fbpx
ترجماتمجتمع

المجلس الأطلسي: مصر تقتل تاريخ “مدينة الموتى”

نشر المجلس الأطلسي، وهو مؤسسة بحثية أمريكية غير حزبية،  في 7 سبتمبر 2023، مقالاً بعنوان: “مصر تقتل تاريخ مدينة الموتى”، لشهيرة أمين، نائب رئيس قناة النيل المصرية الأسبق، وكبير الباحثين في المجلس الأطلسي، حيث تقول إنه “مع نفاد صبر المصريين إزاء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والظروف المعيشية الصعبة، فإن آخر ما تحتاجه الحكومة هو إثارة قضية أخرى تؤجج غضب الشعب”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

لقد كانت مدينة الموتى في القاهرة – وهي مقبرة شاسعة تعود إلى العصر الإسلامي وتقع عند سفح هضبة المقطم، على مسافة قصيرة، سيراً على الأقدام، من قلعة القاهرة – كانت حتى وقت قريب، موقعاً لدفن الموتى، حيث يضم أيضاً مجموعة رائعة من الأضرحة والمقابر التاريخية. ويعود تاريخ بعض المقابر الموجودة في المجمع إلى العصر المملوكي، من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر. وجزء آخر من مدينة الموتى هو بمثابة المثوى الأخير للعلماء والشخصيات الثقافية والحكام وأفراد العائلات المالكة والنخبة في مصر.

والآن، فقد تحول جزء كبير من مدينة الموتى إلى أنقاض مع استمرار عمل الجرافات في هدم الأضرحة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت وتسويتها بالأرض. وهذا جزء من خطة حكومية لما تُطلق عليه “تحديث القاهرة” وإفساح المجال للطرق والجسور بهدف ربط قلب القاهرة بـ “العاصمة الإدارية الجديدة“، والتي هي قيد الإنشاء حالياً في الصحراء – حوالي اثنين وعشرين ميلاً (خمسة وثلاثين كيلومتراً) شرق المدينة المزدحمة.

ومنذ توليه منصب الرئاسة رسمياً في عام 2014، أنفق الجنرال عبد الفتاح السيسي أكثر من 500 مليار دولار على مشاريع التنمية الحضرية التي تشمل بناء العاصمة الجديدة والمدن الذكية وشبكات الطرق الواسعة، مما جعل تطوير البنية التحتية سمة مميزة لحقبته. وبينما يشِيد المؤيدون للسيسي بإصلاح البنية التحتية على مستوى البلاد باعتباره أمراً ضرورياً جاء في الوقت المناسب، يرفض المنتقدون له مشاريع الزهو والافتخار العملاقة تلك التي يشيدها السيسي، حيث يحتجون بأنها جاءت بتكلفة باهظة بالنسبة للمصريين. ويشير المتشككون أيضاً إلى أن تلك المشاريع تمثل عملاً مربحاً للمقاولين العسكريين الذين ينفذون الجزء الأكبر من أعمال البناء. وفي الوقت نفسه، يُصرّ السيسي على أن دور الجيش في هذه المشاريع هو مجرد دور “إشرافي”.

وأثارت عمليات الهدم المستمرة لمقابر حقبة العصور الوسطى صرخة احتجاج من المواطنين المحافظين، بل وعموم المواطنين، الذين أعربوا عن أسفهم لمحو تراثهم الثقافي وجزء من تاريخهم. ومع ذلك، فإن تلك الصرخات لم تجد آذاناً صاغية، حيث يستمر تدمير الموقع التراثي بلا هوادة.

ودافعت الحكومة عن خطتها للتحديث، وأصرت على القول بأن تطوير شبكات الطرق وإزالة المناطق العشوائية يصب في المصلحة العامة. كما تُصرّ على أن الآثار في القاهرة التاريخية، وهي أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو حيث تقع مدينة الموتى، ستبقى سليمة. لكن المعنيين بالمحافظة على التراث الثقافي غير مقتنعين بذلك. ويحذّرون من أن العديد من الأضرحة التاريخية في مدينة الموتى غير مسجلة كآثار، مما يعرضها لخطر الهدم. ويطالبون بحماية القاهرة التاريخية والحفاظ عليها بسبب أهميتها التاريخية وقيمتها المعمارية، ويقترحون تطويرها كمنطقة جذب سياحي.

وكانت عمليات الهدم، التي بدأت في عام 2020، قد توقفت لعدة أشهر بعد تفجر الغضب من النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي المصرية. وفي مايو 2022، اتخذت الحكومة قراراً بهدم مقبرة طه حسين، وهو كاتب ومفكر مؤثر عاش في القرن العشرين ويُلقب شعبياً بـ “عميد الأدب العربي”، من أجل السماح بإنشاء جسر علوي يربط الطريق الدائري في القاهرة بالعاصمة الإدارية الجديدة. لكن ذلك أدى إلى رد فعل عنيف من الناشطين.

ورضوخاً لضغوط المهتمين بالمحافظة على البيئة، ألغت الحكومة قرارها المثير للجدل بهدم ضريح طه حسين. لكن المقبرة تعرضت لأضرار بسبب بناء الجسر الجديد، الذي يلوح الآن من فوقها، مما يخلق منظراً خرسانياً قبيحاً آخر. وتُعد الجسور التي انتشرت في جميع أنحاء البلاد لسنوات من السمات المميّزة لما يُطلق عليه، “جمهورية السيسي الجديدة“، في حين تم قطع العديد من أشجار الشوارع لتمهيد الطريق أمام مشاريع بناء الطرق الضخمة. كما تم إزالة الحدائق العامة بشكل ممنهَج لتوفير مساحة لإنشاء الكافيتريات ومواقف السيارات.

ومؤخّراً، دقّت أمنية عبد البر، وهي مهندسة معمارية متخصصة في الحفاظ على التراث الثقافي وتوثيقه، دقّت ناقوس الخطر، معلنة عبر حسابها على موقع إكس، المعروف سابقاً بتويتر، أن الجرافات عادت من جديد إلى الموقع التراثي. ونشرت أمنية عبد البر صورة لرافعة شوكية تتربص بشكل مشؤوم فوق ضريح مزخرف بالخط العربي الدقيق، وناشدت عبد البر المساعدة في وقف عمليات الهدم.

وغردت أمنية عبد البر في 23 أغسطس: “النجدة! مخلوقات لا إنسانية تدمر تراثنا”. ومن المرجح أن نصيحتها كانت موجهة إلى دعاة الحفاظ على البيئة والمجتمع الدولي. وبعد أيام قليلة، تخديداً في 28 أغسطس، نشرت أمنية عبد البر على موقع إكس، تويتر سابقاً، أن أربعة أعضاء من اللجنة الدائمة المكلفة بتوثيق المباني الأثرية والتراثية ذات القيمة المعمارية المتميزة والأهمية التاريخية قد استقالوا احتجاجاً على تدمير الأضرحة في منطقتي الإمام الشافعي والسيدة نفيسة.

وفي الحادي والثلاثين من أغسطس، قدّم أيمن ونس، أستاذ التخطيط العمراني بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري ورئيس لجنة منطقة شرق القاهرة، استقالته إلى محافظ القاهرة اللواء خالد عبد العال، مشيراً إلى أن هدم الأضرحة التاريخية تنتهك القانون رقم 144 لسنة 2006، الذي يحمي المباني التي تم جردها بسبب قيمتها المعمارية المتميزة أو أهميتها التاريخية. وفي اليوم التالي، تراجع ونَس عن استقالته، مشيراً على صفحته على فيسبوك إلى أن نقاد النظام استخدموها “لمهاجمة جهود الدولة الحثيثة والمستمرة لتطوير وتحسين البنية التحتية وحياة المواطنين، وهو ما لم يكن هدفي ولا مقصدي”.

كما أعربت منظمة اليونسكو، المعنية بحماية التراث الثقافي والطبيعي في جميع أنحاء العالم والحفاظ عليه، عن قلقها إزاء عمليات الهدم. وفي تصريح لصحيفة ذا ناشيونال، قالت وكالة الأمم المتحدة إن خبراءها على اتصال بالسلطات المصرية “للتوفيق بين مشاريع التنمية الحضرية المخطط لها والحماية اللازمة للتراث العالمي، بما يتماشى مع التزامات مصر الدولية”.

وفي محاولة لإنقاذ ما في وسعهم من هذه الآثار الثمينة، نظمت مجموعة من المؤرخين والمهتمين بالمحافظة على البيئة وعشاق التراث الثقافي زيارات أسبوعية إلى مدينة الموتى. حيث يلتقطون صوراً لتوثيق مشاهد الدمار ويدققون في الأنقاض بحثاً عن أجزاء متناثرة من شواهد القبور القديمة وغيرها من القطع ذات الأهمية التاريخية.

ويُظهر مقطع فيديو نُشر على الإنترنت على صفحة فيسبوك لحسام عبد العظيم، مؤسس مجموعة تسمى “شهود مصر”، جرافة تهدم سبيل ماء – وهو مبنى صغير (على شكل كُشك) معروف في التقاليد المعمارية الإسلامية، حيث يتم توزيع المياه للجمهور – كان به وقفت في باحة المقبرة التي دُفن فيها الأمير إبراهيم حلمي، ابن الخديوي إسماعيل (1863 إلى 1879) والأخ غير الشقيق للملك السابق فؤاد الأول، ملك مصر اللاحق. ويظهر في الفيديو شباب يبحثون بين أكوام الحطام عن قطع من لوحة رخامية محطمة عليها نقش بالخط الكوفي ويحاولون إعادة تجميع الآثار.

أطلقت جليلة القاضي، المؤلفة والأستاذة الفخرية للتخطيط الحضري والهندسة المعمارية المقيمة في باريس، – بالتعاون مع مجموعة من المخططين الحضريين والمهندسين المعماريين والناشطين – مناشدة تطالب الحكومة بوقف هدم المقابر في القاهرة التاريخية. وتؤكد جليلة القاضي في مناشدتها أيضاً على أن “مطالب الصالح العام يجب ألا تأتي على حساب التراث الثقافي المصري”. كما تقوم المجموعة بحملة قوية ضد خطة وزارة الإسكان لنبش القبور في الموقع وحمل الأسر على نقل رفات أحبائها المدفونين هناك إلى مقبرة جديدة في منطقة العاشر من رمضان على مشارف القاهرة.

وكانت عشرات العائلات قد تلقت، في الأشهر الأخيرة، مكالمات أو رسائل من الحكومة تطالبهم بنقل رفات أحبائهم المتوفين من مقابر الإمام الشافعي في مدينة الأموات إلى مقبرة جديدة. ولم يكن لدى الكثيرين خيار سوى الامتثال لذلك. وقد تقدم البعض بشكاوى قانونية إلى النيابة العامة ولكن دون جدوى. وقام آخرون ممن لم يتلقوا هذا الاتصال المخيف بنبش قبور أفراد عائلاتهم المتوفين خوفاً من تسوية قبورهم دون إشعارهم مسبقاً بذلك.

والخقيقة أن مخاوفهم ليست بلا أساس تماما. ومن المقرر تدمير ألفي مقبرة ضمن خطة الحكومة لإفساح المجال أمام توسعة كوبري “ياسر رزق”. وقال حسام عبد العظيم إنه في غمرة الاندفاع لتمهيد الأرض لأعمال البناء، حدثت “أخطاء”، وتمت تسوية بعض الأضرحة بالأرض، رغم أنه المطورين لم تُوضع عليها علامة (X) باللون الأحمر – وهي علامة تشير إلى أنه من المقرر هدمها.

ولم ينج أفراد العائلة المالكة الأساسية في مصر أيضاً. فبعد مرور خمسة وثلاثين عاماً على وفاتها، تم استخراج رفات الملكة السابقة فريدة، الزوجة الأولى للملك فاروق، في فبراير الماضي، ثم تم نقلها من مقبرة الإمام الشافعي إلى مسجد الرفاعي، حيث دُفن زوجها الراحل وبناتها. وقد حدث هذا فقط بعد أن علم أفراد الأسرة الذين لا زالوا على قيد الحياة أن قبرها كان من بين تلك القبور التي كان من المقرر هدمها.

أثار الدمار الذي خلفه المطورون الحضريون وراءهم مشاعر الاستياء المرير بين دعاة الحفاظ على البيئة والناشطين على حد سواء. وتُلخص تغريدة نشرها عمرو علي، الكاتب والأستاذ المساعد السابق لعلم الاجتماع في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في 28 أغسطس، هذه المشاعر، حيث يقول: “هذا هو مستوى الجشع الأعمى، والأنانية، والإفلات من العقاب، الذي يمكن أن يتطلبه تدمير تراثك الجميل في الوقت الذي لم تجرؤ فيه الحروب الخارجية والمساعي الاستعمارية على المساس به.

وأعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن مصير الآلاف من الأسر ذات الدخل المنخفض التي تعيش وتعمل بين المقابر منذ عقود، وتعتمد على صدقات يهبها لهم أقارب الموتى لإعالة أسرهم. إن تدمير المقابر يعني أن تلك الأسر الفقيرة يجب أن تبحث عن سكن بديل ومأوى ووسائل أخرى للبقاء على قيد الحياة.

ومنذ الثاني سبتمبر، توقفت عمليات الهدم في منطقة الإمام الشافعي، وتم إغلاق الموقع التراثي أمام الزوار – بما في ذلك دعاة الحفاظ على البيئة – وسط تواجد أمني مكثف في المنطقة، وفقاً لموقع “مدى مصر” الإخباري. كما تم أيضاً طلاء أو إزالة العلامات الحمراء الموجودة على جدران الأضرحة المقرر هدمها. ومن المرجح أن تكون هذه التحركات نتيجة العاصفة التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي حول حملة أعمال التدمير التي تقوم بها الحكومة. ومع ذلك، فمن السابق لأوانه معرفة ما إذا كان المسؤولون قد غيّروا رأيهم بشأن عمليات الهدم أو ما إذا كانوا ينتظرون أن يتبدد الغضب قبل استئناف تدمير القاهرة التاريخية.

وستكون الاستراتيجية الأخيرة (استئناف الهدم) خاطئة، وسيكون من الحكمة أن تستجيب الحكومة لدعوات النشطاء لوقف هدم مدينة الموتى بشكل دائم. ويتعين على السلطات أن تنتبه إلى دروس الماضي، عندما نظم فنانون ومثقفون اعتصاماً في وزارة الثقافة عام 2013 احتجاجا على “تزايد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين على الفنون”. وكان هذا في نهاية المطاف بمثابة مقدمة لاحتجاجات 30 يونيو 2013 (التي استُخدمت كمسوّغ للانقلاب العسكري) ومن ثَمّ الإطاحة بالحكومة السابقة.

إن آخر ما تحتاجه الحكومة هو إثارة قضية أخرى تؤجج غضب الشعب، في ظل نفاد صبر المصريين إزاء الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والظروف المعيشية الصعبة للناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close