الكراهية المشتركة لـ “الاستعمار” الأمريكي والإسرائيلي. ويعتقد حزب الله أن واشنطن وتل أبيب يتدخلان في لبنان، وتعتقد حماس والحوثيون والميليشيات الشيعية في العراق أن الأمر نفسه ينطبق على أراضيهم. وكما قال نصر الله، فإن المجموعات المتباينة توحدها حقيقة مفادها، سواء كانوا لبنانيين أو فلسطينيين أو يمنيين، أنهم يواجهون نفس القضايا ونفس العدو. وهذا يعني أن ما يحدث في منطقة ما له صلة مباشرة بالمناطق الأخرى. وبدلاً من أن يكونوا مجرد أدوات لإيران، يرى المحور نفسه كتحالف مبني على أهداف استراتيجية مشتركة بروح “الكل من أجل الواحد والواحد من أجل الكل”. ويعتقد أعضاء المحور أنهم جميعاً يخوضون الحرب نفسها ضد إسرائيل، وبشكل غير مباشر، ضد الولايات المتحدة. وهذا يعني أن التحذيرات الأمريكية أو الهجمات الأمريكية لن تجبر المحور على التنحي عن دوره. وما لم تصمت المَدافع في غزة، وتُخفَّف الضغوط المفروضة على سكانها، وما لم يتم التخطيط لمسار جدير بالثقة نحو السيادة الفلسطينية وتقرير المصير، فإن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على إخراج نفسها من دوامة التصعيد الخطيرة.

شبكة طهران الضخمة

لم ينبض محور المقاومة بالحياة في السابع من أكتوبر، بل تكوّن في أعقاب الغزو الأميركي للعراق عام 2003. حيث قام مؤسس فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، وقائده السابق قاسم سليماني، ببناء الشبكة على خلفية علاقات إيران الوثيقة مع حزب الله، بالاعتماد على تجارب إيران وحزب الله في قتال العراق وإسرائيل في الثمانينيات. ومنذ البداية، سعى سليماني إلى إنشاء شبكة مرنة حيث يكون كل جزء من المحور مكتفياً ذاتياً. على الرغم من أن التدريب والذخائر قد يأتوا من إيران، إلا أنه كان من المتوقع من كل وحدة من تكوينات المحور أن تتقن وتنشر التكتيكات والتكنولوجيا والأسلحة الخاصة بها.

في أيامه الأولى، كان الهدف الأساسي للمحور الناشئ هو هزيمة الخطط الأمريكية لاحتلال العراق. ولتحقيق هذه الغاية، نجحت طهران وحزب الله في إنشاء ميليشيات محلية قاتلت القوات الأمريكية. ثم، بعد سيطرة داعش على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا في عام 2014، تم إنشاء ميليشيات مماثلة لمحاربة هذه القوى الطائفية المسلحة التي هددت نظام الأسد في سوريا والسيطرة الشيعية في العراق. وأصبحت الحرب الأهلية السورية نقطة تحول بالنسبة للمحور، حيث قاتلت إيران وحزب الله والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا ضد عدوهم المشترك. ومن خلال القيام بذلك، قامت هذه الدول والمجموعات بتعميق قدراتها العسكرية والاستخباراتية وصقل المنطق الاستراتيجي لتحالفها. وخلال هذه الفترة، عزّزت إيران علاقاتها مع المتمردين الحوثيين في اليمن، وضمّتهم إلى التحالف المزدهر الآن، وتبنت راية محور المقاومة.

وعلى مدى العقد الماضي، نشرت إيران وحزب الله صواريخ وطائرات بدون طيار وصواريخ متقدمة في غزة والعراق وسوريا واليمن. كما قاموا بتدريب حماس والحوثيين على بناء أسلحتهم الخاصة. ويتجلى نجاح هذا النهج في التطوير والاستخدام الماهر للصواريخ من جانب حماس والحوثيين. كما تم تدريب أعضاء المحور أيضاً على الاتصالات الإعلامية، وساعدوهم في إنشاء القنوات المالية، مع تعليمهم كيفية دعم المقاومة المدنية، خاصة في الضفة الغربية. وقد بنى خليفة سليماني، إسماعيل قاآني، على هذا الإرث وزاد من لامركزية المحور، وفوّض بشكل متزايد عملية صنع القرار التكتيكي والعملياتي إلى الوحدات المحلية وقادتها.

وقد ساعدت هذه الشبكة طهران على تعزيز هدفها الدائم المتمثل في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. فمنذ ثورة 1979 في إيران، ركّزت طهران على حماية البلاد من واشنطن، التي يعتقد القادة الإيرانيون أنها عازمة على تدمير الجمهورية الإسلامية. ولتحقيق هذه الغاية، سعت إيران إلى الاستهزاء بالمحاولات الأمريكية لاحتوائها اقتصادياً وعسكرياً. وقد سعت إلى طرد الجيش الأمريكي من البلدان المتاخمة لإيران والخليج العربي، وإجبار الولايات المتحدة على مغادرة المنطقة. وكان المحور ذا قيمة بالنسبة لطهران، لأنه صرف انتباه القوات الأمريكية بعيداً عن حدود إيران.

وقد نمت القيمة الاستراتيجية للمحور بالنسبة لطهران على مدى السنوات الثماني الماضية بسبب تزايد العداء لواشنطن. وفي عام 2018، انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران وفرض أقصى العقوبات على البلاد، وفي عام 2020 أمر بقتل سليماني. وقد أقنعت هذه الإجراءات طهران بالحاجة إلى محور أكثر قوة وتماسكاً من الحلفاء، يمتد من البحر المتوسط إلى الخليج العربي، وهو ما يمكن أن يزيد الضغط على واشنطن. وفي هذا السياق، أصبح البرنامج النووي الإيراني مُهمّاً ليس فقط كورقة مساومة للتفاوض على إزالة العقوبات، ولكن أيضاً كرادع يمكن أن يحمي المحور من الهجوم الأمريكي.

ويصطف الأعضاء الآخرون في محور المقاومة مع أهداف طهران في جميع أنحاء المنطقة، والتي تعكس أيضاً مصالحهم المحلية. فحزب الله، على سبيل المثال، تحركه الرغبة في حماية جنوب لبنان مما يعتقد أنه طموحات إسرائيل التوسعية، والتي من المفترض أن تمتد أيضاً لتشمل مناطق في سوريا والأردن. وتركز الميليشيات الشيعية في العراق على إخراج القوات الأمريكية من البلاد، فضلاً عن الانتصار فيما يعتقدون أنها حرب أهلية غير منتهية مع أهل السُنّة في البلاد. ويريد الحوثيون السيطرة على كامل اليمن، وهم مستاؤون من الجهود التي تبذلها السعودية والإمارات لعرقلة مسعاهم.

الكل من أجل الواحد

ومع ذلك، فإن محور المقاومة هو في نهاية المطاف تحالف عسكري، وبالتالي فإن أعضاءه يكونون أقوى معاً. فعلى الرغم من أن حماس هي التي خطّطت ونفّذت هجوم 7 أكتوبر على المستوطنات في غلاف غزة، إلا أن إيران وحزب الله كانا لهم دور إلى حد كبير في تطوير قدرات حماس. وكما أظهرت مجموعة من الاجتماعات في بيروت حضرها كبار قادة حماس، وحزب الله، والجهاد الإسلامي الفلسطيني، والحرس الثوري، والميليشيات الحوثية والعراقية قبل الهجوم، فمن المرجح أن أعضاء المحور كانوا على علم بخطط حماس ودعموها. وبالنسبة لحماس، فقد كان الهدف الرئيسي للهجوم يتلخص في تعطيل الوضع الراهن الذي كان يعمل ببطء ولكن بثبات على إطفاء جذوة القضية الفلسطينية، وإعادة نضالهم ضد إسرائيل إلى واجهة السياسة العربية.

وبالنسبة لإيران وحزب الله أيضاً، فإن إعادة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام كان لها ميزة وضع إسرائيل في موقف دفاعي، وبالتالي تقليص احتمالات المزيد من تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية. كما أنهم مولعون بإمكانية توريط إسرائيل في حرب متعددة الجبهات من شأنها أن تستهلك مواردها. وفي كلتا الحالتين، يحقق الصراع هدفاً إيرانياً طويل الأمد: فقد اعتقدت طهران منذ فترة طويلة أنه إذا لم تكن إسرائيل منشغلة بشؤونها الخاصة، فإنها ستكون منشغلة بشؤون إيران.

إلا أن نتيجة هجوم حماس، وحجم وشراسة الرد الإسرائيلي، والكارثة الإنسانية التي أعقبته، ومدى الاهتمام العالمي، كانت غير متوقعة. لم تتوقع حماس وحلفاؤها في المحور أن يكون الهجوم في السابع من أكتوبر ناجحاً إلى هذا الحد، بل كان المرجح تصور القيام بغزو سريع في الداخل الإسرائيلي من شأنه أن ينتهي بسرعة وبقدر محدود من الخسائر والرهائن. وكان من الممكن أن تهاجم إسرائيل غزة، ولكن ليس بهذه الوحشية المدمرة التي أطلقتها. وكان نجاح هجوم حماس وحجم رد الفعل الإسرائيلي بمثابة حالة من الذهول بالنسبة للمحور، الذي أعاد معايرة أهدافه واستراتيجيته نتيجة لذلك. وعلى الرغم من أن إيران وحزب الله لا يريدان حرباً إقليمية أوسع نطاقاً، إلا أنهما استهدفا القوات الإسرائيلية والأمريكية بطائرات بدون طيار وصواريخ. وانضم الحوثيون إلى المعركة من خلال تعطيل الشحن في البحر الأحمر. لقد فعلوا ذلك لإظهار الدعم للفلسطينيين ولكن أيضاً لردع الولايات المتحدة وإسرائيل عن توسيع الحرب إلى لبنان من خلال إظهار استعداد أعضاء المحور للقتال. ويأملون أن يردع هذا القرار إسرائيل عن توسيع الصراع، ويحرم تل أبيب من القدرة على توسيع الحرب على جبهة من اختيارها، دون مواجهة صراع على جميع جبهات المحور.

لقد شارك جميع أعضاء المحور في الحرب في غزة، وبالتالي فإنهم جميعاً “متورطون” في نظر إسرائيل والولايات المتحدة. وقد أدى هذا إلى تعزيز الروابط داخل المحور. والآن يعتمد كل منهم على الآخر، وعلى منع تحقيق نصر إسرائيلي واضح في غزة. لأنه إذا انتصرت إسرائيل، فمن المرجح أن تحول انتباهها إلى أعضاء آخرين في المحور، بدءاً بحزب الله وانتهاءً بإيران.

الحرب الإعلامية

ولم تقل الكاميرات في هجمات حماس في 7 أكتوبر أهمية عن الأسلحة الفتاكة. فباستخدام كاميرات “جوبرو” المثبتة على المسلحين والطائرات بدون طيار لتسجيل خروقات في الجدار الأمني الإسرائيلي، بدأت حماس في نشر مقاطع فيديو جاهزة لوسائل التواصل الاجتماعي في غضون ساعات من الهجوم، وسيطرت على السردية منذ البداية. وكانت حماس تتمتع أيضاً بنفس القدر من الذكاء الإعلامي منذ اللحظة الأولى. وعلى سبيل المثال، فخلال وقف إطلاق النار المؤقت وتبادل الرهائن في شهر نوفمبر 2023، أطلقت الحركة سراح الأسرى لديها من الإسرائيليين في وسط مدينة غزة، وكانت الكاميرات جاهزة لالتقاط ابتساماتهم ومصافحاتهم وتقبيلهم مع آسريهم. وقد تم تصميم هذا لمواجهة روايات السياسيين الإسرائيليين عمّن يطلقون عليهم “الإرهابيين المتوحشين” و”الحيوانات البشرية”. وأصبح الرأي العام في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، والجنوب العالمي، بل وحتى الغرب، ينظر على نحو متزايد إلى الصراع باعتباره نتيجة لاحتلال دام عقوداً من الزمن، وليس رداً على (ما تسوّق له إسرائيل بأنه) “إرهاب إسلامي”. وهذا يؤكد ضمنياً صحة النظرة العالمية المناهضة للاستعمار للمحور، ويساعد في جعل المحور أكثر شعبية في جميع أنحاء المنطقة.

ويأمل المحور أن تزداد شعبيته العالمية كذلك. فلقد أصبحت القضية الفلسطينية لأول مرة منذ عقود عديدة، بهذا البروز دوليا، وهو ما يعتبره قادة المحور ميزة كبيرة. إن صعود القضية الفلسطينية يؤدي بالتأكيد إلى عزل إسرائيل والولايات المتحدة وزيادة الانتقادات العالمية للاستعمار الاستيطاني والاحتلال والفصل العنصري. ويرحب زعماء المحور بالمواجهة مع الغرب في وقت تكتسب هذه الأفكار المناهضة للغرب اهتماماً جديداً. ولتحقيق هذه الغاية، وضع قادة المحور هذه المفاهيم في قلب رسائلهم. لقد اختفت المصطلحات الدينية الغامضة التي كانت لفترة طويلة عنصراً أساسياً في خطاب إيران وحزب الله؛ وحل محلها بدلاً من ذلك كلمات وعبارات مألوفة من أدبيات حقوق الإنسان والقانون الدولي. وعلى سبيل المثال ما حدث مؤخراً، عندما نشر الحوثيون مقطع فيديو باللغة الإنجليزية عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، معلنين عن حصار البحر الأحمر أمام جميع السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية. وجاء في الفيديو أن هذه العمليات العسكرية “تتقيد بأحكام المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. وتنص هذه المادة على أن جميع الأطراف في الاتفاقية ملزمة بمنع حدوث الإبادة الجماعية ومعاقبة المسؤولين عن ارتكابها. وينتهي مقطع الفيديو برسالة تقول: “يتوقف الحصار عندما تتوقف الإبادة الجماعية”. وفي الثاني عشر من يناير ، قصفت المملكة المتحدة والولايات المتحدة اليمن، في نفس اليوم الذي رفعت فيه جنوب أفريقيا قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية. ومرة أخرى، انتشرت الرسالة عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن جنوب أفريقيا واليمن تتخذان إجراءات لوقف الإبادة الجماعية، في حين كانت لندن وواشنطن تقصفان المنطقة مرة أخرى لدعم القمع الإسرائيلي. وطوال الأشهر الثلاثة الماضية، اكتسب الحوثيون، على وجه الخصوص، قاعدة جماهيرية عالمية بين قطاعات “جيل زد”، مع انتشار مقاطع الفيديو الخاصة بهم على نطاق واسع على تطبيق تيك توك.

وخلال العشرين عاماً مما يُطلق عليه “الحرب على الإرهاب”، كان أعضاء محور المقاومة إما غير معروفين دولياً أو يعتبرون ببساطة “إرهابيين” مدفوعين بكراهية الغرب. ومنذ السابع من أكتوبر، تمكن المحور من تعريف نفسه بشروطه الخاصة، وربط أعماله بنجاح مع الحركات العالمية المناهضة للاستعمار. وقد حقق بالفعل نجاحاً لم يكن من الممكن تصوره من قبل: فقد هتف المتظاهرون في لندن هذا الشهر “Yemen, Yemen, make us proud, turn another ship around” (يا يمن، اجعلنا نفخر بك، وحوّل اتجاه سفينة أخرى).

الكاميرات والأسلحة الفتاكة

يقاتل المحور الآن إسرائيل والولايات المتحدة، ليس فقط في ساحات القتال في الشرق الأوسط، ولكن أيضاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي – على منصات بما في ذلك إنستجرام، وتليجرام، وتيك توك، وإكس – من أجل كسب الرأي العام العالمي. والحقيقة أن تصريحات نصر الله وخامنئي تشير إلى أن قادة المحور ينظرون إلى الرأي العام الدولي باعتباره الجائزة الاستراتيجية الأهم على المدى الطويل. إنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون هزيمة الولايات المتحدة عسكرياً، ولذلك يأملون في خلق ضغط شعبي كافٍ لإجبار واشنطن على الانسحاب من الشرق الأوسط واحترام سيادة الفلسطينيين. ولهذا السبب احتفل نصر الله بحقيقة أن “إسرائيل يُنظر إليها الآن على أنها دولة إرهابية تقتل الأطفال، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي”. وتابع نصر الله أنه بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، هناك تصور عالمي لإسرائيل الآن على أنها “قاتلة الأطفال والنساء، والمسؤولة عن تهجير الناس، والمرتكبة لأكبر إبادة جماعية في القرن الحالي”. كما احتفل نصر الله بقدرة وسائل التواصل الاجتماعي على نشر الرأي القائل بأن الولايات المتحدة هي من تتحمل المسؤولية. وقال: “الحرب على غزة هي حرب أميركية، فالقنابل أميركية، والقرار أميركي. وأصبح العالم يعرف ذلك اليوم”.

وبالنسبة للمحور، فإن هذه الحملة الإعلامية تأتي في الوقت المناسب تماماً. لقد أدركت إيران وحزب الله منذ فترة طويلة أهمية القوة الناعمة، لكنهما لم ينجحا تاريخياً في التأثير من خلالها. لكنهم أدركوا هذا القصور، وأمضوا العقد الماضي في بناء بنية تحتية إعلامية قوية وذكية – تعمل الآن بلغات متعددة – لهذا النوع من اللحظات تماماً. واليوم، تنشر المقاومة الفلسطينية مقاطع فيديو يومية للعمليات في ساحة المعركة، مكتملة بتأثيرات الحركة البطيئة لتسليط الضوء على الضربات المباشرة للجنود الإسرائيليين والمنشآت العسكرية. وينشر الحوثيون مقاطع فيديو لهم على تيك توك وهم يرقصون على متن السفن التي تم الاستيلاء عليها في البحر الأحمر، ويتم إنتاج ميمات (مقاطع تمثيل إيمائي) تهدف إلى توليد قاعدة جماهيرية عالمية لشخصيات المحور الرئيسية، بما في ذلك المتحدث باسم حماس أبو عبيدة. ويتم إنتاج المحتوى أيضاً للاحتفال بـ “نصر الله”، ومقارنة الأمين العام لحزب الله برؤساء الدول العربية المتهمين بعدم القيام بالكثير من أجل الفلسطينيين. ويكمل هذا الناتج المحتوى الذي يتم إنتاجه في الخارج لدعم فلسطين، مما يوسع نطاق المحور بطرق غير مسبوقة.

وتمثل الحملات العسكرية وحملات القوة الناعمة التي خطط لها المحور تحديات إقليمية غير مسبوقة للغرب، ولواشنطن على وجه الخصوص. وإذا لم تنته الحرب قريباً، ولم يتم تأسيس مسار واضح للتوصل إلى تسوية عادلة للفلسطينيين، فإن الولايات المتحدة سوف تواجه منطقة سوف تتشكل سياساتها على نحو متزايد بفعل الغضب الذي يجتاح قطاع غزة. إن توسع الصراع إلى ما هو أبعد من غزة، أو من قبل إسرائيل في لبنان أو من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في اليمن لن يؤدي إلا إلى تغذية هذا الغضب، وزيادة تأجيج الرأي العام، وترسيخ نفوذ محور المقاومة. ولا يمكن لواشنطن أن تعكس هذا الاتجاه إلا من خلال التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة، ومن ثم تشكيل عملية سلام ذات مصداقية تؤدي إلى تسوية نهائية.

لقد كان محور المقاومة قيد الإنشاء منذ فترة طويلة. لكن الحرب في غزة أعطت للشبكة أكبر فرصة لها حتى الآن لشن هجوم عسكري وإعلامي على الغرب. فقد فرضت المقاومة نفسها بالفعل في المنطقة من خلال أسلحتها وجنودها، وعلى المستوى العالمي من خلال رسالتها ومهمتها. لقد غيرت حرب إسرائيل على غزة منطقة الشرق الأوسط: فقد نشأ غضب شعبي هائل، وقد يؤدي العداء تجاه الغرب إلى إشعال شرارة تطرف جديد وعدم استقرار سياسي. وبالنسبة لحكام المنطقة، فحتى أولئك الذين تعتبرهم واشنطن حلفاءها، فقد غيرت الحرب الافتراضات الأساسية بشأن أمنهم وعلاقاتهم مع الغرب. ولا تستطيع الولايات المتحدة تفكيك المحور بسهولة ولا هزيمة الأفكار التي ولّدته. والسبيل الوحيد لإبعاد الرياح عن أشرعة المحور هو إنهاء الحرب في غزة والتفاوض على تسوية حقيقية وعادلة للقضية الإسرائيلية الفلسطينية. وما لم يتم ذلك، فإن محور المقاومة سيكون واقعاً إقليمياً سيتعين على الولايات المتحدة مواجهته لسنوات عديدة قادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close