fbpx
دراساتمجتمع

تفكيك اﻹعلام المصري في عهد السيسي

تناولت عشرات التقارير والتحليلات الصحفية عملية إحكام سيطرة النظام المصري على الإعلام التقليدي بصوره المختلفة ومن خلال آليات متعددة تتراوح بين الضغط على المؤسسات الإعلامية لتلتزم بالرسالة الموحدة التي يرغب النظام في ألا يتاح للجمهور غيرها، وبين الاستيلاء المباشر على مؤسسات إعلامية قائمة وإنشاء أخرى من قبل أجهزة سيادية تابعة للدولة ويديرها ويشرف عليها أشخاص مقربون من الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه.

وفي حين اعتنت هذه التقارير والتحليلات بأثر هذه العملية المباشر على إطلاع الرأي العام المصري على حقيقة ممارسات النظام وسياساته المختلفة وبخاصة انتهاكاته الحقوقية التي تعد الأسوأ في تاريخ مصر المعاصر، فإن أيا منها لم يتعرض بشكل تحليلي لأثرها في المدى البعيد على الإعلام نفسه كأحد الأنشطة الرئيسية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة. من جانب آخر انشغلت تقارير وتحليلات كثيرة بالخطاب الإعلامي الموالي ورموزه البارزين وبشكل خاص بتدني لغة وممارسات هؤلاء دون الاهتمام بالآليات المنتجة لهذا الخطاب والتي ليست بالضرورة متعلقة بموقف دعم نظام ديكتاتوري، فتاريخ اﻹعلام قد شهد مستويات وصور مختلفة ومتباينة للخطاب الموالي للديكتاتوريات ولم تكن جميعها متدنية في لغتها أو تفتقد إلى مظاهر المهنية حتى في نقلها وترويجها لأكاذيب الأنظمة ومشاركتها في إخفاء الحقائق. وتسعى هذه الورقة إلى محاولة اﻹسهام في سد هذه الفجوة بتوسيع مدى رؤيتها لتشمل خطا زمنيا أكبر يمتد يتجاوز أفق يناير 2011 في الماضي ويحاول تجاوز أفق اللحظة الحاضرة ليستشرف المستقبل في مداه القريب والمتوسط.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أولية مؤداها أن واقع الإعلام بمعناه الواسع، أي كوسيط ﻹتاحة المعلومات، في عصر شبكة اﻹنترنت، أصبح أكثر تعقيدا من أن ينظر إليه فقط من خلال المؤسسات الإعلامية التقليدية. بل إن تصورنا لما تعنيه حرية الوصول إلى المعلومات أصبح في حاجة إلى إعادة النظر فيه. وبصفة خاصة لم يعد باﻹمكان افتراض أن إطلاق حرية التعبير ملازم ومتوافق دائما مع حرية الوصول إلى المعلومات. ففي الوضع الحالي أصبح المتابع العادي معرضا لسيل متواصل من الرسائل الخبرية والمعلوماتية من عدد لا نهائي من المصادر، وإذا ما غاب أي معيار موضوعي للاختيار بين هذه المصادر فالتوجه الطبيعي لكل متابع هو أن يميل إلى الرسالة الخبرية والمعلوماتية التي تتوافق مع توجهاته وأحكامه المسبقة، بغض النظر عن مدى قرب هذه الرسالة من الواقع. وإذا ما كان الحق في الوصول إلى المعلومات يفترض في هذه المعلومات الصحة فإن هذا الوضع الذي يخلو من المعايير الموضوعية لاختيار مصادر للمعلومات أقرب إلى الصحة يقوض هذا الحق من الأساس.

حتى الآن لا تزال المؤسسات الإعلامية التقليدية وحدها هي من تملك مقومات تقديم رسالة إعلامية أقرب إلى الصحة. ولكن توافر هذه المقومات لا يعني بالطبع أن الرسالة الإعلامية لهذه المؤسسات صحيحة. كل ما هناك أن استمرار احتفاظ المؤسسات الإعلامية التقليدية بمعيار موضوعي تفضيلي مقارنة بالمصادر الأخرى للمعلومات لا يزال شرطا لـ ألا تسود الفوضى التامة اختيار هذه المصادر فيصبح تحقق حرية الوصول إلى المعلومات أقرب إلى المستحيل. في الوقت نفسه أثبتت التجارب السابقة أن المؤسسات الإعلامية في العصر الحالي لا يمكنها الاحتفاظ بالأفضلية على غيرها من المصادر إن لم تحقق قدرا من التوازن بين حرية التعبير وبين المهنية، فإذا افتقدت المؤسسة الإعلامية أيا من هذين الطرفين أو لم تنجح في تحقيق التوازن بينهما فقدت مع ذلك أية أفضلية لها مقارنة بالمصادر غير التقليدية المتاحة اليوم.

هناك إذن حاجة إلى المؤسسات الإعلامية التي نسميها تقليدية مقارنة بالمصادر الخبرية التي تتيحها مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي عبر شبكة اﻹنترنت. ولنكن أكثر تحديدا؛ فثمة حاجة للمجتمعات المعاصرة إلى إعلام مؤسسي، سواء كان يقدم إلى جمهوره بالشكل التقليدي من خلال الصحف الورقية ومحطات الإذاعة والتليفزيون ذات البث المباشر، أو من خلال مواقع إلكترونية تقدم موادا إعلامية من خلال شبكة الإنترنت. الفيصل هو في الواقع المؤسسية، أي أن يقف وراء الرسالة الإعلامية مؤسسة لها موارد تضمن توفير فرص عمل لمشتغلين بمهنة الصحافة واﻹعلام بما يسمح لهؤلاء ببناء مهاراتهم وقدراتهم التي تتطلبها مهنتهم، ومن ثم يمكنهم تقديم خدمة إعلامية مهنية إلى جمهورهم تختلف بوضوح عن غيرها من مصادر المعلومات المتاحة له.

في مصر اليوم يعاني اﻹعلام المؤسسي من انحسار قدرته على اجتذاب الجمهور، ومن تشابه رسالته اﻹعلامية بتلك التي تتيحها مصادر غير مؤسسية أو مهنية، كما أن مصداقيته لا تتميز بأي حال عن هذه المصادر كونه طرف في التجاذب السياسي مما يجعله غير مؤهل لادعاء تقديم معلومة موثوقة إلى جمهوره. وفي حين توضح هذه الدراسة أن ممارسات النظام الحالي تجاه اﻹعلام المستقل عن الدولة نظريا لكونه مملوكا ملكية خاصة، ذات أثر بالغ على وضعه في هذه الأزمة فإنها تحاول إيضاح أن ﻷمراض هذا الإعلام جذور أعمق تعود إلى المراحل السابقة من تجربة الإعلام المستقل منذ عودته في بداية الألفية، كما تحاول أن توضح أن كثيرا من عوامل تدني موثوقية ومصداقية ما يقدمه هذا اﻹعلام قد تشكلت في مرحلة سابقة على انقلاب 3 يوليو 2013، وكانت إلى حد كبير عاملا مساعدا على سهولة احتواء النظام الحالي له دون بذل جهد كبير.

تتبع هذه الورقة اﻹعلام المصري المستقل عن الدولة منذ عودته إلى الظهور في مطلع الألفية عبر ثلاث مراحل، الأولى تمتد منذ هذه العودة وحتى اندلاع ثورة 25 يناير 2011، والثانية تشغل سنوات الثورة وحتى انقلاب الثالث من يوليو 2013، والثالثة والأخيرة تمتد منذ الانقلاب وحتى اليوم. وتتبع الورقة بشكل مختصر ديناميكيات العلاقة بين السلطة وهذا اﻹعلام المستقل وأثرها على الرسالة اﻹعلامية له وعلى قدر ما تمتع به من حرية وفي نفس الوقت قدر ما حققه من مهنية وجاذبية للجمهور وإمكانية للتطور ومواكبة العصر وتحدياته.

الإعلام في هامش الحرية

ولدت الصحافة المصرية من رحم الدولة المصرية الحديثة. ولكنها سرعان ما شهدت فترة ازدهار للمؤسسات الصحفية ذات الملكية الخاصة، قبل أن تعود مجددا إلى كنف الدولة مع قرارات تأميم هذه المؤسسات في مطلع الستينات. أما بالنسبة لمؤسسات الإعلام المسموع والمرئي فقد كانت بدايتها وأغلب مسار حياتها قبل مطلع الألفية الجديدة في إطار الجهاز الإعلامي للدولة، ولم تشهد دخول الملكية الخاصة إلا مع بداية الألفية ومع القنوات الفضائية. هذا يعني أن عمر المؤسسات الإعلامية ذات الملكية الخاصة في مصر لا يبلغ 20 عاما اليوم. ولكن هذه الفترة قد شهدت تطورات عديدة متلاحقة كان لهذا الإعلام “المستقل” (من حيث الملكية المعلنة على الأقل) عن الدولة دور شديد الأهمية فيها وكان لها في المقابل أثر كبير عليه. (رحال 2019)

عودة المؤسسات الإعلامية المستقلة إلى الظهور بعد غياب استمر أكثر من ثلاثة عقود كانت في حد ذاتها نتاج عوامل عدة يمكن في الواقع إدراجها جميعا تحت عنوان هو “اللبرلة تحت السيطرة”. من الناحية الاقتصادية كان مبارك أكثر تحفظا من سلفه السادات في تبني سياسة التحول إلى الليبرالية مما أدى إلى ما يشبه التجميد لهذا المشروع خلال فترة الثمانينات، ولكن الضوائق الاقتصادية المتزايدة في التسعينات والتي أدت إلى تراكم كبير للديون الخارجية، مصحوبة بتحول عالمي حثيث نحو الليبرالية الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسور برلين، وصعود نفوذ المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقية الجات، تلك جميعها ولدت ضغوطا خارجية متزايدة على نظام مبارك دفعته إلى تعديل موقفه من اللبرلة الاقتصادية. الضغوط الداخلية في نفس الاتجاه قادها سياسيون ومسؤولون حكوميون أكثر مما قادها رجال الأعمال الذين كان نفوذهم وأثرهم في ذلك الحين لا يزال محدودا. وواقع الأمر أن تراكم حصيلة سنوات طويلة من الفساد الحكومي خلق رؤوس أموال تبحث عن منافذ للاستثمار لجيل جديد من كبار موظفي الدولة أو أبنائهم تطلعوا للخروج عن عباءة القطاع العام الخانقة.

على جانب آخر كانت الحرب في مواجهة الإرهاب المحلي التي احتدمت بصفة خاصة طوال التسعينات دافعا لفتح الباب أمام تسويق قدر من الليبرالية الثقافية ثم السياسية كسبيل لتجفيف منابع الإرهاب بمواجهة أفكاره. المثير للاهتمام أن أبطال المرحلة الأولى من لبرلة الثقافة كانوا في غالبيتهم من اليساريين الذين اعتمدوا في عملهم في ظل الدولة في هذه الفترة على إحياء تراث الفترة الليبرالية السابقة على ثورة ١٩٥٢، رغم تناقضهم الأيديولوجي الحاد مع هذه الفترة.

سمحت اللبرلة الاقتصادية مع الوقت بظهور رجال أعمال تراكم لديهم إلى جانب الثروة نفوذ ناتج عن العلاقات القوية بمسؤولي الدولة الذين كانت مصالحهم تتداخل معهم بقدر كبير. هؤلاء، أصبح بإمكانهم مع الوقت استغلال النوافذ التي فتحتها اللبرلة الثقافية المحدودة للدفع في اتجاه فتح مجال صناعة الإعلام أمام استثماراتهم، وأصبح ذلك ممكنا مع توافر البنية التحتية التي أتاحها إطلاق القمر الصناعي المصري وإنشاء مدينة الإنتاج الإعلامي، فطاقة كل منهما كانت أوسع من أن يقتصر استغلالهما على سلسلة القنوات الفضائية التي افتتحتها الدولة في سبيل إدامة سيطرتها الإعلامية في مواجهة ظهور قنوات فضائية عربية مثل شبكة الـ إي آر تي والـ إم بي سي والجزيرة الفضائية.

سمحت الدولة بظهور القنوات الفضائية ببطء، زاد منه أن رجال الأعمال أنفسهم أقبلوا بحذر على دخول هذا المجال. وبرغم أن من سمح لهم بافتتاح قنوات فضائية كانوا دائما من المقربين إلى الدولة (بصفة عامة كان ولا يزال كبار رجال الأعمال مقربين من الدولة أو ذوي صلات وثيقة بمسؤوليها)، إلا أن الدولة لم تترك ﻷي من هؤلاء الباب مفتوحا بشكل كامل فقد وضعت شروطا مسبقة للمحتوى الذي يمكن للقنوات الفضائية الخاصة أن تقدمه، أهم هذه الشروط هو حظر تقديم أي من هذه القنوات لمحتوى خبري مباشر في صورة نشرات أخبار، إلى جانب حظر النقل المباشر من خارج الاستوديو وتقييده بالنقل عن التليفزيون الرسمي المخول وحده حق البث على الهواء مباشرة من أي حدث. هذه القيود كانت جميعها تصب في اتجاه استمرار احتكار إعلام الدولة لنقل الخبر عن مصدره بشكل مباشر، وهو ما يعني احتفاظ الدولة لنفسها بحق صياغة المعلومة التي ستصل إلى المشاهد.

سرعان ما وجدت القنوات الفضائية الناشئة سبيلا للالتفاف حول هذه القيود من خلال البرامج الحوارية التي قدمت استعراضا ﻷهم الأخبار المحلية وتعليقا عليها كفقرات ثابتة منها، وأثبت هذا النمط الجديد نجاحا كبيرا وأصبحت هذه البرامج الحوارية بؤرة اهتمام المشاهدين وصاحبة أعلى نسب مشاهدة بين البرامج المختلفة. نجاح نمط البرنامج الحواري عاد في الواقع إلى أن من وضع الشروط لتقييد نقل اﻷخبار بشكل مباشر كانت حدود تصوراته للتعامل مع الأخبار مبنية على النمط الخبري الجاف الذي كان لا يزال سائدا في التليفزيون الرسمي، والغياب شبه الكامل للتعليق على الأخبار، الذي لم يخرج عن استضافة أحد المتخصصين في الاستديو أو من خلال اتصال تليفوني لإلقاء مزيد من الضوء على الخبر، وعادة ما كان الضيف في التليفزيون الرسمي هو أحد المسؤولين والذي يقدم فقط إيضاحا للخبر دون إضافة مادة جاذبة للمشاهد. في المحصلة لم يجل بخاطر من وضع هذه الشروط للقنوات الفضائية الخاصة أن التعليق على الأخبار بمرونة أكبر يمكن أن يكون له أثر بالغ في جاذبية الخدمة اﻹخبارية وهو ما تمكنت القنوات الفضائية الناشئة من استغلاله محاولة التعلم من خبرات المؤسسات الإعلامية في الغرب ومن قناة الجزيرة القطرية التي نسخت هذه الخبرات في تجربتها.

بصفة عامة لا يمكن القول بأن القنوات الفضائية الناشئة في هذا الوقت كانت مشروعات استثمارية هادفة إلى الربح ﻷن من الصعب تصور أن أغلبها قد حقق هذا الهدف. وبرغم غياب أي معلومات موثقة عن ميزانيات هذه القنوات فإن تصريحات لاحقة لملاكها تشير إلى أن معظمها كان أقرب إلى تحقيق خسائر مالية منه إلى تحقيق أرباح. ويطرح هذا بالطبع التساؤل حول الغرض الحقيقي لرجال الأعمال الذين أقبلوا على خوض مجال إنشاء مؤسسات إعلامية في هذا الوقت. والأقرب إلى التصور هو أن هذه المؤسسات بالنسبة لهم كانت أدوات مساعدة ﻷهدافهم الاقتصادية والسياسية، فقد شهدت هذه الفترة تنامي طموحات رجال الأعمال في مصر التي بلغت مع نهايتها حد السعي للاستيلاء على المفاصل السياسية للدولة نفسها. هذه الطموحات كان بعضها مشتركا والبعض اﻵخر تنافسيا وفي كلتا الحالتين كانت ثمة حاجة كبيرة إلى أن يمتلك رجال الأعمال نوافذهم الإعلامية التي من خلالها يمكنهم الترويج لمفاهيم وسياسات تخدم مصالحهم المشتركة وفي مقدمتها توفير الدعم الشعبي للسياسات النيوليبرالية والضغط على الحكومة للمسارعة في إقرارها وتنفيذها. على جانب آخر كانت هذه النوافذ ضرورية في حالات التنافس والصراع بين رجال الأعمال أنفسهم، وذلك ما يفسر حرص كل منهم على أن تكون له نافذته الخاصة وعدم اكتفائه بأن تخدم نوافذ اﻵخرين المصالح المشتركة.

بالنسبة للرسالة الإعلامية لهذه المؤسسات الناشئة فقد أنتجها بالأساس عاملان هما أولا الحاجة إلى الحركة في إطار الهامش المتاح للحرية مع العمل على توسعته بخطوات حذرة وفقط في حدود الحاجة التي تمليها المصلحة، وثانيا تعويض انتقاص الحرية بمحاولة إضفاء مظهر أكثر مهنية وأكثر جاذبية مقارنة باﻹعلام الحكومي. وبرغم ما يمكن قوله حول أغراض أصحاب الملكية في ذلك الحين فقد فتح وجود هذا الشكل المختلف من المؤسسات الإعلامية الباب أمام جيل جديد من اﻹعلاميين وكذلك أمام أجيال اﻹعلاميين المخضرمين لتجربة نمط جديد من ممارسة المهنة سمح بمرونة أكبر ومساحة من الحرية لم تكن متاحة في إعلام الدولة وهو ما انعكس على تمكن بعض هؤلاء من تنمية قدراتهم المهنية وأدى بهم إلى أن يسهموا في تشكيل ملامح مدرسة جديدة للمهنية اﻹعلامية في اﻹعلام المصري.

الإعلام كأداة في الصراع

ربما تكون الفترة التالية مباشرة لاندلاع الثورة المصرية في ٢٥ يناير ٢٠١١ وحتى عزل، الرئيس الأسبق دكتور محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب في أعقاب تظاهرات ٣٠ يونيو ٢٠١٣، هي أكثر فترات تاريخ الإعلام المصري انفتاحا وسيولة منذ قرارات تأميم الصحف في الستينات. كما أن هذه الفترة هي الأكثر نشاطا في إنشاء المؤسسات الإعلامية ذات الملكية الخاصة مقارنة بأي فترة سابقة. ولكن الانفتاح وحرية إنشاء المؤسسات الإعلامية يجب ألا يخدعانا كمقياسين لحرية الإعلام في هذه الفترة، فهي أيضا الفترة الأكثر استقطابا في التوجهات والآراء، وهي فترة تدخل فيها العديد من الجهات سواء التابعة للدولة أو لجماعات مصالح مختلفة في الرسالة الإعلامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إطار صراع مفتوح على كسب عقول وقلوب الجماهير في فترة كانت فيها متابعة الإعلام في ذروة تصاعدها.

كان الإعلام في الواقع هو ساحة الصراع الرئيسية بين قوى سياسية مختلفة كانت أجهزة الدولة نفسها بعضا منها، وقد افتقدت لبعض الوقت على الأقل توحدها في ظل إدارة واحدة مهيمنة بشكل كامل، وبذلك افتقدت انفرادها بالسيطرة على الإعلام فانفتحت أمام القوى الأخرى وهي جماعة اﻹخوان المسلمين والسلفيين ورجال الأعمال فرص الانخراط في هذا الصراع من خلال نوافذ إعلامية خاصة بها. ولبعض الوقت أيضا كان ثمة مجال من خلال بعض هذه النوافذ اﻹعلامية ﻷن تقدم القوى المدنية والثورية بعضا من طروحاتها في حين افتقدت إلى الموارد اللازمة ﻷن يكون لها نوافذها الإعلامية الخاصة بها.

شهدت هذه الفترة أيضا مرحلة من التباس علاقة الملكية العلنية والمباشرة بمحتوى الرسالة الإعلامية. فلمعظم الوقت كانت أغلب المؤسسات اﻹعلامية بخلاف تلك التابعة مباشرة للإسلاميين تتلمس طريقها وتحدد توجهاتها يوما بيوم، وفي أحيان كثيرة كان توجه كل برنامج يعتمد على خيارات مقدمه وقدراته التفاوضية في مواجهة إدارة لم تحسم انحيازاتها بشكل نهائي. وربما يمكن القول بأن هذه المرحلة هي إلى حد بعيد الأدنى من حيث قدرة صاحب الملكية على توجيه مؤسسته الإعلامية بشكل مخطط له مسبقا. وفي حين أنتج ذلك مساحات من الحرية غير المسبوقة، فقد أنتج أيضا قدرا كبيرا من الفوضى وافتقاد اليقين، وتراجعا فادحا للمهنية اﻹعلامية كان تمهيدا لما يكاد يكون اختفاء هذه المهنية بشكل كامل في المرحلة اللاحقة. فيمكننا إذا أزلنا ستار الرومانسية الذي يغلف هذه الفترة أن نتبين بذور كافة الممارسات غير المهنية التي سنتعرض لها عندما نتناول المرحلة التالية، وكذا يمكننا أن نتلمس نشأة معايير صعود وتراجع أسهم الوجوه المتصدرة للمشهد اﻹعلامي التي أصبحت سائدة اليوم.

شهدت هذه الفترة أيضا دخول الأجهزة السيادية إلى سوق الإعلام الخاص بأموالها ﻷول مرة مع استخدام رجال أعمال مقربين منها لتكون شركاتهم هي الواجهة الرسمية التي تمتلك المؤسسات الإعلامية. ويمكن القول إن هذا التدخل للأجهزة السيادية لم يكن حتى ذلك الحين يهدف إلى السيطرة الكاملة على اﻹعلام الخاص، وربما لم تكن لديه القدرة الكافية على ذلك. كما يمكن القول بأن كل جهاز على حدة كانت له أجندته الإعلامية المستقلة في وقت غاب فيه طرف أعلى يمتلك سيطرة كاملة أو لديه استراتيجية إعلامية واضحة. ولكن هذه الأجهزة قد أدركت ضرورة تواجدها في ساحة الصراع الرئيسية في وقت كان اجتذاب وتوجيه الجمهور فيه هو العملة ذات التأثير الأكبر.

بصورة ما انخرطت المؤسسات الإعلامية في تلك المرحلة في تصعيد الصراع وليس في مجرد خوضه لتحقيق أهداف محددة. ويمكن ملاحظة أن بعض المؤسسات التي كان دور الأجهزة السيادية واضحا في إدارتها كانت تعمل على إيصال رسائل تركز على سيادة الفوضى وانعدام الأمن والتدهور في مناحي الحياة المختلفة وربط ذلك بحدث الثورة وما تلاه وربطه بصفة أوضح بإصرار المجموعات الثورية على تمديد أمد المواجهة مع الدولة، وهو ما صورته هذه المؤسسات على أنه سعي ﻹسقاط ما بقي من الدولة وليس سعيا ﻹصلاح مؤسساتها.

الحالة الصراعية السائدة كان أثرها واضحا على الرسالة اﻹعلامية، والتي كلما تزايد فيها تصعيد الاستقطاب والمواجهة بين أطراف مختلفة كلما تدنت مهنية التناول بل واللغة المستخدمة ذاتها. الأسوأ هو أن الإعلام المؤسسي في هذه الفترة بدأ يعكس صورة مصادر المعلومات غير المؤسسية المتاحة من خلال شبكة اﻹنترنت من حيث ارتباط المعلومة وصياغتها بتوجه الوسيلة اﻹعلامية وانحيازها، ومن ثم فصحة المعلومة واقترابها من حقيقة الواقع على اﻷرض أصبحت أمرا ثانويا وهو ما أفقد الإعلام المؤسسي ميزته النسبية المتمثلة في امتلاكه الموارد التي تمكنه من الاقتراب من رصد الواقع. من ثم تحول التنوع غير المسبوق في اﻹعلام في هذه الفترة إلى صورة من صور الاستقطاب في المجتمع تعكس فقط توزعه بين توجهات مختلفة، فكان اختيار الوسيلة اﻹعلامية مبنيا لا على مهنيتها أو مصداقيتها أو على مدى موثوقية ما تقدمه بقدر ما كان مبنيا على انحياز المشاهد المسبق إلى التوجه الذي تمثله هذه الوسيلة، ونتج عن ذلك أن اﻹعلام في هذه الفترة كان في الوقت نفسه يعكس الاستقطاب المجتمعي ويسهم في تعميقه.

إعلام الصوت الواحد

كانت بداية تعامل نظام يوليو 2013 مع اﻹعلام درامية تليق بالبداية الدرامية للنظام نفسه، فقد كان من أوائل ما اتخذه هذا النظام من إجراءات إغلاق عدد كبير من المؤسسات اﻹعلامية التابعة بشكل مباشر لجماعة اﻹخوان المسلمين وحلفائها فيما يسمى بتحالف الشرعية. هذه الخطوة التي خالفت سلوك السلطة تجاه المؤسسات الإعلامية خلال الفترة السابقة كانت مؤشرا لنهج النظام الجديد تجاه اﻹعلام واستعداده لاستخدام إجراءات جذرية لتحقيق أغراضه التي اتضح مع الوقت أنها لا ترضى بما هو أقل من تغييب أي صوت إلا الصوت الوحيد للنظام نفسه.

لا يمكن القول بأن نظام يوليو 2013 كانت له منذ البداية خطة واضحة للتعامل مع الإعلام. في الواقع يمكن القول بأن النظام توقع من مؤسسات الإعلام أن تنخرط في صف موحد خلف السلطة، وهو ما بدا طبيعيا في ظل التأييد الجارف الذي منحته هذه المؤسسات للنظام منذ اليوم الأول. ولكن مع الوقت وبرغم التأييد والموالاة الطوعيين، كان من الواضح أنهما غير كافيين في منظور النظام. وقد عبر الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه منصبه في 2014 وفي مناسبات عديدة عن استيائه من أداء الإعلام الذي اعتبره لا يتعامل باﻹيجابية المطلوبة مع سياساته ولا يقدم الدعم الكافي لها، وفي إحدى هذه المناسبات عقد السيسي مقارنة بين تعامل الإعلام القائم حينها وبين إعلام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، دون التفات لحقيقة أن الإعلام في عهد عبد الناصر كان مملوكا بالكامل للدولة وجهازا من أجهزة سلطتها. (عباس 2014)

برغم أن المقارنة بإعلام عبد الناصر قد انطوت بالتأكيد على تصور ﻷن الإعلام المثالي هو ذلك الذي يكون مملوكا مباشرة للدولة، إلا أن ذلك لم يكن باﻹمكان ترجمته مباشرة إلى عملية تأميم صريح للمؤسسات اﻹعلامية. وفي الواقع بدا أن سياسات النظام تجاه اﻹعلام تتطور بشكل ارتجالي عبر التجربة والخطأ. ولكنها في العموم تحركت على مسارين متوازيين، الأول استهدف فرض سيادة الصوت الواحد للنظام في الإعلام المحلي، والثاني طمح إلى مواجهة اﻷصوات الخارجية من خلال مؤسسات إعلامية تنافس المؤسسات الخارجية المزعجة للسلطة في مصر. ومن حيث اﻹجراءات العملية يمكن تبين أوجه بارزة هي، أولا إرغام المؤسسات التي احتفظت بقدر من الاستقلالية المالية على الالتزام بخط الدولة بشكل شديد الصرامة، ثانيا إنشاء مؤسسات إعلامية تطمح إلى منافسة المؤسسات القائمة المحلية والإقليمية، ثالثا الاستيلاء المباشر على النصيب الأكبر من المؤسسات الإعلامية.

تكسير العظام والترهيب

انتهج النظام سياسة تكسير العظام للمؤسسات والصحفيين واﻹعلاميين الذين بدا أنه لا سبيل إلى احتوائهم وفرض الالتزام بتوجهه عليهم. بعض اﻹعلاميين الأكثر بروزا في الفترتين السابقتين تم التخلص من ظهورهم على الشاشات المحلية، مثل ريم ماجد ودينا عبد الرحمن، وجابر القرموطي، ومحمود سعد لبعض الوقت، وغيرهم. البعض اﻵخر اضطر إلى مغادرة مصر تماما مثل يسري فودة وباسم يوسف. وكذا كان الحال مع عديد من كتاب الرأي والصحفيين والأدباء أبرزهم فهمي هويدي، وبلال فضل، وعلاء الأسواني وغيرهم.

المؤسسات الإعلامية التي بدا أن نجاحها في الفترات السابقة قد يشفع لها في قدر من مرونة التعامل أو كون أصحابها من ذوي النفوذ الكبير في ظل نظام مبارك الذي ظن البعض أن الانقلاب لم يمثل أكثر من عودة إلى توازنات القوى التي كانت سائدة في عهده، تعرضت لتضييقات استهدفت أصحاب رؤوس أموالها مباشرة، فعلى سبيل المثال تعرض رجل الأعمال صلاح دياب أكبر المساهمين في مؤسسة المصري اليوم لاتهامات بالاتجار بالسلاح، بينما واجه إبراهيم المعلم مالك جريدة الشروق لحملة تشويه إعلامية كبيرة. نتيجة لذلك انضوت صحيفتا المصري اليوم والشروق تحت لواء إعلام الصوت الواحد على حساب كل ما بنيتاه في المراحل السابقة من مظاهر المهنية اﻹعلامية والرزانة المميزة لهما، وهو ما يمكن ملاحظته اليوم بوضوح ليس فقط في غياب الأصوات المعارضة من الصحيفتين بل حتى في تدنى مستوى اللغة واختيار العناوين وغير ذلك من التفاصيل الشكلية.

على مستوى المسار المهني للإعلاميين الأفراد يمثل الصحفي الشهير إيراهيم عيسى نموذجًا هامًا لتطورات المرحلة، ففي البداية بدا أن عيسى على توافق مع النظام الجديد، وقد شارك مع لميس الحديدي في حوار هام أجرياه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية ﻷول مرة عام 2014. ولكن عيسى تعرض لاحقا للتضييق على جريدته “التحرير” وأدت الضائقة المالية للجريدة إلى تذمر الصحفيين العاملين بها ومواجهتهم لعيسى بسبب سياسة إدارته لها، وانتهى الأمر بأن تحولت الجريدة من الصدور يوميا إلى الصدور أسبوعيا قبل أن يغادرها عيسى، وتتوقف نسختها الورقية ليستمر الموقع الإلكتروني تحت الحصار إلى اليوم.

قنوات دي إم سي

بدأت مجموعة قنوات دي إم سي نشاطها بإطلاق قناة رياضية هي دي إم سي سبورتس في سبتمبر من عام 2016. ومع بداية العام التالي (يناير 2017)، أطلقت المجموعة قناة دي إم سي العامة. سبق ذلك حملة إعلانية ضخمة عن مجموعة القنوات الجديدة، أعطت انطباعا واضحا بحجم استثمارات ضخم وراءها. الشركة المنشئة لمجموعة القنوات وهي دي ميديا، رأس مجلس إدارتها حينها رجل الأعمال طارق إسماعيل. هذه الشركة، دي ميديا إيجنسي، لم يسمع بها أحد قبل عام 2013 عندما نجحت حينها في إطلاق محطة إذاعية هي 9090، وتؤكد عدة مصادر أن عباس كامل، الصديق المقرب للرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي شغل منصب مدير مكتب الرئيس، ثم أصبح مديرا للمخابرات العامة، يملك حصة في رأسمال الشركة، وهو ما قد يفسر حصولها على حق إنشاء محطة إذاعية، وهو مجال مغلق أمام الاستثمارات الخاصة التي لم يسبق أن اخترقته إلا في حالة وحيدة سابقة في عهد الرئيس مبارك عندما سمح لعدد من رجال الأعمال المقربين من النظام بإنشاء محطة إذاعية خاصة ظلت الوحيدة من نوعها حتى إنشاء 9090.1

إذا صحت المعلومات المتواترة حول علاقة عباس كامل بدي ميديا ومن ثم بإنشاء قنوات دي إم سي، فهذه المجموعة هي الأداة المرتبطة مباشرة بالرئيس والتي أريد لها أن تعبر عن رؤيته ﻹعلام داعم لسياسات الدولة دون وساطة لرجال أعمال موالين للنظام أو حتى ﻷجهزة الدولة. وقد كان مشروع المجموعة الرئيسي هو إنشاء قناة أخبار ذات إمكانيات ضخمة قادرة على منافسة القنوات اﻹخبارية العربية والدولية، وبصفة خاصة قناة الجزيرة القطرية التي لطالما سببت صداعا كبيرا للنظام المصري والتي اعتبرها عدوا رئيسيا له كونها دافعت منذ البداية وحتى اليوم بشكل محموم عن جماعة اﻹخوان المسلمين والرئيس المعزول محمد مرسي.

لم يقتصر تميز بداية قنوات دي إم سي على حجم الإنفاق الضخم وغير المسبوق، ولكنه يمتد كذلك إلى مظاهر توحي بالنفوذ السياسي الداعم لها، مثل تمكن المجموعة من استئجار عدد من استديوهات التليفزيون المصري الرسمي وهو الأمر الذي لم يسبق حدوثه من قبل. وبرغم هذا التميز فإن قنوات المجموعة لم تحقق إلا قدرا نسبيا من النجاح مقارنة بالقنوات الفضائية الأخرى ووفق نفس العوامل والمعايير السائدة في سوق الإعلام المصري. وفي المقابل تعثر المشروع المركزي ﻹنشاء قناة الأخبار دي إم سي نيوز، بعد أكثر من عامين من اﻹعداد له، وأشارت مصادر، لم يتح التأكد من صحة معلوماتها، إلى أن حجم اﻹنفاق على مجموعة القنوات الذي بلغ حوالي مليار جنيه تسبب في عدم توافر السيولة المالية المطلوبة للمضي في مشروع إنشاء القناة. وحسب المصادر ذاتها فقد سعت المجموعة إلى الحصول على تمويل من الوزير السعودي تركي آل شيخ لاستكمال المشروع وهو اﻷمر الذي تعثر بدوره في أعقاب الضجة المصاحبة لاغتيال الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي.

رحلة الاستحواذ على الإعلام المصري

لا أحد يعلم متى اتخذ القرار بتكليف الأجهزة السيادية بالاستحواذ شبه المباشر على غالبية المؤسسات الإعلامية الرئيسية ذات الملكية الخاصة. ولكن تنفيذ القرار بدأ في بداية عام 2016، بتأسيس شركة إعلام المصريين التي كان في واجهتها ورئيسا لمجلس إدارتها رجل الأعمال المعروف أحمد أبو هشيمة، وهو في حد ذاته شخصية مثيرة للاهتمام، فالرجل الذي ورث عن والده ملكية شركة لتصنيع الحديد والصلب صغيرة الحجم نسبيا برز ﻷول مرة على خلفية زواجه من النجمة اللبنانية الشهيرة هيفاء وهبي، لاحقا وفي عهد اﻹخوان ظهر أبو هشيمة بين رجال الأعمال الذين شاركوا في تحالف برعاية مباشرة من خيرت الشاطر رجل الجماعة القوي، وفي إطار الصفقات التي أتاحها هذا التحالف توسع أبو هشيمة في مجاله الأساسي من خلال شراكة خليجية في شركة أضخم للحديد والصلب، أحد الشركاء الرئيسيين قطري، وهو أمر ليس غريبا حينها وإن كان يمثل مفارقة مثيرة للاهتمام حاليا.

بدأت شركة إعلام المصريين في تنفيذ مهمتها بإنجاز أول استحواذ لها عندما اشترت في مايو من نفس العام مجموعة قنوات أون تي في، من شركة هوا المملوكة لنجيب ساويرس. هدف الاستحواذ ظهر سريعا مع التغيرات المجراة على القناة وتغييب بعض من أهم وجوهها المعروفة أو من تبقى منها وفي مقدمتهم اﻹعلامية ليليان داوود الذي ترافق تركها للقناة بترحيلها عن مصر. وفي الواقع كان إنهاء تعاقد ليليان هو مبرر ترحيلها، في علامة واضحة على تناغم وتنسيق مسبق بين إعلام المصريين وبين السلطة.

في يوليو التالي استحوذت إعلام المصريين على مجموعة قنوات الحياة التي كانت حينها قد انتقلت ملكيتها إلى شركة فالكون، وهو شركة ذات صلات بأجهزة سيادية بدورها. الخطوة أنبأت بأن التوجه الحالي أصبح هو توحيد الجهة المسؤولة عن ضبط اﻹعلام، وسيتكرر في الشهور التالية استحواذ إعلام المصريين على مزيد من المؤسسات الإعلامية التي سبق لأجهزة سيادية الاستيلاء عليها أو المساهمة في إنشائها.

في سبتمبر من نفس العام اشترت إعلام المصريين نسبة 51% من أسهم شركة فيوتشر ميديا المملوكة سابقا لمحمد الأمين والذي احتفظ بـ49%، وثمة مؤشرات ﻷن الحصة التي حصلت عليها إعلام المصريين لم تكن يوما مملوكة لمحمد الأمين نفسه وإنما تعود ملكيتها إلى الجهاز السيادي نفسه أو جهاز آخر. بالاستيلاء على هذه النسبة ضمت إعلام المصريين إلى ملكيتها مجموعة قنوات سي بي سي.

على جانب المؤسسات الصحفية وبشكل متواز استحوذت إعلام المصريين على صحيفة اليوم السابع (ربما بنقل أبو هشيمة ملكيته لبعض أسهمها إلى ملكية المجموعة). وحصلت إعلام المصريين في الصفقة على الموقع الإلكتروني لليوم السابع وعدة مواقع إلكترونية أخرى تابعة لها، منها فيديو 7 وانفراد، وفوتو7 والبرلمان والقاهرة.

في يوليو استحوذت إعلام المصريين على موقع دوت مصر، كما اشترت صحيفتا صوت الأمة وعين اللتين كانتا لا تزالان مملوكتين لعصام إسماعيل فهمي، وكانت هذه فرصة للتخلص من عدد من صحفيي الجريدتين.

شملت صفقات الاستحواذ أيضا عددا ضخما من شركات الدعاية واﻹعلان والإنتاج اﻹعلامي وصناعات أخرى مساعدة بما في ذلك الأكاديمية الإعلامية المصرية إضافة إلى شركة خدمات أمنية!(مراسلون بلا حدود)

بعد تمكن إعلام المصريين وأبو هشيمة في واجهتها بتنفيذ هذه المهمة الكبيرة والتي لابد قد احتاجت إلى ضخ موارد مالية ضخمة لانجازها، ولسبب غير معلوم قامت شركة إيجل كابيتال وهي شركة مملوكة لصندوق خاص بالمخابرات العامة المصرية بالاستحواذ على شركة إعلام المصريين. الصفقة لم يكن الغرض منها هو نقل الملكية ﻷن إعلام المصريين نفسها كانت مملوكة في معظمها للمخابرات العامة، ولكن الهدف الواضح كان تغيير اﻹدارة. على رأس إيجل كابيتال كانت داليا خورشيد، وزيرة الاستثمار السابقة وزوجة طارق عامر رئيس البنك المركزي الذي تم مؤخرا التجديد له ليستمر في منصبه ﻷربعة أعوام أخرى، فيما يبدو فالإجراء كان الهدف منه جعل إدارة الحصة التي استولت عليها إعلام المصريين من الإعلام المصري على مسافة أقرب من الدولة، والتخلص من أحمد أبو هشيمة كواجهة. (بهجت 2017)

خاتمة

في رحلة استغرقت أقل من عقدين مر اﻹعلام المصري الخاص بمراحل شديدة التباين، وربما يكون قد عاد إلى ما يشبه نقطة البداية أو من منظور آخر إلى ما هو أسوأ كثيرا منها. بدأ هذا اﻹعلام رحلته هذه في المرحلة الأولى بخطوات بطيئة ومترددة، ولكنه اكتسب مع الوقت مزيدا من الثقة والخبرة ونجح في توسعة هامش الحرية الذي أتاحته السلطة حينها. وبدا في نهاية هذه المرحلة ومع الموجة الثانية للمؤسسات اﻹعلامية الخاصة أن هذا اﻹعلام كان مستعدا لمرحلة جديدة في حياته، وربما كان ذلك مواكبا للتوقعات السائدة حينها حول توريث الحكم لجمال مبارك الإبن الأصغر للرئيس المخلوع.

حدث الثورة كان مفاجأة للجميع حتى لهؤلاء الذين كانوا جزءا من أمواجها المتلاطمة أما تداعياتها فقد القوى التقليدية في المجتمع في موقف لا تحسد عليه، واستغرقت هذه القوى وقتا لتبدأ العمل بعشوائية أولا ثم بقدر من الانتظام تالية على استعادة السيطرة على اﻷمور. بوصفه أصبح ساحة صراع رئيسية لم يعد اﻹعلام الخاص مشروعا يمضي على طريق واضح بل تحول إلى مركب تتقاذفه أمواج متلاطمة ليس من الواضح إذا ما كانت ستحمله إلى بر آمن أم تنتهي به إلى التحطم على صخور نائية.

في المرحلة الثالثة التي ما زالت تطوراتها تتداعى إلى يومنا هذا، بدا أولا أن اﻷمور عادت إلى نمطها المعتاد السابق على الثورة. وربما كانت تلك أمنيات رجال اﻷعمال وكثير من اﻹعلاميين الذين رأوا في الثورة انحرافا عن الطريق الذي اعتادوه وخطوا على أساسه آمالهم وطموحاتهم. ولكن أثر المرحلة السابقة كان أكبر مما تمنى هؤلاء، وبالنسبة للسلطة الجديدة القديمة كانت الثورة وتداعياتها خليطا من الدرس والعبرة ومن الصدمة والبارانويا. فقد عزت هذه السلطة وأجهزتها اﻷمنية حدث الثورة إلى هامش الحرية المحدود الذي أتاحه نظام مبارك، ومن ثم فلم ترتض بما هو أقل من إعلام منصاع تماما، لا يعمل على هامش السلطة من خارجها وإنما يعمل في ظل السلطة وداخل نطاق السيطرة الكاملة لها.

تحولات ملكية المؤسسات الإعلامية عبر المراحل الثلاث كانت تابعة للتحولات السياسية ولدور اﻹعلام في الخريطة السياسية كما تصورتها السلطة حينا وكما أملتها الظروف السياسية التي خرجت عن سيطرة هذه السلطة حينا آخر. فبدأت باضطلاع رجال اﻷعمال بمهمة تملك المؤسسات اﻹعلامية في المرحلة اﻷولى ثم تحولت إلى بدء تدخل الأجهزة السيادية في المرحلة الثانية وتحول كثير من رجال اﻷعمال لمجرد واجهة لها، ثم أخيرا استحواذ اﻷجهزة السيادية على النصيب الأوفر من الكعكة اﻹعلامية والحصة الحاكمة من ملكية اﻹعلام.

ولكن هل بقيت الكعكة على حالها مع الاستحواذ اﻷخير للأجهزة السيادية نيابة عن الدولة عليها، وإدارتها من خلال مسؤولين وضباط سابقين؟ الأكيد أن ممارسات الأطراف المختلفة في المرحلة الثانية ثم ممارسات السلطة المنفردة بالقرار في المرحلة اﻷخيرة قد أدت إلى إفساد أغلب الكعكة إلى الحد الذي أصبح معها المقبلون عليها سابقا يعافونها. فقد جردت هذه الممارسات اﻹعلام الخاص من كافة عناصر القوة التي راكمها خلال المرحلة اﻷولى والتي سمحت له بالاستمرار. فقد طوردت واختفت أغلب الأصوات التي أضفت على اﻹعلام المكتوب والمرئي قدرا من التنوع الجذاب ومن الثقل الثقافي والارتباط بروافده الثقافية في الماضي القريب، واستبدلت هؤلاء بأبواق لا يختلف أي منها عن اﻵخر إلا بقدر ما يتدنى إليه من بذاءة وخروج عن أي مهنية إعلامية وأي التزامات أخلاقية.

لا يسعنا هنا إلا القول؛ إنه برغم محدودية التجربة اﻹعلامية المحاصرة في هامش الحرية الضيق في المرحلة اﻷولى فهي بأي حال كانت تنمو في اتجاه تحقيق مزيد من المهنية وانتزاع مزيد من الحرية وفق تفاعل طبيعي بين المنافسة والرغبة في تحقيق التميز. ولقد ذهبت اﻷنواء التالية بكل ما حققته هذه التجربة واستبدلت بها مسخا بلا لون أو طعم، والنتيجة أن هامش الحرية قد اختفى تماما، واختفى أيضا أي قدر من المهنية اﻹعلامية، وأصبحنا اليوم أمام إعلام تقليدي ينكمش بسرعة ويفقد اهتمام الجمهور الذي انصرف إلى متابعة ما تتيحه له الوسائط الاجتماعية على شبكة اﻹنترنت من معلومات. وفي المحصلة فالخاسر الحقيقي هو هذا الجمهور نفسه، الذي خسر حقه في الوصول إلى المعلومات، والمقصود هنا هو المعلومات الأقرب إلى الحقيقة والتي لا يمكن أن تتيحها سوى مؤسسات إعلامية تتمتع بقدر من الحرية المنضبطة؛ فقط بالمهنية وليس بأية اعتبارات أخرى.

لا ينبغي أن تفوتنا اﻹشارة إلى تعديلات أخيرة طالت المسؤولين عن الملف اﻹعلامي في جهاز المخابرات كما طالت بعض ضباطه السابقين الذين تولوا مسؤوليات مباشرة داخل المؤسسات اﻹعلامية، وفي حين أن البعض يأمل في أن يكون ذلك إيذانا بإدراك الدولة لفشل سياساتها اﻹعلامية طوال الفترة اﻷخيرة وعودتها إلى معادلة تشبه تلك التي حكمت هذه السياسات في العقد اﻷخير من حكم الديكتاتور اﻷسبق محمد حسني مبارك، إلا أننا لا يسعنا أن نشارك هؤلاء آمالهم، فالمؤشرات كلها ما زالت تؤكد أن النظام الحالي ماض في سياسة إسكات الجميع وإغلاق المجال العام بشكل كامل. وهذا يعني أن هذا النظام قد كتب شهادة وفاة اﻹعلام المصري التقليدي الذي قد لا تتاح له فرصة العودة إلى الحياة ليس في المدى القريب فحسب بل ربما على اﻹطلاق.

المصادر

  1. مراسلون بلا حدود، شركة دي ميديا للإنتاج الإعلامي، بدون تاريخ، الرابط تاريخ التصفح 30-11-2019.
  2. أحمد رحال، في عيد ميلاده الـ 59: حكاية التليفزيون المصري من طأطأ لإعلام المصريين، مدى مصر، 23 يوليو 2019،
  3. حسام بهجت، تفاصيل استحواذ المخابرات العامة على “إعلام المصريين”، مدى مصر، 20 ديسمبر 2017،
  4. محمد عباس، السيسي “عبد الناصر كان محظوظ”، المصري اليوم، 5 أغسطس 2014، الرابط، تاريخ التصفح 28-12-2019.
شرعنة الاستبداد فنانون تحت أقدام العسكر

إقرأ أيضاً: فنانون تحت أقدام العسكر

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close