fbpx
دراسات

الأكثر هشاشة: النخبة المدنية السودانية و3 نماذج انقلابية

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

الباحث القارئ للتاريخ العربي يستبشر – بالضرورة – بالثورة السودانية الراهنة السباقة قبل 5 عقود في طرح النماذج المختلفة للعلاقات المدنية العسكرية في البيئة العربية، وطرح نماذج التخلص منها، حيث كانت السودان مهد أول ثورة عربية ناجحة ضد الحكم العسكري، وهي ثورة أكتوبر 1964، والتي يمكن أن يطلق عليها الثورة المثالية العربية؛ حيث عكست تطلعات جل القوى السودانية لمواجهة الحكم العسكري منذ اليوم الأول، وأنتجت أجمل لحظة وفاق سودانية أدت لنجاح الثورة، وهي لحظة تكاد تطابقها الأيام الثمانية عشرة في صورة يناير بعد ذلك بنحو 47 عاما، وكادت ثورة أكتوبر أن تنتقل بالسودان لمستوى جديد من الحكم، لولا أن روح هذه الثورة أشعلت قلق الجارة والشقيقة الكبرى مصر؛ التي كانت تتخوف من أية تجربة ديمقراطية حولها بالمفهوم السياسي لا المفهوم الاجتماعي للديمقراطية، ما أدى إلى دعم مصر انقلاب العميد جعفر النميري ضد هذه الثورة في مايو 1969.

وبقدر ما كان أول انقلاب ناجح في السودان في نوفمبر 1958 يماثل إلى حد كبير ما حدث في مصر بعد 65 عاما متمثلا في انقلاب 30 يونيو – 3 يوليو 2013 في مصر، فإن سبق السودان بهذه الخبرات يشي باحتمال كبير بإمكانية توقيها الخطر المحدق بنظام ما بعد “انتفاضة الخبز والحرية” التي اندلعت في 19 ديسمبر 2018. إلا أن ذلك النجاح مرهون بشرط أساسي: أن يصار لمعرفة كيفية تمكن العسكريين من تحويل “الانقلاب العسكري”؛ واستعباد القوى المدنية؛ والنجاح في استرضاء المجتمع حيال العمليات الانقلابية؛ إلى ثقافة مؤسسة، ومن ثم معرفة حدود تأثير هذه الثقافة على مستقبل النظام الجديد في سودان ما بعد 2019.

في هذا الإطار، يثير الباحث فرضية مفادها تسبب “المنافسة السياسية غير العقلانية” في شيوع ثقافة الانقلاب العسكري، وتمكينها العسكر من اختراق جدار النخبة المدنية، تارة عبر التيار اليساري وأخرى عبر الإسلاميين، فكلا التيارين مسؤولين عن دعم انقلابات نجحت وأخرى فشلت، ما جعل الأمر يبدو كنمط سياسي استقر اليوم عند التيار المدني؛ وبخاصة الشيوعيين، بقدر ما استقر مع فترة حكم “البشير” عند الإسلاميين، وبعد كل خبرة انقلابية فاشلة يأتي طرف ويصب المسؤولية والغضب على الطرف الذي ساند الانقلاب السابق، ربما باستثناء فترة “نميري” التي بدأت بمساندة الحزب الشيوعي وانتهت بمساندة “جبهة الميثاق الإسلامي.

هذه الفرضية يحكمها سؤال يمثل الإطار الحاكم لاختبار تلك الفرضة، فالانقلابات العسكرية في السودان هشة؛ بدليل تهاويها أمام الثورات الشعبية أو الانقلابات العسكرية بسرعة وحسم، لكن هل الانقلابات هي الأكثر هشاشة أم النخبة السياسية السودانية. ربما تكون هذه الفرضية مستهلكة، لكنها بدهية وموضع تجاهل، حيث تصر النخبة السياسية في السودان، كما في مصر، وكلاهما يعاني من نفس المرض السياسي، بإعلاء التنازع الفصائلي الهوياتي على المصلحة الوطنية المتمثلة في تجنب سيطرة الفئوية العسكرية على مصير السودان، وغير السودان في الحقيقة.

توطئة

خلال 70 عاما – وبخلاف الشائع – شهد السودان نحو 19 محاولة انقلابية، منها 6 انقلابات نجحت بالفعل في التمكن من السلطة، كان منها 3 انقلابات فقط هي التي ساندت “انتفاضات شعبية واسعة”، أما الانقلابات الناجحة الأخرى فقد كانت مطامع شخصيات عسكرية استندت لقوة اجتماعية مكنت العسكريين من الوصول للسلطة، ثم تلاعب العسكريون بها، سواء في ذلك انقلاب النميري على الشيوعيين، أو حل البشير البرلمان السوداني الذي حاول الحد من صلاحياته، واعتقال رئيسه د. حسن الترابي. في هذه التوطئة المعلوماتية، نعرض للانقلابات العسكرية التي شهدها السودان، لنلقي الضوء على ما غاب عن مرصد الانقلابات.

أ. الانقلابات الناجحة:

يمكن القول بأن السودان شهد 6 انقلابات عسكرية ناجحة، برغم أن الشائع أنها 4 انقلابات فقط. فما هي الانقلابات العسكرية؟ وما أسباب نجاحها؟

1. انقلاب 17 نوفمبر 1958:

يعتبر انقلاب 1958 أول انقلاب عسكري ناجح في تاريخ السودان، ضد حكومة ائتلاف ديمقراطية بين حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي يرأسها مجلس السيادة المكون من الزعيم إسماعيل الأزهري ورئاسة الوزارة الأميرالاي عبد الله خليل. وقد قاد هذا الانقلاب الفريق إبراهيم عبود، وشكل حكومة عسكرية برئاسته؛ حكمت السودان نحو 7 سنوات[1].

2. انقلاب “الضباط الأحرار” 28 أكتوبر 1964:

ربما لم يسمع الكثيرون بهذا الانقلاب الذي انحازت فيه مجموعة من ضباط الجيش السوداني لثورة أكتوبر 1964، بعد اتساع نطاق الاحتجاجات ضد نظام الفريق “إبراهيم عبود”، وهو ما أدى لكشف أثر ما يعرفه المتخصصون في علم الاجتماع العسكري باسم “مجتمع العسكريين”[2]، حيث رفض عسكريون مشاركة المدنيين في السلطة، وألقوا القبض على مجموعة “الضباط الأحرار”، لكن الضغوط الشعبية حررتهم ما أدى لنجاح الثورة[3].

3. انقلاب 25 مايو 1969:

هو انقلاب قاده العميد جعفر نميري وسانده فيه في البداية التيارين الشيوعي والقومي. امتد نظام حكم النميري نحو 16 عاماً. وشهدت البلاد إثره تغييرات سياسية واسعة قادتها حكومات تكنوقراطية، لكنها لم تؤد على نحو كفء ما أدى لتفاقم الأزمات الاقتصادية. وأدى انحيازه السياسي إلى كثرة القلاقل والانقلابات خلال فترة حكمه. ما دفعه لتغيير تحالفاته باتجاه الإسلاميين[4].

4. انتفاضة أبريل وانقلاب 1985:

انقلاب 6 أبريل 1985 هو انقلاب داعم لثورة شعبية. فقد كانت “انتفاضة أبريل” ثاني ثورة شعبية تحدث في السودان والعالم العربي وأفريقيا بعد ثورة أكتوبر 1964، حيث خرجت الجماهير في جل السودان تطالب بإنهاء حكم نميري الذي كان قد غادر إلى الولايات المتحدة للعلاج، وانحازت قيادة الجيش بقيادة المشير حسن عبد الرحمن سوار الذهب للثورة في 6 أبريل 1985، واستولت على الحكم لفترة انتقالية مدتها عام واحد، سلمت بعدها مقاليد السلطة لحكومة مدنية[5].

5. انقلاب 30 يونيو 1989:

حمل الانقلاب اسم “ثورة الإنقاذ الوطني”، وقاد الانقلاب عسكريا العميد عمر البشير، وسانده فيه إسلاميو السودان عبر حزب “الجبهة الإسلامية القومية”، والذي كان يتزعمه حسن عبد الله الترابي. واكتسب الانقلاب عداوة دولية وإقليمية واسعة بسبب وجهته الإسلامية، وأدت سياساته إلى تضخم أزمة جنوب السودان انتهاء إلى الانفصال. عادى “البشير” الإسلاميين عندما أرادوا الحد من سلطاته وحل المجلس التشريعي. وأدت إدارته طيلة نحو 30 عاما إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية بشكل حاد. وطالبت “المحكمة الجنائية الدولية” باعتقاله إثر جرائم حرب ارتكبتها قواته خلال اضطرابات إقليم دارفور[6].

6. انتفاضة الخبز والحرية وانقلاب 11 أبريل 2019:

هو انقلاب داعم لثورة شعبية، شبيه بانقلاب 6 أبريل، حيث وقع في شهر أبريل، ونتج كذلك عن انتفاضة شعبية واسعة عمت جل أقاليم السودان. قاد الاحتجاجات السودانية تكتل حمل اسم “قوى الحرية والتغيير” بالإضافة لطيف واسع من الحركة الإسلامية. ونتيجة لاختلاف الظرف الإقليمي وطبيعة قيادة الجيش السوداني، أصرت قوى الاحتجاج على مفاوضة الجيش السوداني ليدخلا معا في شراكة. وما زالت التجربة قيد التشكل خلال توقيت كتابة هذه الورقة[7].

ب. الانقلابات الفاشلة:

لم تكن الانقلابات السابقة الوحيدة التي شهدها السودان، فمسلسل الانقلابات بدأ مبكرا بعد 4 أعوام فقط من إجراء أول انتخابات رئاسية في السودان في أعقاب الاستقلال، والتي أتت بالزعيم السياسي والصوفي إسماعيل الأزهري، لتتوالى حتى يبلغ عدد الانقلابات الفاشلة منها نحو 13 انقلابا عسكريا. فما هي تلك الانقلابات؟

1. الانقلاب الاستهلالي:

لن نبدأ الاستهلال بـ “تمرد الفرقة الاستوائية” في مدينة “توريت” في 18 أغسطس 1955، فقد كان تعبيرا عن أزمة جنوب السودان أكثر منه تدخلا عسكريا في السلطة السياسية. ونبد بالانقلاب غير الناجح الذي قاده الضابط عبد الرحمن كبيدة مدعوما بمجموعة من الضباط والطلاب العسكريين في 13 يونيو عام 1957[8]، وكان الانقلاب مدفوعا بتراجع قدرة النخبة السياسية على وضع توافق سياسي، وكان مؤشرا لوصول البلاد لحالة تشرذم سياسي واضحة؛ أدت لاحقا لانقلاب نوفمبر 1958. لكن الباحثين لا يهتمون بهذا الانقلاب ويعدونه هامشيا في تاريخ السودان، ولا يبدأون التأريخ للعلاقات المدنية العسكرية في السودان إلا بانقلاب الفريق إبراهيم عبود”.

2. انقلابات فترة حكم عبود:

وقاد ابن أخيه يعقوب كبيدة أول محاولة انقلاب عسكري على حكومة الفريق إبراهيم عبود في 9 نوفمبر عام 1959. لم يكن انقلاب يعقوب كبيدة على الفريق “عبود” الانقلاب الوحيد ضد نظام عبود، حيث شهدت فترة حكم الأخير عدة انقلابات تمثلت في المحاولة الانقلابية للواء أحمد عبد الوهاب في 1960، ثم المحاولة الانقلابية التي قادها ضباط محسوبون على جماعة “الإخوان المسلمون” في 1963[9].

غير أن أبرز الانقلابات السودانية المركبة الفاشلة التي شهدها نظام عبود، ما تمثل في محاولة انقلاب الأميرالاي عثمان نصر عثمان على نظام الفريق إبراهيم عبود الذي قدم تنازلات للمدنيين إبان ثورة أكتوبر 1964، وأفرج عن “الضباط الأحرار” الذين طالبوا “عبود” بتقديم تنازلات لثوار أكتوبر، حيث قرر قادة المؤسسة العسكرية الانقلاب وإقامة حكومة عسكرية بالكامل برئاسة “القائمقام” بشير حسن بشير، لكن زلة لسان أحد العسكريين فضحت المخطط، وأدت لتفعيل المقاومة الأهلية في السودان لاحتوائه، ما أدى لإفشاله[10].

3. انقلابات فترة حكم نميري:

بين انقلابي مايو 1969 بقيادة جعفر نميري وانقلاب المشير عبر الرحمن سوار الذهب عليه ضمن “انتفاضة أبريل” وقعت 3 انقلابات، تمثلت في انقلاب هاشم العطا في 19 يوليو 1971؛ والذي تم بدعم شيوعي، ونجح في الاستيلاء على السلطة لمدة 3 أيام قبل أن يستعيد “نميري” كرسيه بمساعدة الرئيس الليبي معمر القذافي. وكان الانقلاب الثاني في 5 أغسطس 1975 بقيادة المقدم حسن حسين، وكان منتميا للتيار الإسلامي، وفشل الانقلاب وأعدم قائده. وكان الانقلاب الثالث بقيادة العميد محمد نور سعد في 2 يوليو 1977، وهو الانقلاب المعروف باسم “غزو المرتزقة”، وضم حزب الأمة الذي يتزعم الطريقة المهدية؛ وساندته فيه “جبهة الميثاق الإسلامي بزعامة حسن الترابي والحزب الاتحادي الديمقراطي، وفشل الانقلاب بسبب غموض التكتيك الذي أعده “حزب الأمة” وقصد به تهميش “جبهة الميثاق”[11].

الأكثر هشاشة النخبة المدنية السودانية و3 نماذج انقلابية

4. انقلابات فترة حكم البشير:

بعد “انتفاضة أبريل” التي ساندها الجيش السوداني بانقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب، أخذت السودان فترة هدنة مع انقلابات العسكريين، ولم تشهد سوى انقلاب واحد هو انقلاب حسن رغيفة في 20 ديسمبر 1988[12]. وأدى اضطراب الحكم المدني بسبب الخلافات السياسية لانقلاب العميد عمر البشير، ليفتح الباب مجددا لمتتالية انقلابات فاشلة على نظام البشير تمثلت في “انقلاب رمضان” الذي وقع في 23 أبريل 1990، وقاده اللواء عبد القادر الكدرو بعد عام من انقلاب عمر البشير، ولم ينجح الانقلاب وأعدم قادته جميعهم وعددهم 28 ضابطا[13]. وبغض النظر عما أسماه البشير “انقلاب مارس 2004” والذي اتهم فيه مجموعة من الأكاديميين الإسلاميين، وهو ما يجعله بعيدا عن كونه انقلابا عسكريا، كان ثاني الانقلابات خلال فترة حكم البشير محاولة قوات “حركة العدل والمساواة” بقيادة خليل إبراهيم 2008 لم تنجح وهي محاولة للاستيلاء على السلطة قامت به في مايو 2008 بقيادة زعيمها الراحل الدكتور خليل إبراهيم، حيث دخلت من تخوم دارفور، لكنها فشلت[14].

5. انقلابات ما بعد ثورة الخبز والحرية:

بعد انقلاب أبريل 2019 الداعم لثورة الخبز والحرية، شهدت محاولات تشكيل حكومة “مدنية – عسكرية مشتركة” اعتراضات عسكرية تمثلت فيما تردد أنه 5 انقلابات فاشلة[15]، وكان متحدث عسكري قد أشار لموقع “إذاعة مونت كارلو” أن ثمة مجموعتين قيد التوقيف[16].

الأكثر هشاشة النخبة المدنية السودانية و3 نماذج انقلابية

ففي 18 مايو 2019، نشر موقع النيلين الإخباري السوداني أن محاولة الانقلاب دبرت بواسطة ضباط تمت إحالتهم إلى التقاعد من الجيش والشرطة بعد نجاح الثورة السودانية. وأتى هذا الإعلان في أعقاب تعليق المجلس العسكري مباحثاته مع “قوى الحرية والتغيير” في أعقاب إطلاق نار في محيط اعتصام المتظاهرين أمام القيادة العامة للجيش في الخرطوم[17].

في 12 يونيو 2019، أعلنت المؤسسة العسكرية عن إحباط محاولة انقلابية نسبتها لمجموعة من الضباط “الإسلاميين” الموالين للرئيس عمر البشير، وأعلنت عن القبض على 68 ضابطا، من دون أن تعلن هوية الضباط القائمين بالانقلاب[18].

وفي 12 يوليو 2019، أعلنت المؤسسة العسكرية السودانية عن إحباط مخطط انقلابي، وذلك عشية الاتفاق بين العسكر وقوى الحرية والتغيير على مرحلة انتقالية لأنهاء الأزمة، ولم تفصح المؤسسة العسكرية عن توقيت هذا الانقلاب المفترض وغموض هوية مرتبيه أدى لاعتبار كثير من المراقبين كونه مختلقا[19].

كما أعلن في السودان عن انقلاب 24 يوليو 2019 والذي قاده رئيس أركان الجيش الفريق أول هاشم عبد المطلب أحمد، بحسب ما أعلنه الجيش السوداني، وجرى على إثره اعتقال عدد من ضباط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، وأعلن الجيش السوداني أن هذه المحاولة هدفت إلى إعادة نظام البشير[20].

النموذج الأول: نموذج انقلاب عبود.. المسببات

يعد انقلاب عبود نموذجا لمساهمة النخب السياسية السودانية في الوصول بخلافاتها إلى حد تسليم السلطة السياسية إلى المؤسسة العسكرية. ربما كان الأمر في السودان في 1958 يجهل مخاطر تمكين العسكريين من الوصول للسلطة، وهو ما يرجع لحداثة عهد أفريقيا بالاستقلال، وهي الفترة التي مثلت فيها النخبة العسكرية نموذجا طليعيا لما تتسم به من “التنظيم” و”التعليم” و”الحداثة”، غير أن ثقافة تغييب الأولويات لم تقف في السودان، ولا في العالم العربي عند حدود “حداثة العهد”، والدليل أن مصر شهدت نفس المشهد؛ تقريبا بحذافيره، في عام 2013. أما نموذج السودان في تكرار هذا السيناريو، وهو نموذج لا نرجوه، فما زال رهن باستيعاب دروس التاريخ المعاصر للسودان.

أما عن الأسباب التي قادت لحدوث هذا الانقلاب، وهو محور تركيز هذا المحور من محاور الورقة، فيكفي التدليل عليه بأنه خلال الفترة ما بين 1954 وحتى حدوث الانقلاب في نوفمبر 1958، شهد السودان تشكل 3 حكومات، منها حكومتان برئاسة رئيس الدولة نفسه إسماعيل الأزهري، وكانت الحكومة الثالثة بقيادة الأميرالاي مهندس عبد الله خليل، والتي أتت بعد انفضاض التحالف بين “حزب الأشقاء” أو “الحزب الوطني الاتحادي” بزعامة الأزهري و”الطريقة الختمية” التي ساندته في الوصول للسلطة، حيث تحالفت مع “الطريقة المهدية” وحزبها “حزب الأمة” لتنزع الثقة عن حزب الأشقاء، ليتولى عبد الله خليل الوزارة[21]. ثلاث حكومات في 4 سنوات مؤشر صارخ على الاضطراب السياسي الذي عاشته السودان.

الخلاف الأولي كان بين “الختميين” و”الاتحاديين” على عدد المقاعد الوزارية، وهو ما أدى الصراع في إطاره لانشقاقات في “الحزب الاتحادي”، وأدى ذلك الخلاف إلى تحقق مخاوف “الأزهري” الذي سبق له أن رفض تشكيل حكومة وحدة وطنية لأن أطرافها سينصرفون لتحصيل الغنائم السياسية على حساب وحدة البلاد ونمائه. وبعد ملف الحقائب الوزارية، تصاعد الخلاف بين “الختميين” و”الاتحاديين” بعد تراجع حماس الأزهري للوحدة مع مصر، ورغبة السيد علي الميرغني في تعزيز فكرة حمايته لروابطه مع مصر. وكان دخول “حزب الأمة” على الخط ذا أثر بالغ في انهيار حكومة “الأزهري” الأولى، حيث حاول “الأزهري الاتصال بالمهدويين لتعزيز تغييب مشروع الوحدة مع مصر؛ وهو خط “حزب الأمة”، ما دفع السيد الميرغني للاتصال بـ”المهديين” والاتفاق معهم على منحهم الحكومة في حال تعاونهم في إسقاط الأزهري، وهو ما تم إثر مناقشة مشروع الموازنة، وانتهى رفضها لاستقالة حكومة الأزهري الأولى، ولو نجح في تحقيق هدف الاستقلال لما تمكن من تشكيل حكومته الثانية، والتي جاءت “حكومة وحدة وطنية” تحت ضغط المعارضة الصوفية القاعدة[22].

ولما كانت الدوافع السياسية بعيدة عن الاستقامة بحكم تصورهم في بيئة ديمقراطية خالية من التهديدات، وهو طرح ساذج في دولة حديثة عهد بالاستقلال، اصطدمت الطريقتان وحزبيهما بالأزهري مجددا، مستغلة حوادث “مزارعي النيل الأبيض” المأساوية في تصعيد الخلاف مع حكومة الأزهري، وهو ما عكس تبنيا لنظام “الأزهري” مصالح طبقة كبار الملاك المرتبطين بالاستعمار الغابر، وهو ما انضوت بسببه القوى اليسارية للائتلاف الصوفي المهدوي – الختمي، وانتهى الأمر باستقالة حكومة “الأزهري الثانية، لتحل محلها حكومة “الائتلاف الصوفي” برئاسة عبد الله خليل في 5 يوليو 1956[23].

بعد توليه الحكومة، قام “خليل” بحل البرلمان لإعادة الانتخابات وفق قانون جديد يستبعد عددا من الأحزاب السياسية ويعظم المكاسب السياسية لحزبي الائتلاف، عبر ألغاء “دوائر الخريجين” وتعديلات قانون الإقامة بما يسمح بالتصويت لعدد كبير من النازحين الأفارقة وثيقي الصلة بالتيار المهدي، وهو ما أدى بانتخابات 1958 لتجديد ودعم الائتلاف الصوفي. غير أن العداوة التاريخية ما بين مكوني الائتلاف الصوفي لم تلبث أن تبدت، فعجزت الحكومات الثلاث المتعاقبة عن إنجاز دستور دائم للبلاد، وتفاقمت مع الخلاف مشكلات الجنوب السوداني الباحث عن علاقة فيدرالية مع الشمال بدلا من الوحدة المطلقة، هذا فضلا عن تردي الحالة الاقتصادية التي لم تحتل رتبة الأولوية التي تليق بها في دولة كانت حديثة عهد باستعمار، وتدور ماكينتها الاقتصادية عبر تحويل فائض القيمة للخارج وخدمة مصالح الاستعمار وليس تنمية الداخل. ومع طرح الولايات المتحدة “مشروع أيزنهاور” بدا رئيس الحكومة وحزب الأمة ميالين لموافقته، فيما رفضه حزب الشعب الديمقراطي وقادته الختميين، ووافقهم في ذلك عدد كبير من قادة الأحزاب المعارضة، ما أدى لتهديد الحكومة بالاستقالة، ما عزز من لجوء رئيس الوزراء عبد الله خليل لتشجيع المؤسسة العسكرية على التدخل. وساعد على ذلك تفاقم أزمة الحدود مع مصر حول منطقتي “حلايب” و”شلاتين”[24].

ونظرا لعدم صحة المناخ السياسي، سرت شائعات عن تحالفات محتملة بين الاتحاديين والمهدويين، وبين الاتحاديين والختميين، وحرص رئيس وزراء “الائتلاف الصوفي على تأجيل اجتماعات مجلس النواب المتعلقة بالتصويت على الثقة في الحكومة؛ حتى تمكن من الترتيب للخروج من المشهد بأقل الخسائر أو أعلى المنافع، ودفع الفريق إبراهيم عبود على السلطة للاستيلاء [25].

الفريق إبراهيم عبود رئيس جمهورية السودان ورئيس الوزراء السوداني للفترة(1958-1964 م)

النموذج الثاني: نموذج انقلاب الضباط الأحرار.. الإطار التوافقي

هو من أكثر الانقلابات تعقيدا، حيث انقلبت مجموعة من الضباط الداعمين للحكم المدني ضد نظام عسكري انقلابي، وكلاهما كان محل انقلاب عسكري يستهدف إزاحة كليهما من السلطة، مع أن أي من الانقلابات الثلاثة لم يبق في السلطة. التفاعلات التي صاحبت نموذج “انقلاب الضباط الأحرار” السودانيين لا تقف عند حدود هذا الانقلاب وعوامل نجاحه بقدر تفاعله مع عاملين اثنين أولهما الإرادة الشعبية الرافضة لحكم العسكر، وثانيهما محاولة انقلابية أخرى هدفها احتواء أثر الانقلاب الأول.

فعلى صعيد العامل الأول، أدى الثورة الشعبية الهائلة التي بدأها السودانيون في أعقاب مقتل الطالب السوداني “احمد القرشي” إثر تدخل الأمن لفض اعتصامات الطلبة في جامعة الخرطوم، وهو العنف الذي تحول لثورة واسعة مع هتافات أساتذة جامعة الخرطوم وقادة الأحزاب في تشييع جنازة الطالب “إلى الجحيم يا عبود.. إلى الجحيم يا عساكر”[26]، مع تواصل الجهود السياسية لاحتواء الموقف، غير أن المشهد العسكري شهد انقساما لاحقا بين كبار الضباط الذين ارتأوا أن يوسعوا نطاق القمع لحماية نظام “عبود” وبين صغار الضباط الرافضين لتصعيد العنف.

بدأ العراك العسكري بتدخل “الضباط الأحرار” في 28 أكتوبر 1964 عبر إصدار بيان يعلنون فيه انضمامهم للشعب من أجل استعادة الديمقراطية واستكمال المسار الدستوري، وهو ما أدى بكبار الضباط للتدخل لاعتقالهم، وتصاعدت الانتفاضة الشعبية آنذاك مطالبة بالإفراج عنهم، فأفرج الرئيس إبراهيم عبود عنهم، ودعا لحوار وطني، وقام في 30 أكتوبر بتشكيل حكومة جديدة برئاسة مساعد وزير التربية والتعليم سر الختم الخليفة، ومنح الأحزاب السياسية نصيبا واسعا في الحكومة بغية تهدئة الحراك الشعبي، وهو ما أثار حنق كبار الضباط، الذين قرروا الانقلاب على الرئيس “عبود”، وإقامة حكومة عسكرية بالكامل برئاسة “القائمقام” بشير حسن بشير، لكن زلة لسان الأميرالاي عثمان نصر عثمان في حفل استقبال للضباط العائدين من مناطق العمليات في جنوب السودان والتي كان مفادها أن الجيش سيتحرك ليسترد دوره ويدافع عن نفسه قريبا ولن يستطيع إذلاله بضعة أفندية وصعاليك، ثم قيام أولئك الضباط بتسريب كلام الأميرالاي لأهلهم وذويهم، وهو ما أدى لفشل الانقلاب.

أما عن دور الإرادة الشعبية، فإن الحديث فيها يشير لمدى التضامن والتكاتف والاتفاق الشعبي الرافض للحكم العسكري، كما سبق وأشرنا لهتاف القيادي بالحزب الوطني الديمقراطي، بشير رحمة، الذي صعد على عربة جثمان الطالب أحمد القرشي، هاتفا: إلى الجحيم يا عبود.. إلى الجحيم يا عساكر”. لكن التوافق لم يكن منطلقا من التظاهرات وتعاطف الأحزاب السياسية كلها معها، وحالة التوافق العجيبة التي بدت بين الأحزاب، والتي انضم لها كذلك حزب الأمة[27] الذي سبق له تسليم السلطة للفريق عبود، حيث زار هو وزوجته وأقاربه الطلاب الجرحى.

اتسع التوافق في فترة وجيزة ليستحوذ على كافة القوى الاجتماعية والسياسية في السودان. فقد تضامن المحامون مع الطلاب وأساتذة الجامعات، ثم سعى المحامون لاستصدار مذكرة مقدمة للرئيس “عبود” استنكارا لعنف الشرطة، وتطور الأمر لحد طلب استصدار مذكرة مشتركة مع القضاة الذين وافقوا على الفكرة، وانضم الأطباء عبر ناديهم الذي أغلق ثلاثة أيام حدادا على مقتل “القرشي” مع الأحزاب، وشرعوا في تنفيذ مسيرة لتقديم مذكرة المحامين والقضاة ومذكرة أساتذة جامعة الخرطوم التي وقع عليها نحو 140 أستاذا[28]؛ لكن المسيرة لم تحز قبول المؤسسة العسكرية. وزاد التكتل بزيارة الشخصيات الرمزية للجرحى من الطلاب، وأما الشخصيات الرمزية المتوفاة؛ فزارت زوجاتهم الجرحى، وهو ما أسهم في تبلور الاحتجاج، وتنفيذ إضراب دعت إليه “جبهة الهيئات العامة” بالخرطوم، والجبهة الوطنية لطلاب المدارس الثانوية في الخرطوم التي نظمها مدرسو المدارس الثانوية، وانضم العمال وموظفو السكك الحديدة لتشكيلات الاحتجاج وللإضراب[29].

وبعد أيام من تشكيل الحكومة الجديدة، شرعت المؤسسة العسكرية في استقبال الضباط العائدين من مسرح العمليات العسكرية في الجنوب، وحدثوهم في شأن الانقلاب حديثا غير مباشر، وأدى تسريب هذا الحديث لحالة تنادي واسعة، واستدعاء السودانيين للشارع بقوة، وفيما اقترح الإسلاميون والصوفيون استخدام مكبرات الصوت في مآذن المساجد، اقترح قادة الحزب الشيوعي اللجوء للإذاعة، ووقع اختيارهم على إذاعة “أم درمان” لوجود صلات لهم فيها، وألقى المحامي فاروق أبو عيسى بيان دعوة السودانيين للنزول للشارع. وكانت تلك الدعوة ما أدى لانهيار نظام عبود.

النموذج الثالث: نموذج انقلاب البشير: المسببات

أما النموذج الثالث بين أيدينا، فيتمثل في مسببات انقلاب 1989، الذي قاده العميد عمر حسن البشير، وسانده فيه الإسلاميون، وهو الحلف الذي استمر طيلة 30 عاما، وأورث حالة عداء واسعة للإسلاميين في أوساط الشباب المثقف، وذلك برغم الخلافات الواسعة بين الإسلاميين و”البشير”، وبرغم الانشقاقات التي حدثت داخلهم إثر علاقة التحالف هذه. فالخصوم السياسيون لا يهمهم إلا أن “إسلاميين” بقوا حتى النهاية حلفاء لنظام “المعزول” “البشير”.

على أية حال، فإن قصة التسبب في هذا الانقلاب تبدأ مع الانقلاب الذي سبقه، انقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب، والذي أعاد الحرية السياسية للبلاد بعد فترة انتقالية قوامها عاما بالتمام. حيث أجريت الانتخابات بالفعل في يوم اندلاع انتفاضة 6 أبريل 1986، واستمرت لمدة 12 يوما في أكثر من 28 ألف مركز اقتراع. لكن القوى السياسية لم تستوعب دروس ثلاثين عاما من التخبط السياسي. وطيلة الفترة ما بين الانقلابين 1986 – 1989 وهي فترة 3 سنوات وشهرين، والمعروفة بالتجربة الديمقراطية الثالثة، شهد السودان 4 حكومات تحدث عنها الصادق المهدي نفسه في كتابه، حيث ترأس الحكومات الأربع، وهي: حكومة الوحدة الوطنية مايو 1986 – يونيو 1987، والتعديل الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية يونيو 1987 – مايو 1988، وحكومة الوفاق الوطني مايو 1988 – مارس 1989، ونفس الحكومة بعد انسحاب الحزب الاتحادي مارس 1989 – يونيو 1989[30]. أي أن عمر الحكومة الواحدة خلال هذه الفترة كان نحو 9 أشهر.

عبد الرحمن سوار الذهب

ويرى مستشرقون أن الصادق المهدي قد فشل خلال هذه الفترة في تحقيق أي مما وعد به من إلغاء تشريعات سبتمبر المتعلقة بالشريعة التي انتحلها الرئيس “نميري” ليحتفظ بمقعد الحكم في تحالف مع “الجبهة الإسلامية القومية بزعامة د. حسن الترابي؛ الأمر الذي سبب انقساما في جماعة “الإخوان المسلمون”. ويتهم المستشرق “روبرت كولينز” الصادق المهدي بفقدانه بريق الشباب، ونزوعه للمواءمات، وتفضيله التوافقات على الإصلاحات، ما أدى لتفاقم المشكلات بينه وبين التيار المدني السوداني من جهة، وتفاقم المشكلات بين شمال السودان وجنوبه من جهة أخرى[31]، ثم أخيرا تفاقمت المشكلات بينه وبين الجبهة الإسلامية القومية من جهة ثالثة[32]، ما أدى لانقلاب يونيو 1989. ويبدو من نقد التجربة، ومن النقد الذاتي للصادق المهدي نفسه أن الصادق المهدي لم يكن لديه مشروع قومي يبرر به وعوده بمواجهة مشكلتي القوانين الإسلامية ويضع في إطارها تصورا لمواجهة مشكلة الجنوب، واكتفى بإدارة التوازنات بين شركائه في حكوماته، بدلا من أن يقنع شركاءه بمشروعه، ما أدى لتفاقم المشكلات، ثم انفضاض الشركاء.

ويضاف لهذا ما بدا يسري في الجيش من تذمر نتيجة للتخبط بين التأكيد على حيادية الجيش وبين محاولة تعميق صلة الصادق المهدي به، هذا فضلا عن استخدام سلاح التطهير بعد ذلك بصورة غير منصفة وتحمل أمارات الرغبة في إخضاع الجيش لنمط ولاءات طائفي، فضلا عن إهمال تسليح الجيش بالرغم من وجود تحديات في الجنوب وفي غير الجنوب، وتعيين ابن الصادق المهدي به بالمخالفة للوائح والقوانين العسكرية، وتسريب أخبار الجيش وتكتيكاته[33]. ويبدو في هذا الإطار أن معركة المهدي السياسية الحقيقية تمثلت في كسب ولاء الجيش السوداني، وأن إدارته للتوافق الوطني كانت مبنية على أساس تحييد القوى السياسية عن التدخل فيي هذه العملية، وهو ما فطنت إليه القوى السياسية في الشهور الأخيرة، فعمد اليسار لإخراج محاولة التحكم عن السيطرة، كما حرص الإسلاميون على المزايدة على “المهدي” في تحسين علاقتهم بالمؤسسة العسكرية، لإحباط التوجه نحو احتواء القوات المسلحة، التي بدأت تتذمر من محاولات التلاعب بها حتى وقعت محاولة انقلاب “حسن رغيفة” في ديسمبر 1988.

لا يمكن في هذا الإطار تجاوز الإشارة إلى أن غياب المشروع الجامع لدى المهدي أدى إلى تدهور الاقتصاد السوداني، وكانت أبرز أمارات هذا التدهور أن انخفض سعر الجنيه السوداني من أربعة جنيهات مقابل الدولار عام 1986 إلى 24 جنيها للدولار، وهو معدل بدا مقلقا للمثقفين ولرجل الشارع السودانيين على حد سواء. وارتبط بسوء التعاطي مع الملف الاقتصادي تفشي الفساد المالي والإداري لحد نهب الأموال الإغاثية التي كانت تتدفق للسودان لمواجهة أزماته الاقتصادية والمالية، فضلا عن تردي البنية التحتية، والقروة الخدمية للدولة؛ الممثلة في وسائل النقل من خطوط بحرية وسكك حديدة، بلغ الأمر معها حد بيع أسطول السودان لسداد ديون بسيطة لدول صغيرة مثل يوغوسلافيا السابقة. كما تحدث المراقبون عن تحرك العصابات ومنظمات التجسس بصورة لافتة للنظر[34].

هذه الاعتبارات جميعها جعلت انقلابا عسكريا محل توقع؛ بالنظر لثقافة السودانيين، ولم يدر السودانيون أن القادم أسوأ، وأن مآله ضياع الخبز والوقود كذلك، وهي الأسباب التي أدت للثورة على انقلاب “جبهة الإنقاذ” الذي قاده عمر البشير في 30 يونيو 1989.

البشير

خاتمة

النماذج الثلاثة التي توقفنا عندها في إطار الدراسة، تجيب على السؤال الإطاري الذي يسائل قضية الهشاشة بين الانقلابات والنخب، لتخلص الدراسة إلى عدد من النقاط تحاول الخاتمة إيجازها في عدة نقاط:

فمن جهة، نجد أن الثقافة العسكرية السودانية ثقافة متشبعة بفكرة الانقلابات العسكرية، سواء لمواجهة “أزمة وطنية”، أو لمواجهة تيار سياسي عبر دعوة تيار آخر لضربه عبر المؤسسة العسكرية، وهو أمر لابد للحركة الوطنية السودانية من استيعاب خطورة تحوله إلى ثقافة، واستيعاب مداخل التحرك لاحتواء تداعياته المستقبلية. فخلال فترة 70 عاما، شهدت السودان خلال هذه العقود السبعة 6 انقلابات ناجحة، منها 3 انقلابات ساندت حراكا شعبيا احتجاجيا قويا، هي انقلاب “الضباط الأحرار” في أكتوبر 1964 لدعم ثورة أكتوبر، وانقلاب “سوار الذهب” في 1985 لدعم “انتفاضة أبريل”، وانقلاب “2019” لدعم “انتفاضة الخبز والحرية”. أما الانقلابات الفاشلة فكانت كثيرة، وتبدأ بانقلاب عبد الرحمن كبيدة في 23 يوليو 1957، ثم انقلابات مرحلة “عبود” 3 انقلابات، وانقلابات فترة نميري 3 انقلابات، وانقلابات فترة البشير 3 انقلابات؛ منها انقلاب لا يمكن وصفه بالانقلاب، وانقلابات ما بعد “انتفاضة الخبز والحرية” 5 انقلابات بحسب تصريحات المجلس العسكري. وبحسبة بسيطة، نجد أنه خلال 70 عاما، شهدت السودان، بخلاف تمردات الحرب الأهلية مع الجنوب، نحو 19 انقلابا عسكريا، بمعدل انقلاب كل 4 سنوات، وانقلاب ناجح كل 10 سنوات.

وصلت الثورة السودانية اليوم لدرجة من الفعالية واضحة في علاقتها بالمؤسسة العسكرية، لكن ما حققته ثورة السودان اليوم ليس بجديد على السودان إلا من جهة واحدة، أن الثورة تمكنت من احتواء المؤسسة العسكرية، ومنعها من الانفراد بالحكم. ربما نجد شبيها لهذا الوضع غي ثورة أكتوبر 1964 وعلاقتها بتنظيم “الضباط الأحرار، وإن لم يكن التنظيم راغبا في الوصول للسلطة، وأفسح المجال للحقبة الديمقراطية الثانية؛ وهي الحقبة التي لم تدرها الحركة المدنية بكفاءة، ما أدى لانقلاب مايو 1969.

المدخل لاحتواء هكذا ثقافة يبدأ من إغلاق باب استدعاء المؤسسة العسكرية أية قوى أخرى لاستخدامها لتتمكن بدورها من العمل وسط الشارع لتهيئة الأجواء لاستدعاء المؤسسة العسكرية للحكم مرة أخرى. إن تجربة الحقبة الديمقراطية الثالثة تفيد بأن العمل لغلق هذا الباب لا يتم من خلال احتواء القوى المدنية الأخرى والسعي لإنتاج حالة تبعية داخل المؤسسة العسكرية للخبرة المدنية الجديدة. فهذا لم ينجح في منع محاولة انقلاب “حسن رغيفة” العسكري الطابع، ولا من انقلاب “جبهة الإنقاذ” المسيس الطابع. وفي هذا الإطار، لم يبق سوى باب التوافق.

ومن جهة أخرى، فإن أحد أهم أبعاد هذه الثقافة العسكرية في السودان، وفي غير السودان في الحقيقة؛ لكنها تكتسب بعدا مضاعفا في السودان بسبب دورية الانقلابات العسكرية، فإن أحد أبعاد الثقافة السياسية للنخبة العسكرية الفئوية تمثلت في العمل على استغلال التناقضات بين القوى السياسية المختلفة. فدعوة القوى السياسية للحوار لمسناها خلال أزمة “انقلاب عبود” فور بروز بيان “تنظيم الضباط الأحرار”، والتي أعادت إنتاج نفس النظام الجديد بأوجه حزبية متشاكسة يسهل تفتيتها لاحقا، وكانت عملية إعادة الإنتاج بحضور نخبة جديدة من العسكريين، واختلف فيها شخص رئيس الوزراء؛ فلم يعد رئيس الجمهورية هو رئيس الحكومة. واستمر ظهور هذه الفكرة حتى في آخر أيام “انقلاب البشير”، الذي دعا لنفس الفكرة، وطبقها بنفس الطريقة، وحرص على إعادة إنتاج نفس النظام بوجوه جديدة حزبية متخالفة، وكان الفارق الوحيد أن البشير قرر تولي رئاسة هذه الحكومة لما سبق وأصدره من قرار بإلغاء منصب رئيس الوزراء بعيد الانقلاب.

التلاعب بالقوى السياسية لم يأخذ شكل الجمع بين المتشاكسين فقط، فنموذج انقلاب جعفر النميري جعل “لعبة تبديل الكراسي الموسيقية” أساس علاقته بالقوى السياسية، حيث جاء للحكم بدعم من الحزب الشيوعي، وفي منتصف فترة ولايته تماما، قلب النميري ولاءه بعد المصالحة الوطنية التي تمت في يوليو 1977، والتي قبلتها “الميثاق الإسلامي” على شرط الحصول على قدر من الحرية. وتطرف نميري من النقيض للنقيض بإصداره قوانين سبتمبر 1983 الخاصة بالشريعة الإسلامية، قبل أن يقرر إلغاء قرار المصالحة، ويفض التحالف من طرفه في مارس 1985، ويلقي بالترابي وقادة حركته في السجن؛ وذلك قبيل ثلاثة أسابيع من الانتفاضة الشعبية ضده، والتي أدت إلى انقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب.

شيوع ثقافة الشره حيال السلطة، واحتقار القوى المدنية، وهو ما بدا مع زلة لسان الأميرالاي عثمان نصر عثمان خلال محاولة الانقلاب على ثورة أكتوبر 1964، هذا الشيوع دفع السودانيين لوضع فترة حكم المشير عبد الرحمن سوار الذهب في مكانة خاصة، وباعتبارها تجربة تمثل الاستثناء النادر، وهي رسالة “غير مبطنة” للنخبة السياسية التي يبدو أنها لم تستوعب حتى اليوم دلالة هذه المكانة الخاصة للعام الانتقالي 1985 – 1986.

ومن جهة ثالثة، فإن خبرة “الحقبة الديمقراطية الثالثة”، وحكومات الصادق المهدي الأربع خلالها، تفيد بأن إدارة العلاقة مع الفرقاء ليست هدفا في ذاتها، وإنما توظيف روح التوافق في إطار “مشروع سوداني شامل”. لم يكن المطلوب من حكومات الأنصار خلال الفترة ما بين 1986 – 1989 سوى العمل لحل 3 قضايا أساسية، إدارة مشكلة الجنوب لمنع تعمق الروح الانفصالية فيه، وإدارة أزمة قوانين سبتمبر على أساس يضمن تراضي الشركاء في المجتمع السوداني؛ ويمنع من استغلال المؤسسة العسكرية للشركاء الفرقاء في تدبير استدعاء سياسي للمؤسسة العسكرية، ووضع تصور لنهضة اقتصادية وأداء مالي واقتصادي سليم يوفر الرضا الشعبي عن الحكومة وأدائها، وهي القضايا التي كانت تحتاج خطة لمواجهتها بشراكة مع كل الأطراف الفاعلة في المشهد السوداني. كان حريا بحكومات الصادق المهدي أن تلح على ضرورة وضع ملامح خطة توافقية لمواجهة هذه الملفات الثلاثة بدلا من الإلحاح على الجيش بالوجود الميليشيوي الجهوي، وضرورة انضباط الجيش، وضرورة ضمان ولائه، ومحاولة الإمساك بتلابيبه عبر ابناء الصادق المهدي. وكان حريا بحكومة الصادق المهدي في هذا الإطار أن توفر كابحا للفساد بدلا من إحلال الفساد لصالح حزب الأمة محل المؤسسة العسكرية في تحصيل منافع الدولة.

التوافق ليس قبلات وأحضان وكلام معسول بين الساسة. فلا معنى له من دون موضوع للتوافق، ومحاولة تحديد المتفق عليه في إدارة هذا الموضوع مع الشروع في وضع خطة لتنفيذه، وحصر أوجه المختلف فيه، ومحاولة تشريحها بغرض توفير معالجة له في إطار إنتاج خطة لتحقيق الأهداف الثالثة أو أي منها. كان لدى الصادق المهدي الفرصة لبناء هذا التوافق طيلة عام هو تلك الفترة الانتقالية التي حددتها القوات المسلحة لتسليم الدولة للقوى المدنية. لكنه لم يفعل، وباتت خطواته موجهة لإدارة الاختلاف وليس لإدارة المشروع موضوع التوافق، وكانت النتيجة أن تعمق الخلاف وتفاقم الموضوع.

ومن جهة رابعة، يمكن بالنظر إلى حالة “انقلاب الضباط الأحرار” ضد انقلاب عبود، أن نكتشف حالة تحولت فيها القوة السياسية للثورة الشعبية الانتفاضة كما يسميها السودانيون؛ تحولت إلى حاضنة لتيار موالي للدولة المدنية داخل القوات المسلحة، وتمكنت عبر الزمن القصير من إدماج هذا التيار، ودعمه، ومن الحصول على دعمه أيضا، في مواجهة “النخبة العسكرية” ذات النزوع والوعي الفئويين. هذا النموذج غاب عن السودان وثورته خلال “انتفاضة الخبز والحرية”، التي لم تتلقف إشارات الإسلاميين طيلة فترة ما قبل الاتفاق، وهو ما سمح للمؤسسة العسكرية بالعمل على تعميق المخاوف بين الشركاء الطبيعيين والحلفاء المحتملين، وبخاصة عبر انتحال محاولات انقلابية لم يعلن عن أهدافها والقوى التي تقف وراءها وأسماء المشاركين في المحاولة ومناطق تمركزاتهم، ربما باستثناء محاولة واحدة، فيما استغلت فكرة انقلاب تراجع أصحابها عنها لتبرزها وتنشر الفيديو الخاص بالبيان رقم: 1 الخاص بها، بالرغم من أن مدبريها قرروا التراجع عنها، بحسب ما نشرته وسائل إعلام سودانية وعربية.

في هذا الإطار، عملت النخبة العسكرية “الفئوية الروية” على تحويل أي مكسب لـ “قوى الحرية والتغيير” إلى أداة كيد وتعبئة لغيرها من القوى تمهيدا لخطوات مستقبلية تحتاج شحن الأطراف المختلفة، وهكذا تقضي قواعد “علم نفس السياسة”، وبخاصة مع حدوث “تعويقات” أو “مخططات إجهادية” ترمي لتصوير الحكومة السودانية بصورة “العاجز”؛ إن لم يكن في صورة “الفاشل” [35].0


الهامش

[1] أحمد بابكر محمد الخير عبد الكريم، أسباب وتأثيرات أحداث أكتوبر 1964 على الحياة السياسية السودانية حتى عام 1969، جامعة الخرطوم، أطروحة دكتوراه غير منشورة، 2011، ص ص: 67 – 72.

[2] أحمد إبراهيم خضر، علم الاجتماع العسكري، القاهرة، دار المعارف، سلسلة علم الاجتماع المعاصر، الكتاب 35، ط: 1، 1980، ص: 263.

[3] وائل علي، ثورة أكتوبر السودانية التي أرعبت جمال عبد الناصر، مدونات الجزيرة، 18 اكتوبر 2016. http://bit.ly/30QgUW7

[4] انتصار آدم، أسباب الانقلابات في إفريقيا منذ عام 1969.. السودان أنموذجًا، جامعة الخرطوم، رسالة ماجستير غير منشورة، ص ص: 58 – 74.

[5] روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: مصطفى مجدي الجمال، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط: 1، 2015، ص ص 189 – 194.

[6] انتصار آدم، مرجع سابق، ص ص: 89 – 106.

[7] خاص، الجزيرة نت تنشر أسرار انقلاب السودان.. ماذا دار بين جنرالين في اجتماع بسيارة عسكرية؟، الجزيرة نت، 26 يونيو 2019. http://bit.ly/2HFGjdo

[8] أحمد بابكر محمد الخير عبد الكريم، مرجع سابق، ص: 70.

[9] صهيب قلالوة، 4 انقلابات و6 محاولات فاشلة.. السودان في 62 عاما، وكالة الأناضول للأنباء، 11 أبريل 2019. http://bit.ly/2LgisU3

[10] وائل علي، إشارة سابقة. http://bit.ly/30QgUW7

[11] صهيب قلالوة، إشارة سابقة. http://bit.ly/2LgisU3

[12] انتصار آدم، أسباب الانقلابات في إفريقيا منذ عام 1969.. السودان أنموذجًا، مرجع سابق، ص: 90.

[13] عادل كرار – عباس حسن أحمد، من وقف وراء خديعة ضباط حركة رمضان البواسل؟ أسرار جديدة، موقع “سودانيز أونلاين”، 27 ديسمبر 2002. http://bit.ly/2LfppEL

[14] صهيب قلالوة، إشارة سابقة. http://bit.ly/2LgisU3

[15] بكري الصائغ، بسبب فشل خمسة انقلابات: البشير في اسوأ حالاته النفسية، موقع “الراكوبة”، 31 أغسطس 2019. http://bit.ly/2zIFZpX

[16] وكالات، السودان: المجلس العسكري يعلن إحباط عدة محاولات انقلاب واعتقال عدد من الضباط، موقع “إذاعة مونت كارلو”، 14 يونيو 2019. http://bit.ly/2Py81zi

[17] عمرو محمد، محاولة انقلاب في السودان.. والمجلس العسكري يرد، صحيفة “المصريون”، 18 مايو 2019. http://bit.ly/2LhnRdD

[18] وكالات، تضارب أنباء “محاولة الانقلاب” في السودان.. موقع سعودي يؤكد وآخر ينفي، وكالة “سبوتنيك” الإخبارية الروسية، 12 يونيو 2019. http://bit.ly/2PD4AqY

[19] المحرر، السودان.. تساؤلات حول انقلاب فاشل عشية انتقال السلطة، موقع قناة “دويتشه فيله”، 12 يوليو 2019. http://bit.ly/34d6pOB

[20] المحرر، أزمة السودان: الجيش يحبط محاولة انقلاب عسكري ويعتقل قيادات على رأسها رئيس الأركان، موقع “بي بي سي” العربي، 24 يوليو 2019. https://bbc.in/2ZvfjZ5

[21] روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: مصطفى مجدي الجمال، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط: 1، 2015، ص ص: 87 – 88.

[22] أحمد بابكر محمد الخير عبد الكريم، مرجع سابق، ص ص: 38 – 41.

[23] محمد سعيد القدال، الانتماء والاغتراب.. دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، بيروت، دار الجيل، ط: 1، 1992، ص: 163.

[24] روبرت كولينز، مرجع سابق، ص ص: 89 – 90.

[25] المرجع السابق، ص: 90.

[26] شوقي ملاسي، أوراق سودانية.. مشاهدات وشهادات، الخرطوم، دار عزة للنشر والتوزيع، 2004، ص 69.

[27] أحمد بابكر محمد الخير عبد الكريم، مرجع سابق، ص: 123.

[28] أحمد بابكر محمد الخير عبد الكريم، مرجع سابق، ص ص: 139 – 140.

[29] المرجع السابق، ص ص 150 – 154.

[30] الصادق المهدي، الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة، القاهرة، مكتبة جزيرة الورد، ط: 2، 2015، ص ص: 56 – 68.

[31] روبرت كولينز، مرجع سابق، ص ص: 195 – 196.

[32] الصادق المهدي، مرجع سابق، ص ص: 18 – 19.

[33] انتصار آدم، مرجع سابق، ص ص: 91 – 93.

[34] انتصار آدم، مرجع سابق، ص ص: 100 – 106.

[35] الآراء الواردة تعبر عن أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن المعهد المصري للدراسات.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close