fbpx
سياسةترجمات

فورين بوليسي: كيف دمّر عبد الفتاح السيسي مصر؟

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

نشرت مجلة فورين بوليسي في 9 أغسطس 2023 مقالاً تحليلياً بعنوان: “كيف دمّر السيسي مصر؟” لستيفن كوك، كاتب العمود في فورين بوليسي وزميل أول في زمالة إيني أنريكو ماتي لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، حيث قال إن “زعيم الانقلاب الذي تحول إلى رئيس كان قد وعد المصريين بالازدهار، لكن البلاد الآن مفلسة تماماً”.

وقد جاء المقال على النحو التالي:

كانت مصر طوال معظم صيف عام 2013 تقع تحت قبضة ما يمكن وصفه بـ “هوس السيسي”. فقد كانت الأغاني ومقاطع الفيديو الموسيقية والقصائد وحتى السندوتشات (سندوتشات السيسي) وأطقم النوم (عليها صورة السيسي) كلها تشيد بعبد الفتاح السيسي، ضابط الجيش الذي أطاح للتو بالرئيس محمد مرسي.

أما من الخارج، فقد كان مشهداً غريباً حيث ابتهج ملايين المصريين بالتدخل العسكري العنيف والوحشي ضد عضو جماعة الإخوان المسلمين الذي أصبح رئيساً قبل عام واحد فقط، في يونيو 2012. وحتى مَن يُسَمّون بالثوار والمنتقدين المخضرمين للنظام السياسي الاستبدادي في مصر فقد بدوا وكأنهم يعشقون بصدق القائد العسكري ضئيل الحجم (القزم) الذي وعدهم ببداية جديدة بعد ثمانية عشر شهراً صاخبة بدأت بالانتفاضة التي اندلعت في أواخر يناير 2011 ضد حسني مبارك، الزعيم الذي بقي طويلاً في السلطة.

ومع سجن مرسي وقتل أو اعتقال أو تشريد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وعد السيسي المصريين بأيام أفضل، على الرغم من أنه كان حذّر مواطنيه ونبّههم إلى ضرورة التحلي بالصبر. وكان ذلك منطقياً. فقد كانت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة قد تفاقمت في مصر في ظل انتقال مصر من أزمة إلى أخرى خلال فترة الانتقال الديمقراطي المشحونة والقصيرة. ولكن بعد مرور عقد من الزمان على ذلك، لم يكافئ السيسي المصريين على صبرهم. بل على العكس تماماً: فالرجل الذي كان من المفترض أن ينقذ مصر يشرف الآن على خرابها.

لقد وعد السيسي المصريين بالازدهار، لكن مصر الآن مفلسة تماماً. والإحصاءات عن ذلك مذهلة. فقد بلغ معدل التضخم 37% تقريباً، وبلغ سعر الدولار الواحد 30 جنيهاً مصرياً. (وكان حوالي 7 جنيهات للدولار عندما تولى السيسي السلطة). ويبلغ حجم الدين الخارجي للبلاد ما يقرب من 163 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل إجمالي ديونها إلى 93% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في نهاية عام 2023. فالسياسة المالية لمصر أشبه بلعبة وهمية، ويتم تحريك الأموال في محاولات عبثية لإخفاء الظروف الاقتصادية غير المستقرة في البلاد.

وطالما ادّعى السيسي أن المحن الاقتصادية التي تعيشها البلاد هي نتيجة قضايا خارجة عن إرادته، لا سيما جائحة كوفيد -19 وغزو روسيا لأوكرانيا. ولا شك في أن هذه الأزمات خلقت تحديات اقتصادية كبيرة واجهت البلدان – بما في ذلك الولايات المتحدة – صعوبة في إدارتها. فمن الواضح أن احتجاج السيسي بذلك هو استراتيجية خطابية للتقليل من مسؤوليته في دفع مصر إلى المزيد من الفقر المدقع.

لقد دخل السيسي في فورة من الإنفاق الضخم الذي يتم تمويله من الديون على مشاريع عملاقة ضئيلة الجدوى من الناحية الاقتصادية. وأشد هذه المشاريع وأكثرها فحشاً هي العاصمة الإدارية الجديدة، والتي كلفت البلاد حتى الآن أكثر من 45 مليار دولار في مرحلتها الأولى فقط. وعندما انسحبت دولة الإمارات العربية المتحدة والصين من المشروع، اضطّر المصريون إلى دفع الفاتورة عن طريق إضافة مبالغ ضخمة من الديون إلى الميزانية العامة للبلاد.

وبالإضافة إلى إنشاء عاصمة جديدة من الصفر في وسط الصحراء، يشرف السيسي على مجموعة من المشاريع الكبيرة الأخرى، ومن أبرزها “العاصمة الصيفية” الجديدة على الساحل الشمالي، ومحطة الطاقة النووية (في بلد به فائض من الكهرباء)، ومدينة مستدامة في دلتا النيل، وإحياء مشروع ضخم فاشل في عهد مبارك في صعيد مصر يُسمّى توشكى. ويأتي ذلك بعد افتتاح تفريعة جديدة لقناة السويس – والتي أُطلق عليها اسم “قناة السويس الجديدة” – في عام 2015.

ورغم أن قيمة معظم هذه المشاريع محل شك، من ناحية الجدوى الاقتصادية، لكنها مهمة (أو كانت كذلك) من الناحية السياسية. فقد كان من المفترض أن تكون هناك مظاهر ملموسة لولادة مصر من جديد تحت السيطرة الكاملة من ضابط الجيش الجديد الذي تحول إلى رئيس وزملائه في وزارة الدفاع. ربما كانت الرسالة التي كان يريد توصيلها أن مصر لا يزال بإمكانها القيام بأشياء عظيمة، لكن هذه المشاريع الضخمة أصبحت أعباء اقتصادية غير مستدامة على البلاد.

ويجادل المسؤولون المصريون بأن الكثير من المصريين كانوا يعملون في بناء هذه المشاريع. صحيح – ولكن بأي ثمن؟ فالحكومات تتحمل مسؤولية إنشاء البنية التحتية، ولكن الفوائد طويلة الأجل يجب أن تفوق التكاليف قصيرة الأجل. فالجسور الجديدة، والطرق، والتقاطعات (الدوّارات)، وتحديثات المطارات، ومترو الأنفاق تستحق هذا الأمر – وقد فعلت مصر بعضاً من ذلك – بسبب العائد على هذه المشاريع من حيث النشاط الاقتصادي الأكبر والأكثر كفاءة. وقد تتناسب تفريعة قناة السويس الجديدة مع هذه الفئة، لكن العاصمة الصيفية والعاصمة الإدارية الجديدة عبارة عن منجم هائل من المال الذي لا تملكه مصر.

من الصعب أن نفهم أنه يمكن سبر هذا الغور في غضون عقد من الزمن، حيث إن السيسي – الذي قام رعاته في السعودية والإمارات بإعادة إحياء الاقتصاد المصري من خلال تحويلات نقدية مباشرة، والذين أمّنوا للنظام إمكانية الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي بشروط ميسرة، والذي يتمتعون بسمعة طيبة بين الحكومات الغربية – قد استولى على الحكم في “دولة فقيرة” ولكنه حوّلها إلى دولة “أكثر فقراً”.

وفي أحدث اتفاق لها مع صندوق النقد الدولي، وافقت الحكومة المصرية على بيع أصول الدولة، بما في ذلك الأصول التي يمتلكها الجيش. ومع ذلك، كان هناك عدد قليل من المشترين، لأن هذه الأصول إما أنها لا تساوي شيئاً، أو أنه لا أحد يعرف كيف يحدد قيمتها، أو أن المشترين المحتملين يجلسون على جانب الطريق في انتظار خفض آخر لقيمة الجنيه المصري (والذي سيكون الرابع منذ مارس 2022) حتى يتمكنوا من الحصول على أي شركات عالية الجودة بأرخص الأسعار.

وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الحكومة عن مبيعات بقيمة 1.9 مليار دولار لأصول الدولة، وهو أمر إيجابي لكنه لا يفعل الكثير لتخفيف المعاناة الاقتصادية الضخمة.

لقد انتفض المصريون عام 2011 لأنهم أرادوا الكرامة. ولكن بيع الأصول المملوكة للدولة بأسعار بخسة للغاية قد لا يمت إلى الكرامة كثيراً.

وبدلاً من الاستمرار في انتظار الازدهار الذي وعدهم به قادتهم، يغادر المصريون البلاد بأعداد متزايدة. وبحسب كثير من التقارير التي نُشرت عن غرق قارب الصيد الذي كان يحمل حمولة زائدة من المهاجرين قبالة سواحل اليونان في يونيو، فالحقيقة أنه قد فُقد من 300 إلى 350 مصرياً كانوا على متنه وعلى الرغم من زيادة عدد المصريين الذين يهاجرون إلى أوروبا عن طريق مثل تلك القوارب بعد انتفاضة يناير 2011، فقد ارتفع العدد بشكل أكبر في السنوات الأخيرة.

ومنذ بداية عام 2023 حتى شهر يونيو، حاول أكثر من 6000 مصري الوصول إلى إيطاليا عن طريق البحر. وهم يشكلون ثاني أكبر مجموعة من المهاجرين الذين يأملون في الوصول إلى الشواطئ الإيطالية. وفي عام 2022، سعى حوالي 22,000 مصري إلى حياة أفضل عبر البحر الأبيض المتوسط. وبالطبع، من المنطقي أن تغادر أعداد أكبر من المصريين في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهونها.

إن المعاناة الاقتصادية التي تعيشها مصر تعزز فقط فكرة أن البلاد هي قوة مستهلَكة. ففي سبعينيات القرن الماضي، باع الرئيس أنور السادات الوهم لوزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر بالحديث عن أن مصر يمكن أن تكون لاعباً مؤثراً قد يساعد في تأمين السلام الإقليمي وأن تكون العمود الفقري في نظام إقليمي مناهض للسوفييت. كان السادات (بما يتفق مع شخصيته وحياته السياسية) مبالغاً كثيراً في ذلك. ورغم أن مصر شريك مهم للولايات المتحدة، إلا أنها لم يكن لديها أبداً الموارد اللازمة للعب الدور الذي كان صانعو السياسة الأمريكيون يأملون أن تفعله عندما أعادت القاهرة توجيه سياستها الخارجية تجاه الولايات المتحدة – بالطبع مع استثناءات قليلة، مثل عملية درع الصحراء / عاصفة الصحراء.

وعلى الرغم من وجود السيسي في قاعات الاجتماعات لحضور لقاءات مهمة مثل القمة الروسية الإفريقية التي اختُتمت مؤخراً في سانت بطرسبرج أو اجتماع دول مجلس التعاون الخليجي + 3 الصيف الماضي مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلا أنه يبدو أن حضور الزعيم المصري يكون فقط شكلياً. إن التواجد في القاعة يمنح قدراً معيناً من التأثير، لكن وضع مصر هو أنها مجرد مراقب في هذه التجمعات أكثر من كونها لاعباً أساسياً فيها.

والمثال الأكثر وضوحاً على تدهور مكانة مصر وما رافق ذلك من سياسة خارجية جوفاء هو الغياب شبه الكامل للقاهرة في الحرب الأهلية التي اندلعت في السودان – الفناء الخلفي للبلاد. ففي المرحلة الأولى من الصراع، احتجزت قوات الدعم السريع التابعة للجنرال محمد حمدان دقلو ما يقرب من 200 جندي وطيار مصري – كانوا في السودان لإجراء تدريبات مع الجيش السوداني – احتجزتهم كرهائن. ولكن تم إطلاق سراحهم بسرعة نسبية فقط بمساعدة دبلوماسيين إماراتيين.

وبعد تلك الحلقة المهينة، وقف المصريون على هامش الأحداث يشاهدون السعوديين وهم يلعبون دوراً مهماً في إجلاء رعايا دول أخرى من السودان. ثم تنازل السيسي عن القيام بأي جهد للتوسط في السودان لصالح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (بمساعدة من الأمريكيين). لكن يجب أن يشعر البعض في القاهرة بالحرج من أن الأمر قد آل إلى أن تقوم المملكة العربية السعودية بلعب دور حاسم في صراع كان يجب أن تتولى فيه مصر زمام القيادة – وفقاً للأساطير التي طالما روّجت لها.

في الواقع، عندما استضافت القاهرة مؤتمراً لسبعة دول من جيران السودان في منتصف يوليو للمطالبة بوقف إطلاق النار، فحتى في ذلك لم يكن الأمر يسير على ما يرام. لقد كان مجرد مهرجان خطاب وفرضة لالتقاط الصور الفوتوغرافية، أو أكثر قليلاً – وخلال تصريحاته في الاجتماع الخاص، شكر الزعيم الإثيوبي أبيي أحمد المملكة العربية السعودية على جهود الوساطة التي تبذلها.

في الآونة الأخيرة، غرّدت محللة مصرية حاذقة، حفصة حلاوة، قائلة: “يمكنني القول بصراحة أنني لم أعد أرى مخرجاً من هذا”. وأعتقد أنها قصدت بكلمة “هذا” الخراب والدمار الذي أحدثه السيسي لمصر. فبعد عقد من الزمان أو نحو ذلك على انتفاض المصريين للمطالبة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، فإنه لم يتوفر لهم أي شيء من ذلك.

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close