fbpx
ترجمات

ناشيونال إنترست: طريق السودان إلى المجهول

نشرت مجلة ذا ناشيونال إنترست الأمريكية في 31 ديسمبر 2023 مقالاً بعنوان: “طريق السودان إلى المجهول”، للباحثة ندى واني، والتي ترى أنه لا يبدو في الأفق أي علامات على قرب نهاية الحرب الأهلية التي اندلعت في شهر إبريل 2023 بين الجنرالين المتنافسين: الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي؛ و الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

“العسكر إلى الثكنات والجنجويد ينحل”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع التي انبثقت عن ميليشيات الجنجويد .. هكذا هتف المتظاهرون السودانيون الذين كانوا قد غمروا شوارع البلاد في ديسمبر قبل خمس سنوات في مثل هذا الشهر. حيث ارتفعت عقيرة النساء والرجال بالهتافات إلى عنان السماء، واختلطت مع دخان الإطارات المحترقة خلفهم. ورفعوا علم السودان عالياً أو لفوه على ملابسهم. وكانوا يحملون في أيديهم قطعاً ملونة من الورق والكرتون عليها شعارات كُتبت بخط اليد. ووسط الهواء الخانق الناتج عن الغاز المسيل للدموع الذي كان يُطلق عليهم بلا هوادة، كانت أصداء هذه الكلمات تتردد في الشوارع.

وها هو السودان يقف مرة أخرى على مفترق طرق سياسي آخر منذ استقلاله قبل ثمانية وستين عاماً وبعد خمس سنوات من ثورة 2019 التي أسقطت عمر البشير.

فبعد خروج ملايين السودانيين إلى الشوارع لعدة أشهر منذ شهر ديسمبر 2018 للمطالبة بإسقاط حكم البشير الذي دام ثلاثة عقود، أطاح الجهاز العسكري للبشير بصاحبهم من السلطة في إبريل 2019، تحت الضغط الشعبي. وفي سبتمبر 2019، تولت حكومة انتقالية جديدة السلطة كجزء من اتفاق لتقاسم السلطة مدته ثلاث سنوات بين الجيش والتحالف المدني. وفي أكتوبر 2021، استولى الجيش على السلطة بشكل كامل مرة أخرى في انقلاب قام به، وحل على إثره الحكومة واعتقل كبار المسؤولين، بما في ذلك رئيس الوزراء عبد الله حمدوك. وفي ديسمبر 2022، وقّع جنرالات السودان وائتلاف القوى المدنية الكبرى المؤيدة للديمقراطية على اتفاق إطاري لإنهاء الحكم العسكري واستعادة الحكومة التي يقودها المدنيون لفترة انتقالية مدتها عامين تسبق الانتخابات. وعارضت العديد من القوى السياسية والمدنية السودانية الاتفاق واستمرت في الاحتجاج عليه.

لكن اندلاع القتال في إبريل بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع هو صراع من نوع آخر على السلطة والموارد والامتيازات السياسية والاقتصادية، والذي نشأ من رحم حالة اللامساواة السياسية والاقتصادية والعسكرية والإقليمية المتجذرة في الدولة السودانية. وبعد الانفصال عن أنماط التفكير والمعايير التي قيدت وشكل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة منذ الاستقلال والدفع ضد تيارات الأوليجاركية (حكم الأقلية) السياسية التقليدية، بدأت القوى الثورية السودانية في وضع التصورات والعمل بشكل عملي على بناء نظام جديد يهدف إلى إحداث تغيير سياسي ذي معنى نحو الديمقراطية.

وكان لهذا المشروع السياسي، كما تصورته القوى الثورية السودانية، مظاهر مختلفة طوال الفترة الانتقالية. وكان من أقوى الأشكال التي اعتمدتها هو تطوير المواثيق السياسية للجان المقاومة.

كانت الرؤية السياسية للقوى الثورية السودانية واضحة منذ البداية، وتجلت بطرق وأفعال مختلفة. خلال الاحتجاجات – وعلى الرغم من الجهود التي بذلها نظام البشير لإعادة صياغة قوات الدعم السريع كشركاء قانونيين للجيش – من المهم معرفة أن المتظاهرين عمدوا إلى عدم الإشارة أبداً إلى هذه القوات شبه العسكرية في شعاراتهم إلا تحت عنوان “الجنجويد”، مما أحبط الأهداف المحسوبة لقائد هذه القوات محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي أنفق الكثير من الأموال وشارك في الكثير من أنشطة العلاقات العامة لإعادة اكتشاف نفسه وقواته.

وحتى قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021، والخلافات حول الاتفاقية الإطارية، والصراع حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وقضايا “القيادة والسيطرة” العسكرية، لم تكن هناك ثقة بين قائد الجيش وقائد قوات الدعم السريع. وكانت العلاقة بينهما مبنية على المصالح السياسية والمالية المترابطة، والمخاوف المشتركة، والانتهازية، واستغلال كل منهما لنقاط القوة والمزايا التي يتمتع بها الطرف الآخر.

ووسط ذلك، كانا يمارسان تنافساً ناعماً، غير جلي في كل المواقف، يتخذ أشكالاً مختلفة. وكان كلاهما يبنيان رأس مالهما السياسي بهدوء داخل البلاد. وحاول الفريق أول عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة السودانية، تأمين قاعدة اجتماعية أقوى داخل الجيش لا تقتصر على عناصر النظام السابق والإسلاميين. وفي الوقت نفسه، سعى حميدتي إلى شراء الدعم له من الجماعات المدنية والمهنية. وكانت أعينهما على الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تلي الفترة الانتقالية. كما أعربت المنافسة بينهما عن نفسها في علاقاتهما وارتباطاتهما الخارجية. فكلا الرجلين، على سبيل المثال، حاولا الحفاظ على علاقات مع الحكومة الإسرائيلية.

لقد تم التقليل من أهمية طبيعة هذا التنافس المحتدم إلى حد كبير من قبل العديد من النخب السياسية السودانية ومعظم المجتمع الدولي. وركّز أعضاء المجتمع الدولي الغربي الذين تعاملوا مع السودان خلال معظم الفترة الانتقالية في الغالب على إنقاذ صيغة تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين. وفي الوقت نفسه، فشلوا في إجراء تقييم صحيح للتيارات الخفية بين الرجلين ومؤسستيهما العسكرية اللهم إلا بعد فوات الأوان. وقال مصدر مقرب من الجيش: “كان حميدتي يتحدث عن البرهان بطريقة مهينة للغاية داخل دوائره”.

والأهم من ذلك، أن العديد من الرتب المتوسطة والدنيا في الجيش لم تكن راضية عن قوات الدعم السريع منذ تشكيلها. ومنذ الفترة الانتقالية، كان غضب القيادة العليا للجيش السوداني يتزايد بشكل مطرد تجاه الجهود التي يقوم بها حميدتي لتعزيز وضعه السياسي والاقتصادي وتوسيع علاقاته الخارجية.

لكن الأهم من تطور العلاقات بين الرجلين هي العوامل البنيوية المتعلقة بالدور التاريخي للمؤسسة العسكرية في النظام السياسي والاقتصادي في السودان، ودستور النخبة السياسية في البلاد، وطبيعة علاقات هذه النخبة مع المؤسسة العسكرية وتصوراتهم للسلطة.

أصبحت الأنماط المختلفة للتجنيد والتحشيد واضحة بعد اندلاع الصراع في 15 إبريل بين المؤسسة العسكرية وقوات الدعم السريع. فمنذ بداية الحرب، انضمت العديد من المجتمعات المحلية والمجموعات الاجتماعية طوعاً إلى كل جانب. يقول محمد، وهو شاب في السادسة عشرة من عمره من غرب السودان: “لقد انضم جميع الرجال تقريباً في عائلتي وقريتي إلى القتال مع حميدتي. وقد توقف أبناء عمي عن التحدث معي وقطعوا أي علاقة معي لأنني لم أذهب معهم إلى القتال”.

وبصرف النظر عن هذه الإجراءات ذات الدوافع الذاتية، فقد حدثت تعبئة جماهيرية للمواطنين. وقالت مصادر أيضاً إن بعض القبائل غير العربية في دارفور يتم تدريبها بعد الفظائع المريعة والهجمات الجماعية على أساس عرقي التي ارتكبتها قوات الدعم السريع هناك.

وبعد أن اقتحمت قوات الدعم السريع مدينة ود مدني (جنوب شرق العاصمة الخرطوم) دون منازع وانغمست في مسارها المعتاد من القتل والاغتصاب والتعذيب والنهب وتدمير البنية التحتية المدنية، انطلقت دعوات أكثر حدة للتعبئة. وقد أعلن القائمون بأعمال المحافظين وكبار المسؤولين في مختلف الولايات والمدن (على سبيل المثال، ولاية نهر النيل، ومروي في الولاية الشمالية، والقضارف في الشرق) استعدادهم لدعم القوات المسلحة السودانية من خلال المتطوعين المدنيين في الولايات.

وفي الوقت نفسه، تقول المصادر إن عناصر النظام السابق والإسلاميين قاموا بتعبئة أعضائهم على نطاق واسع للقتال ضد قوات الدعم السريع. وأكد مصدر مطلع على الأمر أن هؤلاء “يشعرون بتهديد وجودي خطير ومقتنعون بأن قوات الدعم السريع تمثل الخطر الأقوى على وجودهم داخل الدولة السودانية”.

ومن المهم أن نتذكر هنا أن النظام السابق قام بتأسيس وتدريب عدد من المدنيين السودانيين عسكرياً لسنوات تحت مسميات مختلفة، مثل قوات الدفاع الشعبي. ولا يزال هؤلاء الأفراد موجودين، ويتم تدريبهم على استخدام الأسلحة النارية، ولديهم خبرة قتالية سابقة منذ أن قاتلوا مع الجيش في حرب جنوب السودان.

وبعض المفردات اللغوية المستخدمة في عملية التعبئة والقتال هذه تم صياغتها بالفعل لتكون مطعّمة بمصطلحات دينية قوية. ويُظهر التاريخ في السودان والمنطقة كيف ترتبط الأجندات الدينية في كثير من الأحيان بالقضايا المحلية والإقليمية، وكيف تتغير طبيعة المعارك السياسية والغرض منها عندما يحدث ذلك.

وفي الوقت نفسه، فإن القبول المستمر للعديد من المجندين من مختلف الفئات الاجتماعية والمجتمعات المحلية يخلق مشاكل تتعلق بالقدرة التنظيمية والرقابة الداخلية لقيادة قوات الدعم السريع. وأولئك الذين ينضمون إليها لديهم أجنداتهم ومصالحهم الخاصة.

ومن ناحية أخرى، فبعد سيطرتها على ود مدني قد تتقدم قوات الدعم السريع إلى مناطق أخرى في البلاد، وذلك بشكل أساسي لتعزيز موقفها التفاوضي في أي محادثات مستقبلية.

وعلى الرغم من اهتمام زعيم ميليشيا الدعم السريع بالتقدم إلى شرق السودان، على سبيل المثال، إلا أن هذه الخطوة تواجه العديد من التحديات. حيث قال أحد المصادر “إنها ليست مهمة سهلة عسكرياً. فإن الانتقال من معركة إلى أخرى يتطلب الكثير من الاستعدادات، من حيث المعلومات والإمدادات والخدمات اللوجستية. عليك أيضاً أن تكون على يقين من أن مؤخّرة قواتك مؤمَّنة تماماً”.

وأضاف المصدر: “لذلك قد يكون من الصعب في الوقت الحالي على قوات الدعم السريع أن تشن معركة كبيرة تغير الوضع العسكري بشكل استراتيجي داخل مدن مثل بورتسودان، لكن يمكنهم استخدام التكتيكات العسكرية لزعزعة استقرار المنطقة – على سبيل المثال، باستخدام جيوب قواتهم. ومع ذلك، فلا يزال هذا الأمر ممكناً.”

وفي ولاية البحر الأحمر، قام القائم بأعمال الوالي بتفقد المواقع والمواقع العسكرية. وأكد في تصريحات له أن “السودان لن يتعرض للهجوم عبر ولاية البحر الأحمر”، مؤكدا أن الخطة الأمنية تقضي بإغلاق كافة “المداخل والمخارج للولاية”.

على مستوى آخر، وإدراكاً منها للضرر الذي لحق بصورتها بسبب سيطرة قوات الدعم السريع دون عوائق على ود مدني، سارعت القوات المسلحة السودانية إلى تصميم حملة إعلامية منسقة لمعالجة روايات “الخيانة” أو “عدم الكفاءة” داخل صفوفها. وتحذر رسائل كبار قادة الجيش ووسائل الإعلام الخاضعة له من “الأعداء الذين يدقون إسفينا بين الشعب والجيش”.

وفي الوقت نفسه، هناك عدد من التقارير التي تتهم القوات المسلحة السودانية وجهاز المخابرات العسكرية التابع لها باعتقال أو قتل أفراد “على أساس العرق” في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وتتهمهم بأنهم “خلايا نائمة” لقوات الدعم السريع. وبالإضافة إلى ذلك، اعتقلت المخابرات العسكرية أيضاً بعض نشطاء المجتمع المدني السوداني الذين يقومون بأعمال إنسانية تطوعية.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close