fbpx
سياسةتقارير

مصر: قراءة في مبادرة النائب أحمد الطنطاوي

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

مصر: قراءة في مبادرة النائب أحمد الطنطاوي

اللجان الأساسية التي تضمنتها مبادرة النائي أحمد الطنطاوي

في 3 نوفمبر 2019، أطلق عضو مجلس النواب المصري السيد أحمد الطنطاوي نداء يبلور عمق الأزمة التي تجلت في مصر عبر مسيرة سلطة 3 يوليو منذ الانقلاب العسكري وحتى اليوم، وهي أزمة زاد تبلورها في الشهور الأخيرة بعد سلسلة من الإخفاقات في أداء جهاز الدولة في حماية المواطنين وأرواحهم (شهيد التذكرة – شهداء الأمطار – شهيد الشهامة – شهداء المعتقلات – شهداء الإرهاب) ومآويهم ومطعمهم وحتى مشربهم بعد تفجر “أزمة سد النهضة”، وهو ما يدفع الباحث لاعتبارها محض “صرخة رسمية” تحذر من انهيار جديد يفوق في تداعياته ما سبق أن شهدته مصر من انهيارات.

وفي هذا النداء، لمسنا لغة هينة لينة منتقاة بعناية – على نحو ما لاحظ مراقبون، كانت فحواه مطالبة السلطة التشريعية (جهة خطاب مباشر) ورأس السلطة التنفيذية في مصر (جهة خطاب غير مباشر) بالعودة مرحليا بالبلاد إلى الوضع السياسي ما قبل التعديلات الدستورية؛ التي أعطى رأس السلطة المصرية الإشارة بتعديله مبدرا بتصريحه بأن “دستور 2014 كُتب بحسن نية”[1].

ومع تجدد الإشارة في 2019؛ تقدم بعض أعضائه بمجلس النواب بطلب إجراء هذه التعديلات في 13 فبراير 2019[2]، لينتهي مجلس النواب من إقرارها في 16 أبريل 2019[3]، ثم طرحها لاستفتاء معيب من جهة المعايير الشكلية (مخالفة نص المادة 140 من دستور 2014) والموضوعية (غياب ضمانات نزاهة الاستفتاء) التي حكمته؛ وكان الطرح للاستفتاء بعد أقل من أسبوع؛ في 22 أبريل 2019[4]، ثم الإعلان عن الموافقة عليها في 23 أبريل 2019[5].

كما تضمن النداء دعوة مجلس النواب المصري لفتح نقاش معمق حول اثني عشر ملفا فائق الأهمية بالنسبة لمصر، واقترنت دعوته بالإشارة لوضع التردي الذي حاق بهذه الملفات الإثنا عشر التي اقترح تكوين لجان لتناولها[6].

فحوى النداء

تضمن النداء أو المبادرة التي تقدم بها طنطاوي، محورين أساسيين:

المحور الأول:

المطالبة بتشكيل 12 لجنة خاصة في مجلس النواب، في إطار المادة 80 من اللائحة الداخلية للمجلس، وهي اللجان التي رأى أن وظيفتها تتمثل في توفير نقاش أعمق ومعالجة أكفأ وأشمل لاثنا عشر ملفا ملحا وحيويا؛ هي:

  • لجنة الإصلاح الدستوري، وتعنى بمراجعة التعديلات الدستورية الأخيرة.
  • لجنة الإصلاح الاقتصادي؛ وتعنى بدراسة الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية.
  • لجنة هيكلة الموازنة
  • لجنة مكافحة الفساد
  • لجنة لوضع استراتيجية وطنية لمواجهة الإرهاب
  • لجنة لمعالجة كلف الإصلاح السياسي
  • لجنة دراسة الحالة العامة لحقوق الإنسان والحريات في مصر
  • لجنة لمراجعة القوانين المثيرة للجدل.
  • لجنة لمتابعة تنفيذ القوانين السارية ومحاسبة الجهات التنفيذية التي تمتنع عن التنفيذ
  • لجنة لدراسة الاتفاقات الدولية محل الخلاف؛ وعلى رأسها اتفاق الإطار المتعلق بسد النهضة، واتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، واتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان
  • لجنة الإصلاح الإداري؛ التي استهدف فيها تعديل طريقة اتخاذ القرار في بنيان الدولة المصرية.
  • لجنة لمراجعة أداء منظومة الإعلام المصرية وإعادة هيكلتها.

المحور الثاني:

تمثل في توجهه بالخطاب لرأس سلطة 3 يوليو للالتزام بالوعد الذي قطعه على نفسه سابقا من أنه لن يحكم أكثر من فترتين رئاسيتين، ودعاه لإعلان انتخابات رئاسية في نهاية 2022 وأنه لن يترشح فيها. كما دعا السيسي لعدم اتخاذ قرارات مصيرية وحاسمة يمتد أثرها إلى أجيال قادمة بشكل فردي[7].

وفي هذا الإطار، بدا النائب متفائلاً نسبياً بتصريح رأس سلطة 3 يوليو حول الاتجاه نحو تفعيل دور مجلس النواب في مساءلة رموز السلطة، وهو ما دفعه للتحرك ضمن سقف أقل من سقف المساءلة، ألا وهو سقف الدعوة/ التنادي لحوار عبر أروقة إحدى مؤسسات السلطة؛ التي اعتبر أنها تملك أن تصدر قرارا فيما يتعلق بالشأن العام.

وبرغم صعوبة تصديق هذا الافتراض؛ وضعف العملية في التعويل عليه، إلا أنها وجهة نظر تحتمل تقديم شهادة أخرى للتاريخ، ولربما أصابت، خاصة وأن شواهد تاريخية محدودة أفادت بإمكان حدوث “تحول ديمقراطي” على أيدي عسكريين.

وبخلاف ذلك المحتوى الصريح وما حمله من مطالب للدوائر المركزية في السلطة، فإن الفيديو الخاص بالنائب حمل عددا من الرسائل غير المباشرة. يمكن التعرف على ملامحها فيما يلي:

(1) التأكيد على خطورة الموقف:

كان الخطاب المحذر من تدهور الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية، وتدهور أداء الدولة يصدر بصورة أعلى صوتا، وأكثر انتشارا، عبر المؤسسات غير الرسمية، وكان مركز الثقل الأكبر فيه يقع على عاتق “معارضة المهجر”، وذلك باعتبارها الأكثر قدرة على التحرك والتحدث بحرية مقارنة بمعارضة الداخل.

وفي هذا السياق، مثل خطاب النائب احمد الطنطاوي صرخة تحذير من داخل المؤسسة الرسمية نفسها، حيث تحدث في مطلع تدوينته عن الديمقراطية التي يراها كبديل لمسارات خطيرة قد ينزلق إليها الوطن، كما أكد في منتصف تدوينته كذلك على رفضه قبول عنف الدولة كمبرر للعنف السياسي في الشارع، وهو ما يشاركه فيه الباحث، كما يشاركه فيه كل مؤمن بالعمل السياسي من المحبوسين على هامش قضايا مثل “خلية الأمل”.

هذا التحذير تجاوز سقف الصوت المنخفض لمجلس النواب المصري بسبب منعه البث التليفزيوني من داخل المجلس، حيث عمد النائب المصري إلى الحديث خارج إطار المجلس، متبعا تقليدا جديدا في الحديث بعيدا عن وسائل الإعلام التي سبق له التعامل معها مثل قناة “فرانس 24” و”تليفزيون العربي”، واتجه لـ”الفلوج” (التدوين بالفيديو Vlog)، وهي أداة درج على استخدامها ليفصل موقفه العملي عن رؤى وسائل الإعلام وتغطياتها للأحداث، وهي تقنية استخدمها من قبل عند حديثه عن “أزمة سد النهضة”[8]، أو في لقائه المعنون “نداء الفرصة الأخيرة”[9].

(2) نبرة الإحساس بالعار الوطني:

بدا تعليق النائب أحمد الطنطاوي يحمل قدرا من الأمل على تصريحات رأس سلطة 3 يوليو، والتي أطلقها خلال افتتاحه لبعض مشروعات القوات المسلحة، والتي دارت حول التأكيد على دور لجان مجلس النواب المصري في التحقق من أي اتهام حتى لو كان موجها إلى الدولة أو الحكومة[10].

وبرغم هذا، لم ينجح النائب في إخفاء شعور بالعار تسلل إلى خطابه، ما تمثل في حديثه عن الفساد المترتب على قانون صدر بمرسوم رئاسي مثل قانون الأمر المباشر، وحديثه عن تنافس الرئيس مع أحد أعضاء حملته الانتخابية؛ ما اعتبره لا يليق بمصر وصورتها وتاريخها، ثم حديثه عن التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، أو التنازل عن آبار النفط والغاز في شرق المتوسط، وإشارته لنصوص الدستور التي يتجاهلها كل من المجلس وغير المجلس، وما أشار إليه باسم “الإصلاحات الاقتصادية المدَّعاة”، و”المشروعات القومية غير المجدية”، و”طريقة الاستمرار في عمل المشروعات القومية”؛ في إشارة لغياب دراسات الجدوى، وكذلك في إشارته لـ”الوضع البائس للموازنة العامة للدولة”، و”المشاكل الحقيقية المؤلمة نفسيا وضميريا في ملف حقوق الإنسان”.

جاءت هذه العبارات ضمن كلمة مرتجلة للنائب، حيث ظهر من دون ورقة، وحاول طيلة اللقاء أن يجعل وجهه خالياً من تعبيرات الاستياء التي خرجت بين ثنايا حديثه.

(3) اختيار الكلمات بعناية:

من أهم الرسائل التي وصلت للمشاهد، بدون قصد من النائب أحمد الطنطاوي، هو أنه لا يشعر بالاطمئنان حيال نتائج كلماته، فبات يتعسف في إضافة صفات للمؤسسات التي يتحدث عنها، مثل القوات المسلحة التي وصفها بالباسلة والعظيمة في مرتين خلال حديثه؛ بالرغم من أن حديثه كان يحمل مضمونا نقديا؛ مثل إشارته “الدور الاقتصادي للقوات المسلحة العظيمة”، و”افتتاح مصنعين للقوات المسلحة الباسلة”، وهي محاولة لتوصيل رسالة مفادها التقدير حتى في حالة النقد، وهو ما يحمل إشارة غير مقصودة إلى أن خلو حديثه من هذه الصفات ربما يؤدي لتحميل كلامه أكثر مما يحتمل من النقد.

ولا تحمل الإشارة إلى تنميقه حديثه في هذه التدوينة أكثر من دلالة خوفه على الوضع القانوني للمؤسسة التشريعية المصرية التي قد تستباح إذا ما فتح الباب لاستباحتها مرة بسبب تدوينات التي يجريها.

(4) عدم ثقته في فاعلية ندائه:

حملت تدوينة الفيديو التي بثها النائب حالة من عدم الثقة في تداعيات تدوينته، وذلك من جهة إنتاجها لأثرها. حيث أشار في الفيديو إلى ما سبق أن وجهه لرأس سلطة 3 يوليو من دعوتين لإقامة حوار وطني؛ بما يمكن رأس السلطة من سماع صوت آخر؛ ورأي آخر، وهو ما نفى حدوثه بقدر ما تنفيه ملاحظة تدفق الوقائع في المشهد السياسي المصري. كما أبدى عدم ثقته في مبادرة مجلس النواب للتعاطي الإيجابي مع ندائه، بالإشارة إلى ما سبق من صدور قرارات بتأسيس لجان تحقيق أو لجان خاصة، لكنها لم تتأسس برغم صدور قرار التأسيس، وإشارته إلى تأسيس بعضها بالفعل تحت ضغوط؛ مع إشارته لعدم فاعليتها، وإشارته للجنة تقصي الحقائق فيما يتعلق بفساد صفقات القمح، والتي أشار لنتائجها الإيجابية التي لم تفضي إلا لتغيير في الأشخاص دون تغيير النتائج.

(5) الحلم بتكرار تجارب تاريخية

ما تقدم به النائب أحمد الطنطاوي هو نداء يمثل صرخة منتمية إلى مصر، التي تمر بمتتالية أزمات تكشف عن عمق التصاق الدولة المصرية بمعايير الفشل التي باتت مستقرة عالميا من “غياب حكم القانون”، و”تقلص شرعية النظام السياسي”، و”عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي”، و”قصور الأمن الداخلي”، و”الحكم الاستبدادي والولاءء للعصبة الحاكمة”، و”ضعف النظام القضائي وتفاقم ظاهرة الإفلات من العقاب”، و”ضعف قدرة الدولة على السيطرة على إقليمها”، و”الانتهاك المتنامي لحقوق الإنسان”، و”تراجع التماسك الاجتماعي”، و”تراجع العملية التنموية”، و”الفساد وضعف المؤسسية”[11].

لا يحتاج المقام إلى مزيد تفصيل فقد صرح رأس سلطة 3 يوليو نفسه بأن مصر شبه دولة[12]، لكنه بدلا من أن يقوم ببناء هذه الدولة مجددا، بنى عاصمة في العلن وقصورا واستراحات في الخفاء، وعندما واجهه البعض بفعلته قال إنه يبني وسيبني[13]، لكنه لم يقل لماذا اختلت الأولويات، وتراجع المصري من صدارة الاهتمام إلى ذيله. غير أن هذه الصرخة نفسها ربما تعبر عن حلم بإمكانية حدوث تغيير من داخل النخبة الحاكمة نفسها، وهو ما له سوابق تاريخية.

ثمة نماذج كثيرة في التاريخ على أن تحولا ديمقراطيا قد حدث نتيجة قرار اتخذه عسكريون منتصرون، وليسوا مهزومين، أو منتجين لكوارث اجتماعية اقتصادية وسياسية لبلادهم. التاريخ الحديث يكشف عن نماذج مثل “جورج واشنطن” الذي رفض مساع من مؤيديه ليصبح المفوض العام (الرئيس) لبلاده، وفضل القيام بإجراءات أنتجت دستورا ديمقراطيا للولايات المتحدة، وانتخب إثرها رئيسا، ثم أشرف على الانتقال السلمي للسلطة لخليفته “جون آدامز”.

وبالانتقال للتاريخ المعاصر، نجد أن الجنرال جوتيريش ميلادو قاد حركة تحول إسبانيا في السببعينيات من ميراث الجنرال فرانكو الفاشي إلى النموذج الديمقراطي الذي تشهده إسبانيا الآن. كما أنه في الثمانينات، قاد الجنرال بريم ينسولانوندا رئيس وزراء تايلند تحول بلاده نحو الديمقراطية، وتنازل طواعية لخليفته المنتخب شعبيا.

كما رفض الجنرال فيدل راموس رئيس الفلبين عروضا من المؤسسة العسكرية ومن مؤيديه بإعلان الاحكام العرفية أو تغيير الدستور، ولم يحاول الاستمرار في المنصب بعد انتهاء فترة ولايته. وفي التسعينيات، قام وزير الدفاع المجري الجنرال الأعلى فيرينك فيج بقيادة بلاده خلال فترة التحول الديمقراطي.

وفي تشيلي، أسهم الجنرال خوان إيميليو شيري بوضع حد لعهد الديكتاتور أوجستو بينوشيه عبر إصداره بيان 2004 الذي أكد التزام القوات المسلحة التشيلية بالعمل لدعم الثورة الديمقراطية التشيلية.

وفي 2011، رفض الجنرال رشيد عمار تنفيذ أوامر بفتح النار على المتظاهرين، وامتنع عن التدخل في العملية السياسية التونسية خلال الفترة الانتقالية حتى استقالته في 2013 بعد بلوغه سن التقاعد. هذا فضلا عن مرور أمريكا اللاتينية بفترة خضعت فيها القوات المسلحة للسلطة المدنية، وباشرت أدوارا أمنية لصالح السلطات المدنية[14].

الخبرات التاريخية تدعم نسبيا، وجهة نظر النائب أحمد الطنطاوي، ومنها مبادرات قريبة نسبيا وما زالت حاضرة في أذهان الجيل الراهن. غير أن القوى العالمية والإقليمية لعبت أدوارا أيضا في هذه التحولات، وهو ما تبدى عبر مداخل عديدة منها تنامي دور مؤسسات التمويل الدولية وبخاصة صندوق النقد والبنك الدوليين في دعم سياسات التحرير الاقتصادي والسياسي والتحول الديمقراطي في بلدان القارات الثلاث وشرق ووسط أوروبا، وذلك من خلال أدوات ووسائل عديدة لا يتسع المجال للخوض فيها.

كما أن تمدد دور المجتمع المدني العالمي متمثلا في المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان كان له دوره في نشر الديمقراطية على الصعيد العالمي، حيث تقوم منظماته بتقديم أشكال مختلفة من الدعم لمنظمات المجتمع المدني ومراقبة الانتخابات في البلدان التي تمر بمراحل الانتقال الديمقراطي، وفضح ممارسات النظم التسلطية وممارسة الضغوط عليها…إلخ.

أضف إلى ذلك أن انتشار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان على الصعيد العالمي وبخاصة في ظل موجة العولمة وثورة المعلومات والاتصالات التي تجتاح العالم قد أسهم في خلق بيئة دولية ملائمة لدعم الانتقال الديمقراطي في مناطق مختلفة من العالم. ولعب “تأثير الدومينو” كذلك دورا محفزا لعملية الانتقال الديمقراطي على الصعيد الإقليمي في بعض الحالات، حيث أن نجاح دولة ما في تأسيس نظام ديمقراطي مستقر يمكن أن يلقى بتأثيراته على الدول المجاورة لها.

كما شهدت بعض البلدان تطور مشروع الانتقال الديمقراطي من خلال الحرب والاحتلال الأجنبي على نحو ما حدث في كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية[15].

لكن الماثل في الأذهان كذلك أن الدعم الأمريكي غير المحدود لبينوشيه في تشيلي لم يؤد لنجاته، وألقي القبض عليه في المملكة المتحدة بعد تنحيه، وذلك بناء على مذكرة أصدرها قاض إسباني. نفس الوضع تكرر مع الشاه محمد رضا بهلوي في إيران في 1979، وتكرر كذلك مع المخلوع المصري “مبارك” في 2011.

وعلى النقيض، أدى تراجع القوى الدولية عن تقديم الدعم للأنظمة المستبدة لتحفيزها على الدخول في حوار مع القوى المعارضة فيها، كما حدث بين المملكة المتحدة والكويت في ثلاثينيات القرن الماضي، وإلى اليوم تعمل الديمقراطية النسبية في الكويت على حماية النظام الكويتي وتزويده بالشرعية[16]. كما أن التفاعلات بين القيادات العسكرية في الدول الديمقراطية مع نظيراتها في الدول الأوتوقراطية أنتجت علاقات اتصال أدت إلى إقناع قيادات عسكرية في الدول السلطوية بإنهاء حكم الفرد في هذه الدول.

(6) السؤالان المطروحان حيال المبادرة:

هل يبدي رأس سلطة 3 يوليو أي من علامات الاستعداد لتحقيق هكذا تنازل؟ وهل تلعب القوى العالمية والإقليمية حياله نفس الدور الضاغط؟

لا يبدو أن الإجابة على السؤال الأول مبشرة. ففي الخبرات التي قام فيها العسكريون بدعم تطلعات الشعوب حيال الديمقراطية والمساءلة وسيادة القانون، لم نلحظ بين هؤلاء العسكريين سوابق في الإعداد لفترة حكم طويلة، بل كما سبق وأشرنا، فإن بعض الحكام العسكريين، ومنهم الجنرال فيدل راموس رئيس الفلبين قد رفضوا عروضا بالمساندة حال إعلان الاحكام العرفية أو تغيير الدستور، ولكنهم رفضوا، وهو ما يبين أحد ملامح الفارق المتعلق بالدافعية لدى النخبة الحاكمة في مصر؛ وبخاصة رأس سلطة 3 يوليو، التي بلغ به الأمر حد تولية أبنائه مقاليد الأمور في الأجهزة السيادية ليضمن أكبر قدر من السيطرة على مقاليد السلطة في البلاد[17].

وبخلاف الحادثين، حادث تعديل الدستور، وحادث تقلد السيسي الابن القيادة الفعلية لجهاز المخابرات العامة في مصر، هناك مسالك كثيرة توضح الإصرار على التمسك بالسلطة، وعلى رأسها تغول القبضة الأمنية التي تجاوزت اعتقال السياسيين لحد تفتيش الهواتف المحمولة للمصريين في الشوارع عبر توقيفات عشوائية[18].

وعلى صعيد الموقف الدولي، لا يمكن تفهم موقف الاتحاد الأوروبي[19] أو موقف وزارة الخارجية الأمريكية[20] الناقدين للانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في مصر باعتبارها نوع من مساندة الرغبة الشعبية في “مقرطة” مصر، فهي في النهاية تقاليد مؤسسية تستمر بصرف النظر عن موقف الساسة من التعاطي معها، وهو ما دفع المراقبين العرب والمصريين لتغطيتها من دون تحميلها أكثر مما تحتمل. وفي نفس الإطار، لم يلبث الاتحاد الأوروبي أن أصدر كذلك بيانا يرحب فيه بتسلم مصر رئاسة “الشبكة الإفريقية لحقوق الإنسان”[21].

وعلى صعيد ثالث، لا يمكن التسليم بنزوع مطلق لدى العسكريين الغربيين بحث أقرانهم من العسكريين العرب والمصريين على احترام حقوق الإنسان ومساندة الطموحات الديمقراطية للمصريين، فمع انقلاب 3 يوليو في مصر، لاحظنا أن القيادات العسكرية الأمريكية، وعلى رأسها الجنرال “تشاك هيجل” كان على تواصل إيجابي مع قادة الانقلاب في مصر، وساندهم في التوجه الانقلابي على خلاف إرادة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهو التواصل والدعم الذي تم بترتيب ودعم “إسرائيليين[22].

خاتمة

النداء الذي وجهه النائب أحمد الطنطاوي لمجلس النواب المصري ورأس سلطة 3 يوليو في مصر يحمل شهادة على العصر، وجرأة في التضحية، نعم التضحية، بالنظر للوضع المصري المتفاقم في تجاهله للحالة الحقوقية، برغم ما تفتقده من القدرة على الفاعلية بسبب ضعف الندية السياسية برغم الندية القانونية الصادرة عن تمثيل النائب لقطاع من الشعب المصري انتخبه بنسبة معتبرة من الأصوات.

وفيما تعلن الأذرع الإعلامية لسلطة 3 يوليو أن المعارضة المصرية نائمة في الكهوف، وجدت المبادرة صدى لدى من يملكون حرية التعبير عن آرائهم، وهو ما أثار ردود فعل ساخطة بين أذرع سلطة 3 يوليو الإعلامية، فيما تتبقى معارضة الداخل تخشى عواقب التعبير عن مواقفها، فيما تحاول الحفاظ على كوادرها، وتتجه لدعم قوتها الذاتية؛ إن سمحت لها سلطة 3 يوليو بهذا التوجه نحو بناء الذات.


الهامش

[1] محسن سميكة، السيسي: مواد الدستور كُتبت بحسن نية.. والبلاد لا تُحكم بحسن النوايا، صحيفة “المصري اليوم“، 13-09-2015.

[2] محمد عبده حسنين، مقترح تعديل الدستور المصري يحظى بتأييد واسع داخل البرلمان، صحيفة “الشرق الأوسط“، 14 فبراير 2019.

[3] المحرر، مصر: البرلمان يوافق على تعديلات دستورية تتيح بقاء السيسي رئيسا حتى 2030، موقع قناة “فرانس 24″ العربية، 16 أبريل 2019.

[4] وكالات، الجريدة الرسمية تنشر دعوة “الوطنية للانتخابات” للناخبين للاستفتاء على التعديلات الدستورية، صحيفة “الصباح” الممصرية، 18 أبريل 2019.

[5] المحرر، بعد موافقة الشعب عليها.. ننشر مواد التعديلات الدستورية، موقع “مصراوي“، 23 أبريل 2019.

[6] المحرر، نائب مصري يقدم مبادرة للبرلمان تتضمن رؤية لإصلاح الأوضاع، مركز القلم ببأبحاث والدراسات (إعادة نشر عن موقع عربي 21)، 4 نوفمبر 2019.

[7] قناة النائب أحمد الطنطاوي، النائب أحمد الطنطاوي يطرح مبادرة إصلاحية من ١٢ محور رئيسي، موقع “يوتيوب“، 3 نوفمبر 2019.

[8] قناة النائب أحمد الطنطاوي، النائب أحمد الطنطاوي يتحدث عن مشكلة سد النهضة وحلولها، موقع “يوتيوب“، 18 أكتوبر 2019.

[9] قناة النائب أحمد الطنطاوي، النائب أحمد الطنطاوي يوجه نداء الفرصة الأخيرة، موقع “يوتيوب“، 21 أبريل 2019.

[10] المحرر، الرئيس السيسي يشهد افتتاح مصنعين تابعين لشركة النصر للكيماويات الوسيطة، الهيئة العامة للاستعلامات، 31 أكتوبر 2019.

[11]Mario Silva, Failed and Failing States: Causes and Conditions, Failed and Failing States: Causes and Conditions, Faculty of Law; Irish Centre for Human Rights; National University of Ireland Galway, 2012, Thesis submitted in fulfilment of the requirements for the degree of Doctor of Philosophy (Ph.D.).

[12] المحرر، شاهد.. السيسي: مصر “شبه دولة” ويجب أن تتحول إلى دولة حقيقية، 5 مايو 2016.

[13]قناة “صدى البلد”، صدى البلد – السيسي: «أنا بعمل قصور رئاسية وهعمل وكله باسم مصر، موقع “يوتيوب“، 14 سبتمبر 2019.

[14]عبد الله فيصل علام، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية: العلاقات المدنية – العسكرية في أمريكا اللاتينية، مجلة المستقبل العربي، عدد فبراير 2016.

[15]حسنين توفيق إبراهيم، الانتقال الديمقراطي: إطار نظري، مركز الجزيرة للدراسات، 14 فبراير 2013.

[16] Sean Yom, Helping Hurts; Why Supporting Dictators Can Doom Them, Foreign Affairs magazine, March 7, 2016.

[17]المحرر، من هو محمود السيسي الرجل الثاني الأقوى بمصر؟، موقع “عربي بوست“، 25 سبتمبر 2019.

[18]المحرر، مصر: المجلس القومي لحقوق الإنسان ينتقد تفتيش هواتف المواطنين بالقوة في الشارع، موقع قناة “فرانس 24“، 4 أكتوبر 2019.

[19]المحرر، مصر: البرلمان الأوروبي يطالب الدول الأعضاء ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بالتصدي لتدهور الوضع الحقوقي في مصر، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 24 أكتوبر 2019.

[20] المحرر، وزير الخارجية الأمريكي ” مايك بومبيو ” يعرب عن قلق واشنطن حيال حقوق الإنسان في مصر، موقع “الحدث العربي، 30 أكتوبر 2019.

[21] فاطمة عيد – أمنية فؤاد – صفوت سليم، الاتحاد الأوروبي يرحب بتسلم مصر رئاسة الشبكة الإفريقية لحقوق الإنسان، صحيفة “الوفد” المصرية، 5 نوفمبر 2019.

[22] فاطمة عيد – أمنية فؤاد – صفوت سليم، الاتحاد الأوروبي يرحب بتسلم مصر رئاسة الشبكة الإفريقية لحقوق الإنسان، صحيفة “الوفد” المصرية، 5 نوفمبر 2019.

ترسيخ الاستبداد: عسكرة الأحزاب السياسية في مصر

اقرأ ايضا ترسيخ الاستبداد: عسكرة الأحزاب السياسية في مصر

لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى
Close